الدكتورة أمانى الجندي.
صندوق الدنيا يجيء ضمن مظاهر الفرجة الشعبية ذات الجذور الدرامية وهو تجاوز لحد كبير .. فلا موضوع يربط بين الصور، ولاحبكة ولا صراع، حتى عناصر الدراما الشعبية من تقليد وارتجال ومحاكاة وغناء.... الخ. مفتقدة هي الأخرى في أداء لاعب الصندوق، فهو يعكس ما في راوي السيرة الشعبية أو "الحكواتى" مثلا والذي يكاد يكون ممثلا فردا يستعين بالتنوع الصوتي والحركة والإيماءة في تجسيد شخصيات السيرة أو الحكاية التي يرويها.
تعتمد دراما صندوق الدنيا أساسا على الصور المتحركة التي نراها خلف العدسات المتعددة وعلى الراوى صاحب الصندوق. الوسيط الفنى هنا هو العدسة التي تعرض القصص المصورة أى عن طريق الصور وبالتدخل من جانب الراوى الذي يشرح ويعلق على الأحداث ويملأ الفجوات الفنية، فيتقدم بصوته الأحداث التي لا يمكن تصويرها عن طريق العدسات.
صندوق الدنيا
يتكون صندوق الدنيا من صندوق مفرغ من الخشب به عدد من العدسات يصل إلى خمس عدسات وبكرة تلف عليها الصور تدار باليد فتتحرك الصور خلال العدسات من العدسة إلى الأخرى. والعدسة مكبرة وموضحة الصورة.
يكون مع صاحب صندوق الدنيا (زمارة) ينفخ فيها داخل الحوارى والأزقة، ليلتف حوله الأطفال، ثم يلعب بالعروسة أو العروستين الموضوعتين على سطح الصندوق ليشد انتباه الأطفال ويجذبهم، وهو يضع الصندوق على حامل يمكن طيه وحمله على الظهر، ويطلق عليه في لغة أصحاب الصنعة (بينكا).
وقد يكون للصندوق محل "صغير" لا يحتوى إلا على الصندوق ذاته ودكه صغيرة واحدة يجلس فوقها المتفرجون ويضع اللاعب ستارة سميكة فوق رؤوسهم لتحجب النور الخارجي ويبدأ اللاعب في إدارة عمود الصور، ويستعان بإنارة داخلية عن طريق مصباح غازي صغير لينير ما بداخل الصندوق، وعلى فتحة الصندوق من الخارج توجد عروستان أو ثلاث من البلاستيك ترتدي ملابس شعبية يقوم اللاعب بتحريكها بواسطة سلك يتصل بها لجذب الجماهير وهو يضرب على البروجي قبل بدء العرض.
- أما الصور بداخل الصندوق فهي عادة لشخصيات شعبية من أبطال السير الشعبية خاصة أبطال السيرة الهلالية، أو الأماكن أو بنية مقدسة، وفي بعض الأحيان تكون صورا حديثة من مجلات أو جرائد يومية.
وصندوق الدنيا سهل الحمل ولا يحتاج إلى مكان خاص بالعرض. فهو يقدم في أي مكان يتوفر فيه الجمهور وكان يتنقل من مكان لآخر دون أن يتعرض لعسف الرقابة واللقطات ومن هنا فإن خصوصية وضع صندوق الدنيا جعلته يفلت دائما من أي مساءلة قانونية. ومعظم نصوص صندوق الدنيا متوارثة جيلا بعد جيل ولا يستبعد الإضافة أو الحذف أو التعديل بما يلائم التغيرات الاجتماعية أو مزاجية وثقافة الرواة.
سير الأبطال
كانت النصوص تصور حياة الشعب المصري وتعكس قضاياه ونفسيته، ولم يكن العرض يتجاوز دقائق قليلة. وكان صندوق الدنيا يمجد البطولة والفروسية من خلال عرض ورواية سير الأبطال الشعبية. ولا بد أن نلاحظ أن وجود صندوق الدنيا كان معاصرا للاحتلال الأجنبي. فكانت هذه السير مقاومة شعبية غير مباشرة لوجوده، وقد كانت تقوم على التعليم والتثقيف والرعاية والتحريض من مكان إلى مكان ولتتذكر أحداث السيرة الهلالية أو سيرة عنترة بن شداد لتقدر الدور السياسي الذي كان صندوق الدنيا يلعبه.
