لا أدري من هذا الداهية الذي اخترع تعبير "سقف الحرية"، هل كان يقصد ـ على سبيل الترغيب ـ أن الحرية يجب أن يكون لها سقف، كما أن للمنازل أسقف تحمي قاطنيها من العوامل الطبيعية كالعواصف والبرد والأمطار، أم تراه يقصد ـ على سبيل الترهيب ـ بالسقف "الحد" جريا على التعبير الشائع الذي يقول إن لكل شي "حدا" ، وأن هناك دائما "سقفا للتطلعات".
لفظة "السقف" هنا تشير إلى أن الشخص الذي يمارس الحرية يمارسها في المنزل، لأن المنازل فقط هو من يحتوي على أسقف، ولكن كيف يكون الأمر لو مارسنا الحرية في الهواء الطلق؟، وكيف يكون الحال مع ظهور الأسقف المعلقة التي تنتشر في المنازل والمكاتب، والتي أصبحت الأسقف معها تعد حسب الطلب، وتوضع وفقا للديكور؟، وماذا نفعل أيضا مع أسقف الأبنية الحديثة التي تجسد جشع التجار، والتي تكاد تلامس الرؤوس؟.
ولا أدري من أين أتى مخترع هذا التعبير بثقافة البنائين هذه من أسقف ودهانات وحيطان؟ ، هل هو عامل بناء عششت في دماغه فكرة أن لكل شيء سقفا، أم أنه من رقباء الحكومة الذين مهمتهم الكبرى حمل المقص، ومنع الأفكار، وقصقصه الأجنحة.
الرقيب الديناصور لا يجيد إلا القمع، يعشق الظلام، ويؤمن أن لكل شيء سقفا، وأن سقف الحرية لا يجوز تجاوزه، وأن هناك دائما خطوط ليزر حمراء لا يمكن تخطيها، لذلك ظللنا دائما على الأرض، بينما حلقت الأمم الأخرى كالعصافير.
الاستعارة الفاضحة التي يتضمنها تعبير "سقف الحرية" تشير إلى أن هذا التعبير عربي بامتياز. حيث درجنا على اللجوء إلى الاستعارة في كل شيء، لكي نضخم الأمور أحيانا، ولكي نعبر عن المبالغة أحيانا أخرى، فنحن نستخدم الاستعارة في التعبير عن الحب، والحزن، والألم، والموت، والشتيمة.
المشكلة أن سقف الحرية المزعوم هذا كالعفريت، لا يعرف أحد مكانه، .. هل هو موجود أصلا، وهل هناك حرية في الأساس لكي يكون لها سقف؟ وهل يتغير "السقف" من بلد إلى آخر؟.
الواقع يؤكد أن سقف الحرية متغير مثل ضغط الدم، فحينا يرتفع وحينا يهبط، ولأن الحرية أصلا كمعنى لم يتفق عليها أحد، ولم يضع معاييرها أحد، ظلت دائما عرضة للاجتهاد والأهواء والرأي الشخصي، فما يجيزه رقيب، يمنعه آخر، والكلمة التي تمنح شخصا الأوسمة، قد تذهب بآخر إلى السجن.
الحرية كائن هلامي لا يمكن الإمساك به، إفراز لثقافة الشخص والبيئة والمجتمع والمناخ السياسي، لذلك ظلت أسقف الحرية متغيرة ومتحركة، كالزئبق .. كالعفريت الذي لا تستطيع تحديد مكانه.
مرت الرقابة العربية بخطوات بدءا من الرقيب الذي كان يعين ويعمل في مقار الصحف، ويحدد ما ينشر أو ما لا ينشر، ومرورا بتمزيق الصفحات المخالفة قبل فسحها، والطلاء الذي كان يستخدم في طمس الأجزاء العارية، وانتهاء بحجب المواقع الخارجة.
ورغم الانفجار المعلوماتي الذي شهده العالم في العشرين عاما الأخيرة، والذي بدأ باختراع الإنترنت، والفضاء المفتوح الذي جعل الرقيب يحرث في البحر. فإن البعض ما زال يردد تعبير "سقف الحرية".
أثبت التاريخ فشل تجربة الرقابة، لأن منع الفكرة من النشر لا يعني منعها من العقول التي تعمل وتفكر وتحرك، وتنقلها من فرد إلى آخر، الرقابة لم تنجح في منع ثقافة الممنوع الرائجة، .. فضلا عن أن منع الفكرة كان دائما وقودا لرواجها وانتشارها، واندفاع الناس للبحث عنها، وكما يقول المثل "كل ممنوع مرغوب".
كان بعض الكتاب يسعدون إذا منعت كتبهم من قبل الأزهر أو أي جهة، لأن ذلك يعني أن كتبهم ستعم بشهرتها الآفاق، لأن الناس سيقبلون عليها، ويتداولونها سرا، كما يتداولون أشرطة الأفلام الجنسية وقطع البانجو والحشيش.
"سقف الحرية" كذبة كبرى، صدقها العرب خمسين عاما، وكانت أحد أسباب تخلفهم الحضاري، لأن هذا السقف كان دائما عائقا رئيسيا للتفكير والإبداع والخلق والتأثير، .. خيال مآتة هدفه إبعاد العصافير عن أجران السيد الإقطاعي، لكي يأكل الوليمة وحده، .. "بعبع" أو قصة أسطورية كحكاية "أمنا الغولة"، و"أبو رجل مسلوخة" التي كانت الأمهات تخيف بها الصغار، .. مقام وهمي اخترعه النصابون ليجمعوا من خلاله النذور، مستغلين جهل البسطاء.
الحرية لا سقف لها، كالطائر الذي يحلق في أي مكان، ويحط على أي أرض، ويغرد كيفما يشاء، ولكن البعض مازال يصر على وضع الطيور في الأقفاص، ويطارد الفراشات بالخيزران، ويصر على حكاية الأسقف المعلقة.