"اطلبوا العلم ولو في الصين" مقولة سائرة وردت في الكتب القديمة، وهدفها الحض على طلب العلم حتى ولو كانت المعرفة تستلزم المشاق والصعاب، وضرب القائل مثلا بالصين، فقد كانت بلاد الصين في الزمن القديم نهاية العالم.
تذكرت هذه المقولة وأنا على مقعد أول طائرة في رحلتي إلى جمهورية الصين أو تايوان، هذه الرحلة الطويلة المرهقة التي سافرت فيها في غضون 72 ساعة إلى 7 مدن وركبت 7 طائرات، ورغم التعب والمشقة والركض من طائرة لألحق بالأخرى، والنوم على أزيز الطائرات، إلا أنني سعيد، لأن هذه الرحلة أضافت إلى تجاربي الشخصية تجربة جديدة صعبة ومثيرة.
ولا أدري هل تنطبق عليّ مقولة "اطلبوا العلم ولو في الصين" .. لا أعتقد ذلك، فالرحلة التي قضيت فيها عدة ساعات في الطائرات وبوابات المطارات، كان القدماء يقضونها في عدة أشهر ، وبينما أنا استقليت طائرات عملاقة مجهزة بالمضيفات الجميلات والوجبات والمشروبات، تقطع آلاف الأميال في ساعات، كان الأجداد يركبون الدواب في رحلات برية مغبرة صعبة، محفوفة بالمخاطر، يطوون فيها الكثبان والمفاوز والأودية.
رغم التعب والمشقة أسعدتني هذه الرحلة ، لأنها تنفيذ للأمر الإلهي في سورة الحجرات (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير).
قربت التقنية المسافات، فأصبح التواصل يتم بالصوت والصورة بكبسة زر، وطوت الطائرات النفاثة القارات لتوصل بين أطراف العالم البعيد في ساعات ، لذلك لا ذنب لنا إن لم نتواصل ونتعارف ونسافر بحثا عن العلم والمعرفة .
في العاصمة التايوانية تايبيه شعرت أن نصف العالم لايعرف نصفه الآخر ، ورغم التقنية والانفتاح ووسائل المواصلات السريعة، لازالت هناك حالة من الجهل الدولي ـ إن صح التعبير ـ تسيطر على العالم ، ربما تكون السياسة السبب، وربما يكون السبب الإنغلاق الثقافي الذي يسيطر على بعض المجتمعات ، ومن بينها المجتمعات العربية التي تتوجس من الآخر.
المواطن العربي لا يعرف سوى أمريكا وأوروبا وروسيا وبعض دول شرق آسيا مثل ماليزيا وتايلند وسنغافورة، عدا ذلك هناك جهل تام بباقي الدول الـ 193.
قد نتفهم هذا الانفصال الدولي في عصر الشيوعية والإشتراكية، وجوازات السفر التي كان مدون بها دول يمنع السفر إليها، والحرب الباردة التي شقت العالم نصفين ، نصف مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه، والآخر مع أميركا وحلفائها، وهو الانفصال الذي انتهى بحروب عالمية مدمرة سقط فيها الملايين من البشر، ولكن الآن بعد انتهاء العداء السياسي لا أجد حجة لاستمرار هذه القطيعة الدولية والحضارية والثقافية بين الدول .
وإن كان من المؤسف استمرار العداء مع بعض الدول ، ومعظمها في أمريكا الشمالية، مثل كوريا الشمالية وكوبا وغيرهما، وإن كانت كوبا محظوظة، فقد رفعت أمريكا مؤخرا الحظر عنها والذي استمر 30 عاما، ولكن تبقى القطيعة نفسها دليل على غباء الإنسان الذي يقاطع دولا وحضارات بدوافع سياسية ضيقة .
في هونج كونج وتايوان والصين الجديدة ، رأيت شعوبا تعمل وتجتهد وتساهم في بناء العالم ، رأيت تجارب حضارية جميلة يجب أن تحتذى ، رأيت تجارب اقتصادية عملاقة يجب أن نتعلم منها ، وهنا يبرز دور القيادات السياسية لإدراك أن العالم ليس أوروبا وأمريكا فقط، ومد الجسور مع هذه الدول العظيمة في هذه البقاع البعيدة من العالم.