- وقصص صندوق الدنيا كلها بسيطة التركيب تقوم على السرد المصور الذي يبدو من خلال شريط الصور المعروضة، ويعد الراوي عنصرا مهما في العرض المقدم. فهو يروى ويسرح ويعلق ويدفع بالأحداث إلى ذروتها، وهو فوق كل هذا يمنح الشخصيات الحياة المؤقتة عن طريق صوته فهو يؤدى هنا دور "أبو زيد الهلالي" وهناك دور الجازية، فهو عن طريق حلوله في الشخصيات المصورة. ومن خلال التلوين الصوتي الأدائي. يبعث الحياة في الشخصيات لإقناع متفرجيه بما يحدث. ومن أهم وظائف الراوي، غير السرد والشرح أن يقوم بدور الرابط بين الأحداث والشخصيات فهو يقدم ما قد تعجز الصورة عن تقديمه.
وكان جمهور صندوق الدنيا يدفع ملاليم أو يقدم رغيف خبز، مقابل أن يتفرج على (أبو زيد الهلالي وعنترة والزير سالم وعلى صبايا الحمام أيضا).
- صندوق الدنيا يعرض كل شيء، فهو صندوق الدنيا أو صندوق العجائب كما يسمى في بعض البلاد العربية وكان صندوق الدنيا يتناول قصص الأنبياء وقصة الخلق وطرد آدم وحواء من الجنة وقصص الصديقين والأولياء والسير الشعبية وقصص الفرسان والأبطال وأبرز القصص التي صورها صندوق الدنيا سيرة أبو زيد الهلالي.
- ومن القصص الاجتماعية طاعة الوالدين وطاعة الزوجة لزوجها وكان يقدم أيضا بعض الجولات السياحية سواء عن طريق المدن التي لا يعرفها ابن القرية أو ابن الحارة وعن بعض الآثار التاريخية والدينية كمسجد الحسين أو السيدة زينب، وكأن يقدم – بلغة اليوم فيلما تسجيليا أو عرض للشرائح.
- كما أن قصص صندوق الدنيا كانت تحث على الفضيلة والاستقامة من خلال عرض قصة عن معصية الوالدين أو الزوجة الناشز أو الابن العاق.
فرق المحبظين
*بينما جماعات المحبظون أو المحبظين، جماعات فنية شعبية انتشر وجودهم في المدن المصرية في القرن الثامن عشر وترد أقدم إشارة إلى وجود هؤلاء المحبظين في كتاب الرحالة (كرستين نيبور) وبعد حوالي الخمسة والثلاثين عاما يسجل لنا الإيطالي (بلزونى) بعضا مما شاهده من تمثيل الفنانين الجوالين المعروفة باسم "المحبظين" حيث شاهد (بلزونى) مسرحيتين تم تقديمهما من خلال فرقة شعبية مصرية في حفل أقيم في شبرا عام 1815 وبعد حوالى خمسة عشر عاما، شاهد المستشرق الإنجليزى (إدوارد لين) فن المحبظين في إحدى الحفلات التي أقامها محمد على باشا بمناسبة ختان واحد من أنجاله وقد اشتركت جماعة المحبظين في الحفلة المسرحية وقد وصف(لين) شخصياتها وخطوطها الرئيسة قائلا: جماعة المحبظين يقدمون عروضهم في حفلات الزواج والختان في بيوت العظماء كما أنهم يجذبون إليهم حلقات من المتفرجين حين يلعبون في الأماكن العامة ويضيف (لين) أنهم يعتمدون في عروضهم على النكات والحركات الخارجة وأن الممثلين الذكور (ما بين رجال وصبية) يقدمون الأدوار جميعا الرجالية والنسائية.
فى وصف المستشرق الفرنسى إدوارد لين المسرحية التي شاهدها وهي تدور حول فلاح فقير اسمه (عوض) تقول السجلات إن عليه ألف قرش لحياة الضرائب ويتعرض عوض للسجن. ثم تحاول زوجته (التي تتعرض للاستغلال بكل صوره) الإفراج عن زوجها.
وكانت فرق المحبظين فرقاً جوالة مسرحية تعتمد على مختلف عناصر العرض المسرحي من خلال نص وشخصيات وحوار ولغة مسرحية.
