كل واحد في مصر يريد أن يشكل البلد على مزاجه، كل واحد أصبح فجأة خبيرا استراتيجيا وفقيها دستوريا، وسياسيا من الطراز الأول، ينظر ويتفلسف ويتحذلق، و"رأسه وألف سيف" وفق التعبير الشعبي، أن تكون "مصر" كما يعتقد هو ويتصور هو، تماما كما ورد في الكتالوج، سواء أكان هذا الكتالوج محليا أم أجنبيا، حقيقيا أم مزيفا، صوابا أم خطأ.
كل واحد منا يريد أن ينفذ الجميع رأيه، كالطفل الذي يتمسك بما يريد، ويثير الفوضى لتنفيذ رغباته، كل حركة سياسية في مصر تريد أن تشكل البلد على هواها، هذا يجذبها إلى أقصى اليمين، وذاك يجذبها إلى أقصى اليسار، حتى كادت أن تتمزق، حتى تخيلتها تقول "برفق يا أولادي".
هناك جهل بمعنى الديموقراطية التي تعني ببساطة الإذعان لرأي الأغلبية مع الحفاظ على حقوق الأقلية، لا ..، هناك جهل وغباء يدفعان الأغلبية لدهس الأقلية، والأقلية لتخوين الأغلبية. لا نرفض أن تدلي برأيك، لا نرفض أن تحلم وتشطح وتتخيل بلدك كما تريد، ولكن يجب أن تحترم الديموقراطية وتذعن لها.
ولكن ما يحدث الآن أن كل طرف متمسك برأيه، حتى لو كان هذا الطرف قلة قليلة لا تتعدى واحدا أو اثنين، ويبدو كل طرف مستعدا ـ بغباء ـ للحرب لفرض رأيه بالقوة، وهذا شيء ينذر بالخطر.
لقد أصاب النظام السابق الحركة السياسية بالعطب، فعانى منها التيار الشرعي وغير الشرعي، لذلك نفتقد جميعا إلى الكفاءات، والحس الوطني الذي يعلي مصالح الوطن على أي اعتبار. كل يبحث عن نفسه دونما اعتبار لمصالح الوطن العليا التي تستحق التضحية.
المتابع للواقع السياسي المصري بواقعية وحياد وتجرد سيكتشف أن التأييد الأكبر من نصيب التيارات الإسلامية، وذلك لا يرجع بالضرورة إلى منهجها السياسي، بقدر ما يرجع إلى تدين المصري، وانحيازه الفطري إلى كل ما هو ديني، وعندما يحين وقت الاختيار بين ما هو مسلم وغيره، سيصوت المصري "غالباً" للمسلم بغض النظر عن الجدارة، هذا هو الواقع .. حتى اللص المسلم عندما يخير بين ما هو مسلم وغير مسلم، سيختار المسلم.
وهذا الوضع اتفقنا معه أم عارضناه هو الواقع، وسوف يظل لفترة ليست قصيرة، سيظل المصريون يعبرون بعواطفهم عن رأيهم السياسي، وسيستمر ذلك، حتى تنضج التجربة السياسية المصرية، ويتعلم المصريون الديموقراطية، عندها سيتمكنون من اختيار الأكفأ والأصلح سواء أكان المرشح دينيا أم غير ديني.
وحتى تحين هذه المرحلة التي ربما تستغرق سنوات، يجب أن نتعامل مع الواقع كما هو، وهذا الواقع أرى أن ركائزه محاور هي:
1ـ احترام الرأي الآخر أساس الممارسة الديموقراطية الحقيقية.
2ـ ممارسة العمل السياسي بشرف دون تخوين، أو انتقاص من قدر الآخر، أو مصادرة رأيه.
3ـ الإيمان بمبدأ المشاركة، وأن حكم الفرد انتهى، وأن الساحة تتسع للجميع.
4ـ حينما يفوز الآخر، فإنها ليست نهاية العالم، وعلينا أن نذعن لرأي الأغلبية.
5ـ الممارسة الديموقراطية المشروعة هي الطريق الوحيد للتغيير.
الواقع السياسي المصري يشي حاليا بالكثير من الجهل وفي أقل الاحتمالات عدم الفهم لقضية الديموقراطية وسبل ممارستها، ولكن الأخطر وجود تيارات تستخدم سلاح التخوين والرفض والتشنج، حتى تلك التيارات الليبرالية التي من المفترض أنها تنادي بالحوار والانفتاح السياسي بعد سنوات طويلة من القمع.
بدأت الثورة المضادة تتسلح بكتاب وإعلاميين وفضائيات، وشرعت في ممارسة سياسة الترهيب والتخويف من التيارات المخالفة، وظهر أن هذه الثورة مصرة على التشويه. حتى لو لجأت أحيانا إلى الكذب.
أعادت الثورة المضادة توحيد صفوفها، وجمعوا عناصرهم الإعلامية المقيتة التي طردها اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري تحت ضغط الثوار، وأنشأوا قنوات وصحفا وكيانات سياسية تعبر عنهم، وهنا مكمن الخطورة.
ما يحدث في مصر الآن من انقسامات سياسية ليس بحد ذاته يشي بالخطر، لأن التعددية شيء إيجابي، ولكن الخطر يكمن في عملية التخوين التي تتم دون سند من الحقيقة، وتفجر الكثير من المخاوف.
ولمواجهة هذه المخاوف يجب التوعية بمفهوم الديموقراطية، والإقصاء المشروع للتيارات السياسية والإعلامية المتطرفة، وإشاعة مفهوم أساسي وهو "المواطنة أولا".