تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



ثمرة المخيِّلة | الأمير كمال فرج


نظلم الشاعر كثيرا عندما نربط بين قصائده وحياته الشخصية، ونتتبّع مثل شرلوك هولمز ـ في نصوصه ـ الواقع بما يحمل من أسماء وأماكن، ونجمع الأدلة، ونظلم الروائي عندما نتعامل مع الرواية كسيرة ذاتية، ووثيقة تاريخية، وشهادة على العصر.

مع تسليمنا بدور البيئة في العمل الأدبي، إلا أن الأدب في الأساس هو ثمرة المخيلة، الموهبة القادرة على التخيل والابتكار والخلق والتغيير، وصناعة عوالم جديدة قد تدنو من الواقع وقد تبتعد، وقد تكون عوالم ليس لها وجود.

يؤمن البعض بالعلاقة السيكولوجية بين البيئة والعمل الأدبي، لذلك يتتبعون في النص الأدبي سمات شخصية سواء كانت اجتماعية ونفسية، ولكن هذا برأيي مغامرة، فالواقع الذي قد يظهر حينا ويغيب أحيانا أخرى في العمل الأدبي واقع معدل، خضع لسلطة الإبداع .. سلطة المخيلة .

قد يأخذ الشاعر مادته الأولية من الواقع، قد يستلهم هذا الواقع الغني بالعديد من المواقف والشخصيات والحكايات والتناقضات، وقد يعتمد كليا على الخيال، ولكن حتى هذا الواقع المستمد خضع للتعديل فأصبح هو الآخر خيالا، أو قل "واقعا متخيلا" أو "خيالا واقعيا" إن صح الاصطلاح .

حتى السيرة الذاتية، رغم الاعتراف الواضح بكونها سيرة وذاتية، ما دامت مرت بمرحلة الإبداع فقد خرجت من نطاق الواقع المجرد، وأصبحت على يد المبدع سيرة ذاتية أو غيرية أو مزيج بين الاثنين.

الشاعر يختلف عن المؤرخ، فبينما يحرص المؤرخون على تسجيل الوقائع والأحداث والأماكن كما هي دون زيادة أو نقصان ، يعمد الشاعر بما يملك من أدوات إلى تغيير هذا الواقع، قد يجمله ويزينه ، فيرفعه إلى مرتبة الأساطير، في حالة الحب، وقد يشوهه ويظهر نواقصه ومثالبه في حالة الكره، وهنا مكمن الإبداع، فإن الإبداع يكمن في المسافة الفاصل بين الواقع والخيال.

الخيال هو حجر الزاوية في العملية الإبداعية، وهو الذي يفرق بين القصيدة وتقرير الطقس، وبين الرواية والعمل الوثائقي، الخيال هو الفضاء الذي تنعقد من خلاله المقارنة بين عالمين شديدي الاختلاف، هو اللون الأسود الذي يكشف الألوان الأخرى. 

على سبيل المثال، أغنية "آه يا ليل يا قمر" التي كتبها عبدالرحمن الأبنودي، وغناها محمد رشدي، والتي تمثل تحولا في الأغنية الشعبية في زمنها، كان لها قصة .

كلنا يسمع الأغنية التي يقول فيها الشاعر :

"آه يا ليل يا قمر والمنجه طابت ع الشجر ..
اسقيني يا شابه .. وناوليني حبة ميه ..
اسم النبي حارسك .. اسمك ايه ردي عليا ..
عدويه ..
اه يا عدويه ..
اوعوا تحلوا المراكب .. والله يا ناس مراكب ..
ولا حاطت رجلي في الميه .. الا ومعايا عدويه ..
عدويه .."

الكثيرون لا يعرفون من هي "عدويه" التي يتحدث عنها الشاعر؟ ، عدويه هي ملهمة العمل ، الذي يستمع للأغنية ومابها من عواطف وجماليات سيشكل في ذهنه صورة لهذه الفتاة شديدة الجمال التي أسرت الشاعر في لحظة، ذات الخدود "العنابي" ، والعيون "السنجابي" ورموشها "شط" كما تقول الأغنية .

ولكن الحقيقة التي لايعرفها الكثيرون أن "عدويه" هذه هي خادمة صغيرة في منزل الملحن عبدالعظيم عبدالحق، وقصة الأغنية بدأت عندما اجتمع الأبنودي والملحن بليغ حمدي في منزل الملحن عبدالحق ذات يوم، وعندما دخلت الفتاة الصغيرة البسيطة تقدم للضيوف الشاي، سألها البنودي ما اسمك ساشبابه؟ ، فقالت "عدويه" .

