عرَّف قدامة بن جعفر ( 873 م : 948 م) في كتابه "نقد الشعر" الشعر بأنه "قول، موزون، مقفى، دال على معنى"، ورغم أنه جمع بين مقومات الشعر المعروفة، إلا أنه تعريف ناقص، فقد افتقد العنصر الأول وهو "القول" صفة مهمة وهي الابتكار والخلق، أو الإبداع بمعنى أدق.
وأرى أن التعريف السابق يمكن أن يكون "قول مبدع، موزون، مقفى، دال على معنى"، فالإبداع هو الذي يفرق بين القول السيار والأدب، بين الأغاني الزاعقة التي نستمع لها في سيارات الأجرة، وبين القصائد الخالدة التي تبقى على مر التاريخ، تلهم الناس وتعلم الأمم.
لا يكفي أن يشتمل الشعر على ما اتفق عليه وهو الوزن والقافية، ولكن الحمض النووي للأدب هو الإبداع، المشكلة ليست في الكم، هناك شاعر أصدر عشرات الدواوين، فلم يتبق منها في الذاكرة بيت واحد، وآخر كتب قصيدة واحدة خلدها التاريخ. لقد مر على التاريخ العربي آلاف الشعراء، ولكن قلة منهم أبدعوا وتركوا أثرا، قلة منهم بقيت أبياتهم ترددها الأجيال حتى بعد قرون كثيرة.
"العاديَّة الشعرية" فخ يقع فيه الكثير من الشعراء، وفيها يهتم الشاعر بمقومات الشعر الشكلية التي تتمثل في الوزن والقافية، وينسى المقومات الإبداعية التي تعني الصور الفنية المفارقة والمعنى المبتكر والتراكيب الموحية المدهشة.
و"العادي" في قاموس المعاني هو "بسيط، مألوف، معهود، غير متجاوز مستوى عامّة النَّاس، وفي موضع آخر هو : العتيق. ويقال : أَمْرٌ عَادِيٌّ جِدّاً : بمعنى بَدِيهِيٌّ، جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ. وذَكاءٌ عَادِيٌّ : أي مُتَوَسِّطٌ، وحَرَكَةٌ عَادِيَّةٌ : أي حَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، وأمر اعتياديّ هو مُشاهَد أو مُصادَف أو ملحوظ بشكل متكرِّر".
الكثير من الشعر الذي نسمعه الآن في الندوات والأمسيات شعر وفقا للقواعد، ولكنه شعر عادي، خافت، شعر جميل، ولكن التراكيب مستأنسة، والصور الفنية تقليدية، والمعاني قيلت من قبل 1000 مرة.
سبب "العاديَّة الشعرية" قد يكون متعلقا بالمستوى المعرفي للشاعر نفسه، عندما ينشأ تحت آلة تضخيم شكل الشعر وهو "العروض والقوافي"، فيهمل الجوهر وهو الشعر نفسه، وقد يتعلق الأمر بأشياء أخرى مثل حدود الموهبة، أو المعرفة القاصرة، أو الكسل الشعري، أو المناخ الثقافي أو "متطلبات السوق" ـ إن صح التعبير ـ، أو التسرع في الكتابة قبل النضج الكافي.
وقد يتعلق الأمر من ناحية أخرى بالنقد الذي اهتم هو الآخر ـ في معظم العصور ـ بالقواعد الشكلية، كما فعل قدامة بن جعفر منذ 1074 سنة، وتبعه العديد من النقاد .
الإبداع سواء كان في الشعر أو فنون التعبير الأخرى عملية غير عادية، تتسم بالاهتمام والعمل والجدّ والاجتهاد والمسئولية، والبقاء، وأحيانا المكابدة، ويجب أن يستحضر الشعراء كل ذلك عندما يمسك القلم ليكتب القصيدة.
ليس من المقبول الآن أن يصف الشاعر وجه محبوبته بالقمر، وشعرها بالليل وخدها بالورد الأحمر ، على الشاعر أن يجتهد ليقدم لنا أوصافا جديدة ومعاني مبتكرة وابداعا حقيقيا ينتزع منا كلمة : الله . وأمامه "اللغة" المادة الخام الغنية التي تصنع المعجزات.
أزمة القصيدة العمودية المعاصرة ـ في رأيي ـ سببها العاديّة الشعرية، عندما اهتم الكثير من الشعراء بالشكل فقدموا لنا أناشيد جميلة تطرب لها الأذن، ولكنها خالية من الصور الجديدة والمعاني المبتكرة، بمعنى أدق .. خالية من الإبداع.
يجب أن نعيد تعريف الشعر الذي وضعه قدامة، ليس فقط لخلوه من العنصر الأهم وهو "الإبداع"، ولكن أيضا لتغير معنى القصيدة على مر العصور، وظهور أنماط شعرية حديثة مثل الشعر الحديث أو التفعيلي الذي يتخلى أحيانا عن منظومة الشطرين، وأحيانا القافية، أو المنثور الذي يتخلى عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، ويكتفي بالموسيقى الداخلية، والأنماط التي ستأتي في المستقبل والتي لا يعلمها إلا الله.
نحن بحاجة إلى تعريف مفتوح جديد للشعر، لا يهمل المكتسبات التاريخية التي حققتها القصيدة العربية من ناحية، ويستوعب حركات التجديد الشعري، وما أضافته من آفاق من ناحية أخرى.