بعد مكالمة هاتفية مع المستشارة سمية سعد القائمة بأعمال السفير في السفارة المصرية بكوبنهاجن، حددت موعداً لزيارتها. في اليوم المحدد توجهت إلى هناك، كان الموعد في الواحدة والنصف. تأملت عنوان السفارة المكتوب معي .. Embassy of the Arab Republic of Egypt Kristianiagad 19,2100 o Copenhagen, Denmark لم يكن الوصول لمبنى السفارة سهلاً، فقد استلزم الأمر السؤال أكثر من مرة، دون جدوى، وبعد بحث وجدنا السفارة الأمريكية، فأوقفنا السيارة، وتوجهت مرتجلاً إلى رجل أمن يقف على بابها ، وسألته عن السفارة المصرية، فأخبرني أنه لا يعرف، ولكنه حاول مساعدتي، وبواسطة جهاز اللاسلكي الذي يحمله اتصل بشخص في الداخل، ولكن كانت النتيجة سلبية، وعندما أخبرته أنني أعلم أنها قريبة من السفارة الإنجليزية، أشار بالإيجاب، ووصف لي موقع السفارة الإنجليزية. بعد عناء وصلنا إلى السفارة الإنجليزية، وأخذنا نسأل دون جدوى. الشوارع خالية ولا يوجد من نسأله. وجدت مدرسة أطفال سورها منخفض فتوجهت إليها وسألت إحدى المدرسات فأخبرتني أنها في الشارع التالي .. فتنفست الصعداء وانطلقت، وبعد دقائق وقعت عيني على مبنى السفارة المصرية. تقع السفارة في أحد الشوارع الهادئة، شارع لا تسمع فيه "صريخ ابن يومين" حسب التشبيه العامي الطريف رغم عدم معرفتي بمعناه، وهل هو سريخ أو صريخ؟، المهم المنطقة راقية، وبها عدد من السفارات. والمبنى عبارة عن فيلا كبيرة مبنية على الطراز الكلاسيكي القديم، وهو بلا حراس بعكس ما نراه في السفارات والقنصليات في مصر والعالم، وبعكس ما رأيت منذ قليل في السفارة الأمريكية. على يمين الباب لافتة نحاسية عليها عبارة باللغة العربية هي (سفارة جمهورية مصر العربية)، وعلى اليسار لافتة نحاسية أخرى مكتوب عليها EMBASSY OF THE Arab Republic of Egypt ، وتحتها لافتة صغيرة عليها رقم 19. تنقسم الفيلا إلى طابقين كبيرين، كل طابق به عدد من النوافذ التقليدية الكبيرة، إضافةً إلى شرفة واحدة أنيقة، عدا دور ثالث هرمي الشكل، وذلك مثل الفيلات المبنية على الطراز الغربي، وفي الفيلا حديقة صغيرة مزروعة ببعض النباتات الخضراء، أمام المبنى صاريان طويلان، الصاري الأول لا يوجد شيء معلق به، أما الثاني فمعلق عليه علم مصري جميل. خفق قلبي بشدة، كان العلم مرتفعاً كعادته، باسقاً كنخلة ترتفع في كبرياء، تهزها الريح فتميل يميناً ويساراً، لكنها لا تنكسر، وسرت في الجسد قشعريرة كتلك التي يشعر بها المغترب الذي يلاقي وطنه بعد طول غياب، خيل لي أن هذا الصاري مغروس في القلب. تهادى إلى مسمعي صوت شادية وهي تغني .. يا حبيبتي يا مصر .. يا مصر يا أحلى البلاد يا بلادي .. تداعت في ذهني آلاف الصور كتلك التي تتراءى لمحموم، إيه يا مصر .. يا أم الدنيا، مر عليك القراصنة، والتتار، والهكسوس، والمغول، والصليبيون، والزنادقة، وسماسرة الانفتاح، والقطط السمان، وأولاد الحرام، مروا عليك، ودنسوا ترابك الزعفراني الطاهر، ولكنك الآن باقية كالدهر، وهم الآن عظام وهياكل في ترابك، رحل الغزاة، ومازالت باقية كالوشك، مورقة كالحلم، صافية كاللبن الحليب. على الباب الخارجي زر وجهاز "ديكتافون"، بمجرد أن ضغطت عليه سمعت صوت مصري يقول "أفندم"، عرفته بنفسي وأخبرته أن هناك موعداً مع المستشار سمية فانفتح الباب، ودخلت، المبنى يخيم عليه الهدوء، بعد درجات قليلة صعوداً دلفت إلى باب السفارة يساراً، لمحت على اليسار سيدة دنماركية يبدو أنها تعمل في السكرتارية، سألت عن مكتب