عندها قال الأبنودي  "والله لأعمل ليكي أغنية"، وألهمت الخادمة الصغيرة متواضعة الحال التي تعمل خادمة مخيلة المبدع الكبير الأبنودي، فكتب رائعته "عدويه".

وللحكاية بقية . عندما عرض الأبنودي كلمات الأغنية على الملحن عبدالعظيم عبدالحق  ليلحنها، ظلت الأغنية عنده أكثر من عامين، وكلما سأل الأبنودي عن اللحن، رد الملحن، بأنه لا يستطيع ، لأنه كلما تذكر أن هذه الكلمات الجميلة مكتوبة في "عدويه" الخادمة، توقف ولم يقتنع.

فاضطر الأبنودي أخيرا إلى سحب الأغنية، وأعطاها لبليغ حمدي الذي تحمس لها، وأعد لها لحنا بديعا، وغناها محمد رشدي ، فنجحت الأغنية وعمت شهرتها الآفاق.

ويروي الشاعر الدكتور خيري السلكاوي قصة واقعية حدثت عام  1958، ويقول "في أواخر الخمسينيات الميلادية فرض الرئيس جمال عبدالناصر ضرائب على أصحاب سيارات الأجرة، وذات يوم ركب الشاعر الغنائي عبدالمنعم السباعي سيارة أجرة، ولاحظ تذمر السائق ، فسأله عن السبب فكان جوابه له يشكو الوضع "أروح لمين واقول يا مين ينصفني منك، ما هو انت فرحي وانت جرحي .. وكله منك ...أروح لمين !"، يقصد جمال عبدالناصر، فطلب منه الشاعر أن يقف جانباً ويردد ما سمعه منه مراراً .. فكان مطلع أغنية أروح لمين ، التي أكملها السباعي ولحنها السنباطي، وكان سائق التاكسي في الصف الأول في حفلة أم كلثوم التي غنت الأغنية"، فمن يصدق أن أغنية أم كلثوم العاطفية في الأساس شكوى بسبب فرض الضرائب على أصحاب سيارات الأجرة؟

ولكن المشكلة أن كثيرين يربطون بين الإبداع والحياة الشخصية، ويعتبرون الكاتب هو البطل الحقيقي للعمل، وهذا سوء فهم كبير، لا يدرك هؤلاء أن المبدع من الممكن أن يتخيل، بل أن عليه أن يضيف الخيال إلى الواقع، وأن الخيال ضرورة فنية.

وكان لسوء الفهم هذا ضحايا كثر، ومنهم الروائية الإماراتية  فتحية النمر التي أحرقتت 900 رسالة أدبية من أصل 1000، خوفا من الربط بين هذه الرسائل الحميمية وحياتها الشخصية، رغم أن كل هذه الرسائل متخيلة.

ويخطيء المرء إذا اعتقد أن الخيال شيئًا مختلقا، يقول الروائي خيري شلبي "الخيال لا يعني تأليف شيء من العدم، أو تخيل عالم بأكمله من الفراغ، إنما الخيال هو عمق الإحساس بالتجربة، سواء عاشها المرء بنفسه، أو عايشها عن قرب".

والمبدع يتأثر بالبيئة، لا ننكر ذلك، ولكنه يتأثر أيضا بالقراءة والتعليم والتجارب والمواقف والمشاهدات، قد يتأثر بتجارب الآخرين، ويتقمص الشخصيات والحيوانات والأماكن والظواهر والحالات، ويستشرف المستقبل، لذلك ليس من الصواب التعامل مع النص الإبداعي كنشرة اجتماعية.

في بعض الحالات يمكن أن يشي النص الإبداعي بملامح من الحياة الشخصية لصاحبه، ومن أمثلة ذلك المعلقات السبع أو العشر، والتي ذكر فيها كل شاعر اسم محبوبته وتغزل بها، ووقف على أطلالها، فكتب عنترة بن شداد في "عبلة"، وكتب طرفة بن العبد في "خولة"، وكتب زهير بن أبي سلمى في "أم أوفى"، وكتب الأعشى في "أم خليد"، وكتب النابغة الذبياني في "ميّه"، وكتب الحارث بن حلّزة في "أسماء".