ومسرح المحبظين لم يكن رسميا "أو نظاميا" , بل كان شعبيا "وخياليا" من التأثر الأجنبي وكانت نصوصهم كلها نابعة من البيئة المحلية: الواقع الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة.
دراما شعبية
نستطيع أن نقول إن مسرح المحبظين دراما شعبية صدر عن الشعب لضرورات اجتماعية ونفسية وسياسية وجمالية، والمحبظون هم الشكل الحصري لسامر القرية وأي شكل من هذه الدراما المسرحية (السامر – المقلداتى – المحبظون) تعتمد على الممثل وعلى حضوره الحي وتلجأ إلى الفضاء المسرحي للتعبير. كما تستخدم كل أدوات المسرح من ديكور وإكسسوار وأداء وحركة..... الخ. وتمثل أي شكل من هذه الدراما المسرحية الشكل المصري للمسرح كما أفرزته البيئة المصرية والوجدان المصري.
- وفرقة المحبظين هي سامر المدينة وهي مثل سامر القرية تبدأ بالغناء والرقص ثم تقدم تمثيلية يليها فاصل ضاحك.... ومن أروع المسرحيات تلك التي وضعها لين وهي عن الفلاح عوض تجسد الاستغلال الاجتماعي ومدى الاستغلال لزوجة الفلاح عوض.
المقلداتي
أما *المقـلداتي هو المؤلف والمخرج المؤدى. إنه ممثل تلقائي مدرب من خلال الممارسة الطويلة بالاعتماد على موهبته التي اختبرها من خلال تفاعله الطويل مع الجمهور. وهو يقدم للجمهور ما هو في حاجة إليه، يعرف نفسية جمهوره ويعرف الأنماط التي يسخر منها والأنماط التي يتعاطف معها. إن المقلداتى هو ضمير جمهوره ومرآته.. ومع الأسف الشديد لا نعرف شيئا عن تاريخ ظهور هذه الشخصية وهل هي وافدة أو نابعة من أصولنا الشعبية.
والمقلداتي يقدم فنا يعتمد على مؤد واحد وعلى موقف بسيط في تكوينه أو على حدث بسيط وقصير وهو يقدم شكلا من أشكال الفرجة الشعبية المسرحية إذ إن الصلة القائمة في العرض تعتمد على الممثل كوسيط مسرحي.
وقد عرفت مصر الممثل الجوال الفرد الذي يقدم عروضه في النوادي والشوارع والأفراح والاحتفالات الشعبية في القرى وكان العرض يبدأ بالموسيقى، والرقص ثم يليه مشهد تمثيلي له قصة كاملة تنتقد الواقع الاجتماعي بشكل ساخر.
وكان المشهد يعتمد على الارتجال، فالممثل يعرف الخطوط العامة للقصة وللشخصيات ثم يقوم، مغيرا "في كل عروضه ومحورا" وفقا لنوع الجمهور ومدى تفاعله معه ولقد كانت إحدى مهام المقلداتى الفنية هي تقليد الأصوات والشخصيات وتصوير العادات والسلوك بصورة مبالغة فهو يقدم كوميديا ويلجأ في هذا إلى تغيير غطاء الرأس ليعبر عن تعدد الشخصيات.
ولقد وصف على الراعي أحد الممثلين الجوالين بقوله: "كان يقدم مسرحيات كاملة بمفرده يجوب بها البلاد وليس معه حقيبة واحدة بها خطوط مسرحية ومنظر واحد وبدلتان: إحداهما عربية والأخرى إفرنجية.
ومهما تكن شخصية المقلداتى محدودة القيمة من الناحية المسرحية فإن المقلداتى هو أحد مفردات الدراما الشعبية التي تعتمد على الممثل وعلى الحضور الحي المباشر أمام الجمهور وهو إلى جانب هذا يشكل جزءا من الظاهرة المسرحية الفلكلورية.
فنون الفرجة الشعبية
فنون شاملة تتضافر في أدائها أشكال مختلفة من فنون الأداء من موسيقى ورقص وغناء وإنشاد أو سرد وحكي، حتى تجذب إليها أكبر عدد من المتفرجين وتشبع حاجتهم المختلفة كما تفرج عن همومهم ومتاعبهم ومشاغلهم الذهنية.
وفنون الفرجة فنون شاملة تتضافر في أدائها أشكال مختلفة من فنون الأداء من موسيقى ورقص وغناء وإنشاد أو سرد وحكي، حتى تجذب إليها أكبر عدد من المتفرجين وتشبع حاجتهم المختلفة كما تفرج عن همومهم ومتاعبهم ومشاغلهم الذهنية. وربما كانت الموسيقى هي العامل المشترك في معظم هذه الفنون.
فالوظيفة الظاهرة أو المباشرة لفنون الفرجة الشعبية هي تسلية الجماهير العريضة خاصة الأطفال باستعراضات وألعاب وحكايات تشد انتباههم وتصرفاتهم ولو مؤقتاً عن هموم الحياة ومتاعب العيش التي تعانى منها الطبقات الفقيرة في المجتمع دون أن يتحملوا كثيرا من التكاليف التي لا يقدرون عليها في الأغلب وإن كان لا يمنع بقية الشرائح الاجتماعية من المشاركة في الفرجة، أما الوظيفة الكامنة فهي تتمثل في آخر الأمر في تقوية الأواصر بين أفراد المجتمع وتوفير نوع من الثقافة التلقائية المشتركة بينهم جميعاً والتي لا توفرها لهم دائما وسائل الترفيه الفردي أو الفنون الراقية التي تقتصر في الأغلب على طبقات وشرائح أكثر تميزا من الناحية الاقتصادية أو التعليمية. فالفوارق الطبقية، بالمعنى الواسع للكلمة، تزول أمام فنون الفرجة الشعبية التي تحقق كلتا الوظيفتين بدرجات متفاوتة، فهي كلها فنون وأدوات ووسائل للمتعة والفرجة والتسلية والترفيه، ولكنها وراء ذلك تؤدى وظائف اجتماعية تتعلق بالقيم أو النظم الاجتماعية أو أنماط السلوك وما إلى ذلك.
وتعنى الفرجة الشعبية أيضاً بالفنون الشاملة من حيث أن الفنان الواحد كثيرا ما يقوم وحده بأداء كل تلك الأنشطة المختلفة التى يقوم بها فنانون عاديون متخصصون فى أنواع الأداء المختلفة، فهو الذى يقوم بالسرد مثلا والرقص والحركات الجمعية البهلوانية والتمثيل والغناء والعزف على الآلات الموسيقية إذا تطلب الموقف من ذلك، والتلقائية والقدرة على الارتجال تكشفان عن مدى براعة فنان الفرجة فى التكيف مع الظروف الطارئة التى تظهر فجأه دون أن يحسب حسابها مقدما كما تكشف من مقدرتة على التجاوب مع الجمهور خاصة إذا كان من الأطفال حيث يستخدم كل قدراته ووسائله فى إقناعهم وإقناعهم بالرسالة التى يقدمها، ويساعد على ذلك عدم وجود نص مكتوب يلتزم فى الداء كما لاتوجد قيود مفروضة عليه يتحتم الالتزام بها، فليس هنا مؤلف أو ملحن أومخرج للعمل سوى الفنان نفسه الذى يتحكم وحده فى الموقف كله ويتصرف حسب مقتضيات الظروف. يظهر هذا واضحاً حتى فى عرض السير الشعبية والملاحم التى لايلتزم بها الرواه والقاصون والحكاؤون فيها التزاماً حرفياً بالنص.
ومن أشهر فنون الفرجة الشعبية التي عرفتها الشعوب العربية (الأراجوز وخيال الظل وصندوق الدنيا، والمحبظين والمقلداتى). أما السامر فهو مكان للعرض فقط..
ومما سبق طرحه هو الإحاطة ببعض هذه الفنون والإبداع المؤثر به على المتلقى العربى وكذلك استعاده الوعى بتراثنا.. والمعرفة بقيمته.. والتأكيد على أهميته فى بناء ثقافتنا المعاصرة التى تقوم بالحتم على ركيزتين مهمتين هما:
تقدير الماضي والإفادة من تجاربه والثانية هى الإضافة المعاصرة لهذه التجارب.. وفى المحصلة يجيء التعبير الصادق عن الشخصية الثقافة لأى جماعة شعبية و التى نتميز بها عن ثقافات الآخرين.