المستشارة، فقيل لي في الدور الثاني، اصطحبني أحد موظفي السفارة مرحباً .. بالفراسة عرفت أنه مسئول الأمن بالسفارة، رغم أنه يرتدي الملابس المدنية. وسرعان ما كنت وجهاً لوجه مع المستشار سمية سعد القائمة بأعمال السفير .. فتاة رصينة محجبة، ترتدي زياً محتشماً مثلها مثل غالبية المصريات، آنسة لم تتزوج بعد، نهضت المستشارة من مكتبها، واستقبلتنا بترحاب، ثم عادت إلى مكتبها الرسمي الوثير، عبرت لها في البداية عن شكري على الاستقبال الجميل الذي قاموا به، وهذه الحفاوة التي نلقاها منهم حتى الآن، وأبديت أيضاً سعادتي لوجود فتاة مصرية في مثل هذا المنصب، مما يؤكد أن المرأة المصرية أخذت حقها، واستطاعت أن تثبت جدارتها، وضربت مثلاً لسيدات بارزات في الميدان الدبلوماسي مثل السفيرة السابقة ووزيرة الشؤون الاجتماعية لاحقا مشيرة خطاب، والدكتورة ميرفت التلاوي وزيرة التأمينات الاجتماعية السابقة ورئيس المجلس القومي للمرأة حالياً. والمستشارة سمية متحدثة لبقة، واعترف أن الصورة التي رسمتها لها عند حديثي معها في الهاتف تغيرت تماماً، ربما لأن المنصب الرسمي غالباً ما يفرض أسلوباً معيناً، ولكن عند مقابلتها اكتشفت أن الصورة مغايرة، وأن الآنسة المصرية الرصينة نموذج مشرف للدبلوماسيات المصريات .. حدثتني المستشارة سمية عن السفارة وعن جهودها في خدمة المصريين والأجانب، وكان حديثاً ودوداً. سألتها عن وجود مكتبة في السفارة فأجابت بالإيجاب، فأهديتها نسخاً من إصداراتي، وأيضاً المجلات التي أعمل بها فقبلتها ممتنة. قالت المستشار سمية : "محسن بك وصى عليك كثيراً"، فقد أرسل لنا (فاكساً) يطلب منا تسهيل مهمتك، أيضاً اتصل هاتفياً للتأكيد على ذلك. ومحسن بك أو السفير محسن كما نحب أن نلقبه، هو السفير محسن بهاء الدين كامل قنصل عام مصر في جدة، وهو الشقيق الأصغر لمعالي الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم الحالي، وهو أحد دبلوماسيينا الكبار الذين يعون جيداً دور الدبلوماسي، وقبل أن يكون سفيراً كان في الأصل أديباً مبدعاً يكتب القصة القصيرة باقتدار، بأسلوب فني يلج أعماق النفس الإنسانية. وللسفير محسن أعمال عدة تنشر في مختلف الدوريات العربية، إضافة إلى مجموعة قصصية عنوانها (الطيران بلا جسد) صادرة عن الهيئة العامة للكتاب، وقد حصلت هذه المجموعة على جائزة أفضل مجموعة قصصية عام 1999، وعندما تجتمع حرفة الدبلوماسية مع حرفة الأدب فإن النتاج سيكون عظيماً، انظر مثلاً إلى نزار قباني الذي جمع بين العمل الدبلوماسي والشعر، وأفادته أسفاره في أعماله الشعرية. أنظر أيضا للشاعر السعودي الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي أفاده العمل الدبلوماسي كثيرا، وقد تقلد لاحقا منصب وزير الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية. سألت المستشارة عن الملحق الثقافي بالسفارة، فأخبرني أنه لا يوجد ملحق ثقافي، فاستغربت ذلك لأنني أعلم أن كل سفارة موجود بها ملحق ثقافي وتعليمية وعسكري أيضاً، وعندما لاحظت دهشتي أردفت قائلة "يوجد ملحق ثقافي بسفارة مصر في برلين والدنمارك تقع ضمن اختصاصه". من المهم والبديهي وجود ملحق ثقافي بسفاراتنا المصرية يعمل علي مد الجسور مع هذه الشعوب والتعريف بتراثنا وتقاليدنا وأدبنا المصري ولكن يبدو أننا حتى الآن ليس لدينا استراتجيه اختراق الآخر، مازلنا قابعين في الشرنقة، ولكن يبدو ماذا سنفعل في زمن "العولمة" والذي لا مكان فيه إلا للقوي والمنفتح والقادر علي التكيف مع (الطقس العالمي)، ماذا سيفعل أبناؤنا وهم لا يزالون قابعين في زمن الكتكوت، بينما العالم وصل إلي زمن الإنترنت والاستنساخ والبصمة الوراثية ..؟ سفاراتنا في الخارج يجب أن تكون مصدراً للإشعاع الثقافي والحضاري، ومصدراً لنقل التكنولوجيا والاستفادة من الآخر فكريا واقتصادياً، بل وعسكرياً. مصدراً لا يهدأ للترويج السياحي، والتعريف بثقافة مصر وحضارتها ومواقفها الوطنية، وموقعها في هذا العالم الكبير، يجب أن تكون سفاراتنا خلايا نحل لجلب الاستثمارات، ودعوة الوفود، وعمل "بيزنس" رسمي حقيقي من أجل مصر. وإلا قل لي كيف سنتطور .. إن الأمم لا تتطور ولا تنمو ولا تزدهر إلا بالاحتكاك بالآخر، وكما يقول المثل "من جاور السعيد يسعد"، يجب أن تتزاوج الحضارات، معظم الحضارات العظيمة لم تقم صدفة، ولكن نشأت باحتكاكها بحضارات أخرى، على سبيل المثال الحضارة الرومانية تطورت بفعل تأثرها بالحضارة اليونانية، ونحن في مصر لولا الحملة الفرنسية ما عرفنا المطبعة ولا الصحف، ولا طرق الحرب الحديثة، ولا العلاجات المتقدمة، ومحمد علي التركي أو الشركسي هو الذي أنشأ جيشاً قوياً لمصر، هو الذي أنشأ مطبعة بولاق التي يرجع الفضل لها في النهضة الثقافية المصرية الحديثة، وعدد من المشروعات الحديثة، والكثير من علماء الإسلام كانوا من الفرس، كذلك في الطب والعلوم وغيرهما .. إن الحضارات المزدهرة ببساطة هي في الأساس محصلة لتأثير حضاري كبير. أعادتني المستشارة إلى أرض الواقع عندما سألتني عن الهدف من زيارتي للدنمارك؟، فأجبتها بأن الهدف من الزيارة صحفي وترفيهي، والتعرف على المعالم الحضارية والثقافية في هذا البلد، إن معرفة الآخر شيء مهم للصحفي والكاتب، فلا يصح أن يكون الكاتب مثل جهاز (الفاكس) مجرد متلقٍ للمعلومات مثله مثل أي شخص .. يجب أن يتحرك الكاتب، ويكون صانعاً للأحداث، تماماً مثل وكيل النيابة الذي ينتقل إلى موقع الحدث، ويستجوب الجميع، ويعاين المكان، ثم يكتب تقريره، وتحليليه للجريمة. بمجرد وصولي المطار سألت عن سعادة السفير الدكتور محمد شعبان، فعلمت أنه غادر لتوه إلى القاهرة، وأوصى بعمل اللازم لاستقبالي، وتسهيل مهمتي، ولكنني أسفت عندما علمت أنه صدرت له الأوامر بالانتقال إلى القاهرة في منصب جديد، وأن التكهنات مازالت قائمة حول اسم السفير الجديد، ويتوقع البعض أن تشغل هذا المنصب امرأة. في حديث مع الشاب المصري الذي جلس بجواري في الطائرة، وهو حاصل على الجنسية الدنماركية، أشاد لي بالسفير محمد شعبان، وأخبرني أنه سفير غير عادي لا يتوانى عن بذل الجهد لرعاية المصريين مهما كلفه ذلك، وروى لي حكاية تناولتها الصحف الدنماركية لا أعرف مدى صحتها تتلخص في أن أحد الدنماركيين زار مصر، وتعرف على إحدى الأسر القروية البسيطة، وكان طفلها يعاني من مرض معين، فتطوع الرجل الدنماركي، وعرض على الأسرة المساعدة، وعرض عليهم سفر الطفل معه على نفقته إلى الدنمارك للعلاج هناك، فوافقت الأسرة البسيطة، وسافر الطفل، وقضى وقتا هناك، ولكن بالصدفة اكتشف المسئولون أن هذا الرجل يستغل الطفل جسدياً، بل ويحصل على إعانة من الدولة كذلك، فتفجرت القضية، وتناولتها وسائل الإعلام، وحكمت الأجهزة المختصة بعودة الطفل إلى مصر، ولكن السفير محمد شعبان أصر على عدم سفر الطفل دون علاج، وبالفعل تم علاج الطفل على نفقة الدولة الدنماركية، وسافر عائداً إلى وطنه. وبغض النظر عن هذه القصة حقيقية أم محرّفة أم غير حقيقية، كان الانطباع الذي أخذته عن السفير محمد شعبان جيداً، رغم أنني لم أقابله، لذا أسفت لنقله إلى القاهرة رغم مرور عامين فقط على عمله سفيراً بالدنمارك، وتساءلت في نفسي .. لماذا الدبلوماسيون الأكفاء ينقلون بسرعة؟