وهناك شعراء عكست قصائدهم ملامح من الحياة التي عاشوها، مثل عبدالحميد الديب الذي لقب بـ "شاعر البؤس"، وكان شعره يضج بالفقر وتسيطر عليه النظرة السوداوية، وهو القائل "وهـام بـي الأسى والبؤس حتى.. كأني عـبلة والبؤس عـنتر".

رغم ذلك، لا يمكن التعامل مع هذه النصوص كشاهد اجتماعي، لأن هذا الواقع البائس الذي تحول على يد الشعر، قد يكون أقل بؤسا، وقد يكون أكثر بؤسا، ومعرفة الحقيقة تستلزم بحثاً اجتماعياً.

إذن فتأثير البيئة ليس قاعدة، فالشاعر يجب أن يعبر على بيئات لم يعشها، ولعل أحد الأدلة على ذك أمير الشعراء أحمد شوقي لك، والذي عاش حياة رغدة مع جدته في قصر الخديوي اسماعيل، ولكنه عبر بصدق على كافة الفئات الاجتماعية.

من الصعب توثيق الإبداع، ومنحه ختم "طبق الأصل" ، فذلك يشبه محاولة الإمساك بعصفور، فقد يصنع الشاعر واقعا مختلفا، قد يختلق الأسماء والمواقف والتجارب، قال الشاعر "خلقتُ في غزلي الأسماءَ كاذبةَ".

في أعمال الشاعر أسماء، وتختفي أسماء، وقد تظهر وقد قلت قديما :

"يسألني القراء حيارى
عن ملهمة الشعر مرارا
عن سرّ الأسماء الحرّى
في شعري عن "ليلى" .. "يارا"
هذي الأسماء حبيباتي
يسلبن الألباب عذارى
لكن أنا ملهمتي الكبرى
سر يلتحف الأسرارا
وسيبقى دوما في صدري
عصفورا يخشى الأمطارا"

لذلك كانت عملية البحث عن الواقع في النص الأدبي مضيعة للوقت .

في المجتمع يتعامل الناس مع القصيدة كحقيقة مسلم بها، فيحاسبون الشاعر على كل شاردة وواردة، ويرصدون المواقف والأسماء، ويعتبرون القصيدة تجسيدا للسلوك الشخصي للشاعر،  وفي علم الاجتماع يعتبر الخبراء النص خير تعبير عن البيئة، وفي علم النفس بالغ البعض وزعم أن العمل الإبداعي مثل اللوحة التشكيلية يكشف الحالة النفسية، أما في النقد الأدبي فتعامل النقاد مع النص الإبداعي كمرآة نفسية، وأكدوا أن المعاناة شرط التجربة الإبداعية الصادقة، وهذا كله أشياء مجازية، لأن العملية الإبداعية في الأساس عملية تخيلية، ولو لم تكن كذلك لما وصفت بالإبداع.

لقد استغرقت قضية الذاتية والغيرية الكثير من النقاش في حياتنا الأدبية، حتى أصبحت قضية مبتذلة، وأصبح السؤال حول علاقة الكتابة بالذات السؤال الأشهر في أسئلة الحوارات الصحفية. وأول سؤال يواجه به كل كاتب.
العلاقة بين الإبداع والواقع علاقة ملتبسة، حيث يعتبر الكثيرون أن الإبداع تعبير عن الواقع، حتى من يعترفون بالخيال في النص الأدبي، يتطرفون، ويدعون أن "أجمل الشعر أكذبه"، حتى على مستوى المبدعين، يجهل البعض الفرق بين الإبداع والواقع، القصيدة والتقرير الاقتصادي، اللغة الشاعرة واللغة الدارجة.
في ضوء ذلك، يجب إعادة التعريف بالقصيدة، والإبداع الفني، وطرق تناوله، ليس على مستوى البرج العاجي للنقد، ولكن على مستوى الأرض، من خلال ورش تعليمية على غرار ورش تعليم الرسم والفن التشكيلي ، يتعرف فيها الناشئة والمحترفون على ماهية الإبداع.

تاريخ الإضافة: 2024-01-21 تعليق: 0 عدد المشاهدات :341
2      0
التعليقات

إستطلاع

هل سينجح العالم في احتواء فيروس كورونا ؟
 نعم
68%
 لا
21%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات