السيارة اختراع جبار، وهي مثل كل وسائل النقل اختصرت الوقت والجهد والزمن ، لولاها لكنا لازلنا نستخدم ذوات الأربع في التنقل كالجمال، والحمير، والخيول .
عندما تعرف قيمة الشيء تصور عدم وجوده ، فتخيل عدم وجود السيارات ، ماذا سيحدث؟، سيربط كل مواطن أمام منزله حمارا لتنقله الخاص، والغني قليلا سيمتلك حصانا، أما النساء فيتجمعن ويتنقلن بهودج كبير يميل يمنة ويسرة فوق الجمل الذي يطلق من حين لآخر صوته المميز "عــــا"، أما في الحروب لن تكون مشكلة ، سيكون الوضع أشبه بالهجانة التي كانت موجودة في الستينيات ، ويوكل إليها حراسة الحدود، رجال مسلحون يركبون الجمال ويركضون بها في الصحراء.
أما الحكومة فستقدم توصيلات مدعومة، وتجهز مواقف حمير رسمية، ومن المؤكد أن النقل العام سيكون من الحمير ، ولأننا مولعون بالتمييز ، ستكون هناك حمير تعبانة، وحمير VIP ، تتميز ببردعة مريحة ، يركبها الشخص وكأنه جالس في أنتريه.
سيقابل الحوادث المرورية التي تحدث الآن حوادث من نوع آخر، مثل حوادث الرفس، والعض، والسقوط المتكرر من الحمار في حالة هيجانه .
أتذكر سوق الحمير في كفرالزيات الذي كان يقام كل أسبوع في ميدان عرابي القريب من وسط المدينة، والذي كان أشبه بمعرض السيارات الآن .. حمير من كل الأشكال والأنواع، ينقلها أصحابها من القرى المجاورة، وأيضا أتذكر حلاق الحمير الذي يخرج الحمار من دول من تحت أيديه إلى فاشن حمار ، وكذلك الصناعات التي كانت مرتبطة بالحمير مثل صناعة البردعة التي جاء منها لقب البرادعي.
الإنسان العربي القديم قدر الحصان والدابة والجمل ، وكتب عنها القصائد العظام ، ولازلنا نتذكر معلقة عنترة التي رصد فيها العلاقة بين الفارس وحصانه ، خاصة خلال المعارك ، يقول عنترة في معلقته : يدعون عنترَ والرماح كأنها .. أشطان بئرٍ في لبان الأدهم / مازلتُ أرميهم بثغرة نحره .. ولبانه حتى تسربل بالدم / فازورَّ من وقع القنا بلبانه .. وشكى إلىَّ بعبرةٍ وتحمحمِ / لو كان يدري ما المحاورة اشتكي .. ولكان لو علم الكلام مكلمي".
ولكن السيارة تعرضت لظلم تاريخي ، فبينما كان العربي في العصر الجاهلي يحتفي بالدابة، ويكتب عنها القصائد .. لم نسمع أحد في العصر الحديث كتب غزلا في سيارة .. سمعنا عن هوس البعض بسياراتهم والتي تتمثل في الإفراط في العناية بها، ولكن بالمقارنة سنكتشف الفارق الكبير بين العصرين .
أي نعم السيارة أنهت فضيلة المشي والحركة التي يعدها الجميع بركة ، وهو ما أصابنا بأمراض العصر كالضغط والسكر والسمنة ، إلا أن المشكلة ليست في السيارة ، ولكن في الانسان الذي يريد مخترعات تفعل له كل شيء، بينما هو لا يفعل شيئا .
أتذكر السيارات التي قدتها بدءا بالسيارة نصر سوبر ريجاتا التي آلت إلى صديقي شحاتة الشبعان ، ومازدا 323 الحمراء، وأخيرا جيب شيروكي سبورت 2003، "حمالة الأسية" ، لكل سيارة قصة، وتجارب وأحداث يمكن أن تروى في قصص وربما أعمال روائية نابضة بالأحداث والتجارب.
أتمنى أن تحظى السيارة بإعلام حقيقي يرصد بحرفية ومهنية أخبار وفعاليات هذا القطاع الحيوي والهام، أتمنى أن نقدم سيارة شعبية تكون في متناول الجميع، توازي الدور الذي فعلته سيارة "فيات" في مصر بالستينيات ، أتمنى وجود ثقافة السيارة التي تجمع قواعد السلامة، وآداب المرور، وسلوكيات الشارع، والمحتوى الإذاعي الذي يجمع بين الثقافة والترفيه، أتمنى دراسة تجربة التوكتوك ـ الحل الشعبي لمشكلة النقل ـ من النواحي الاجتماعية والاقتصادية.
إذا كان عبدالحي أديب قدم في الخمسينيات رائعته "باب الحديد " والتي أخرجها يوسف شاهين أدب القطارات ـ إن صح التعبير ـ ، فإننا ننتظر من يبدأ أدبا جديدا وهو أدب السيارات لرصد العديد من التجارب الإنسانية الغريبة والطريفة والمدهشة التي تدور داخل سيارة.