، فيما بعد علمت أنه تم ترفيعه ليكون مساعداً لوزير الخارجية. في السفارة المصرية سألت القائمة بأعمال السفير عن وجود مترجم يمكنني الاستعانة به، فأجابت بالنفي، أخبرتني أنها حتى في أعمالها تعاني من هذه النقطة، حيث لا يوجد أحد يترجم رسائلها، إنها عقبــة الإمكانيـات، العقبة الكؤود الشهيرة التي يتحكم عليها كل عمل خلاق مؤثر. سألتها عن إمكانية قيامهم بمساعدتي في محاولة تحديد موعد مع جلالة الملكة مارجريت الثانية ملكة البلاد، وذلك بتوجيه خطاب من السفارة لجلالتها ألتمس فيه تحديد موعد لمقابلة صحفية، أخبرتني بأن ذلك يستلزم رفع الأمر أولاً إلى وزارة الخارجية المصرية للموافقة، وأخبرتني أن مثل هذه الموضوعات تعرض على السيد الوزير شخصياً، وطلبت مني أن أكتب طلباً بذلك لكي يرسلونه (بالفاكس) للقاهرة لأخذ الموافقة. استشعرت صعوبة الأمر، خاصةً وأن فترة إقامتي محدودة، وأن لي تجربة سابقة مع وزارة الخارجية المصرية تؤكد أن (حبالهم طويلة) بعض الشيء، وأحياناً لا توجد حبال لهم أصلاً، فقد أرسلت للوزير عمرو موسى – عندما كان وزيراً للخارجية. طلباً لتحديد موعد لإجراء حديث صحفي معه، وكان ذلك عن طريق القنصلية المصرية بجدة، ولم يصلني أي رد سواء بالقبول أو الاعتذار. لم أتحمس لهذه الخطوة لأسباب عدة، منها أن الصحفي يجب أن يكون مستقلاً، وإدخال السفارة في مثل هذا الموضوع قد يحد من هذا الاستقلال، وتساءلت في نفسي "ربما أكتب شيئاً يسبب حرجاً للسفارة"، خاصةً وأن العلاقات الدبلوماسية لها طبيعتها التي تتلخص في بعض الأحيان في عبارة "المشي جوار الحائط"، لذلك صرفت النظر عن الموضوع، وقررت المحاولة عن طريق آخر .. طلبت من المستشارة معلومات عن الجالية المصرية القنصلية، وما يتيسر من صور لبعض هذا النشاط، ولكنها أبدت اعتذارها الشديد، والسبب أنها يجب أن تستأذن القاهرة أولاً. بدت على ملامحي مظاهر الإحباط، فسألتها السؤال الأخير "هل يمكن التقاط بعض الصور للسفارة وموظفيها، فاعتذرت مرة أخرى بشدة، والسبب نفسه وهو ضرورة استئذان القاهرة. وانتهت المقابلة على وعد بزيارة أخرى، أثناء مغادرتي مبنى السفارة لاحظت أن عدد موظفي السفارة قليل، لا أدري هل هذه الحقيقة ؟، أم إن السبب أننا كنا خارج وقت العمل. قبل أن نغادر قمت بزيارة القسم القنصلي الذي يشرف عليه أشرف محمود .. استقبلنا بحفاوة. القسم عبارة عن حجرة كبيرة تقع أسفل المبنى تتصدرها صورة الرئيس محمد حسني مبارك يعلوها النسر الجمهوري، وتوجد صورة أخرى معلقة للملكة نفرتيتي، وعلى الطاولة بعض المطبوعات عن مصر. قبل أن نغادر، ورغم أن التصوير ممنوع، استطعت التقاط بعض الصور للسفارة من الداخل والخارج، وعذراً يا أهلي وعشيرتي، فالمهنة تحكم وميثاق العمل الصحفي يعطيني الحق في ذلك. بعد عودتي إلى مصر فيه وجهت رسالة إلى سفير مصر في الدنمارك، وطلبت منه معلومات مفصلة عن نشاط السفارة، وخدماتها، وإحصائيات عن المشكلات التي يعاني منها المصريون هناك، وغيرها من المعلومات التي تعين الكاتب، ولكن لم يصلني الرد، نفس الأمر حدث عندما أرسلت إلى الوزير أحمد ماهر وزير الخارجية حينئذ لم يصلني أي رد، نفس الأمر عندما أرسلت إلى اللواء إهاب علوي رئيس الهيئة العامة للتعبئة العامة والإحصاء !.. لم يصل أي رد.