المشكلة بيننا وبين الدكتاتوريين العرب ليست في الأساس قضية حرية، ولكنها في المقام الأول قضية كفاءة، والله لو كان هذا الديكتاتور كفؤا لكنا تغاضينا عن الكثير من الأمور، ولكن المشكلة أن الأنظمة الديكتاتورية لا تنجب إلا الفاشلين. أنظمة تتوارث الفشل في الجينات، فتجد الابن غبيا كأبيه. لم تنجح السلطة وهيلمان الحكم في إخفاء ملامح الغباء في وجهه.
هناك دكتاتوريون عظماء في التاريخ، تميزوا بالكفاءة، وصنعوا الحضارات، وخدموا الشعوب، والديكتاتورية هنا كانت الوسيلة التي بررتها الغاية.
والكفاءة هي أداء العمل ـ أي عمل ـ في الوقت المحدد بالصورة المثلى، بأقصى ما يمكن من عزم ومسؤولية وتكامل وإبداع، والكفء هو من يمتلك المهارات العقلية والثقافية والخبرة اللازمة لأداء عمله بنجاح.
والكفاءة بالمنظور الإبداعي لا تكتفي بالأداء الجيد الممتاز، ولكن أن يتمتع المرء بمهارات وقدرات إضافية لا تتوفر لأمثاله، وذلك كله سينعكس على مستوى الأداء. وبالتالي على مستوى المنشأة، وفي الاقتصاد هناك مصطلح "الكفاءة الاقتصادية" وهو يعني الاستخدام الأمثل للموارد، وذلك بهدف تعظيم الإنتاج من السلع والخدمات.
كشفت الثورات العربية أن جميع الرؤساء الذين ثارت عليهم شعوبهم ليسوا فقط رؤساء دكتاتوريين، ولكنهم يفتقدون أساسا للكفاءة. منصب رئيس الدولة لا يحتاج إلى الحسب والنسب والشخصية الاجتماعية الظريفة القادرة على إلقاء النكات، والقهقهه كسيد قشطة في الاجتماعات الدولية، ولكنها تحتاج في الأساس إلى الإنسان الكفء القادر على تحقيق طموحات بلده، كمدير الشركة الناجح القادر على تحقيق الأرباح، وجعل شركته من بين أفضل 10 شركات في العالم.
"الكفاءة" هي عماد تطوير الأعمال، وأساس الربح .. الأداء العادي قد يسيِّر العمل بمنشأة أو مدرسة أو مصلحة حكومية، ولكنه لا يمكن أن ينهض بالعمل ويدفعه إلى التفوق والتميز والربح.
تسيير العمل بطريقة عادية على أيدي موظفين كسالى يضيعون الوقت في الثرثرة والأداء السلحفائي البسيط .. يمكن أن يتسبب في تعطل الإنتاج، وتحويل المؤسسة إلى خراب.
الكفاءة هي كلمة السر في نجاح الأشخاص والمؤسسات والدول، ولكن المشكلة أنها خرجت من قاموسنا الإداري. حيث توضع شروط متعددة لشغل الوظائف ليس من بينها الكفاءة.
قديما كان للكفاءة قيمتها، حتى إن الثانوية العامة القديمة كانوا يطلقون عليها "الكفاءة"، وكان الحاصل على الابتدائية القديمة يوازي الحاصل على الثانوية العامة الآن.
عدم الاعتداد بالكفاءة أحد أسباب التخلف في العالم العربي، لدينا معايير كثيرة للعمل والترفيع والتصعيد وتولي الوظائف كالقرابة، والجنسية، والمذهب، والمعرفة، والاستلطاف، والشلة، والمنفعة، أما الكفاءة فلا وجود لها في معايير الانتقاء والاختيار.
العديد من الشركات تعتمد عند التوظيف على المؤهلات، ولكن لا يعنيها الكفاءة، رؤساء دول يصعدون على الكراسي ويديرون البلدان، ويتحكمون في مصائر الملايين، وهم لا يعرفون الألف من كوز الذرة.
المشكلة في العالم العربي ليس فقط إهمال الكفاءات، ولكن في معاداتهم ولفظهم. هناك ثقافة اجتماعية تخاف من الكفء وتزدريه وتطرده، وتفتح ذراعيها بالأحضان للتافه والفاشل والغبي.
أظهر استطلاع للجيش الأميركي نشرته صحيفة واشنطن بوست بشأن القيادة والروح المعنوية في صفوف الجيش أن أكثر من 80% من ضباط الجيش وضباط الصف لاحظوا بشكل مباشر وجود قادة "يفتقرون للكفاءة" في العام الماضي، وأن أكثر من 20 % من المشاركين في الاستطلاع قالوا إنهم عملوا مباشرة تحت إمرة أحدهم.
وعرف الجيش "القادة غير الأكفاء" بأنهم يضعون احتياجاتهم الشخصية في المقدمة أو أنهم يحكمون قبضتهم بشكل مبالغ على من هم أدنى منهم رتبة، أو يتصرفون بأسلوب يفتقر للمعنويات المرتفعة، أو يفتقرون للقدرة على اتخاذ القرارات، فهل فكر الإداريون العرب في إجراء بحث عن "الكفاءة في المؤسسات العربية"، وتحديد نسبة الأكفاء من غيرهم، وقدموا لنا روشتة للخروج من وحل الفشل العربي.
تحولت الكفاءة من خيار استراتيجي لا غنى عنه في تطوير الأعمال إلى تجارة، حيث راجت على الساحة تجارة التدريب، واندرجت تحتها العديد من المصطلحات مثل "تنمية المهارات"، و"البرمجة اللغوية العصبية"، و"تطوير الذات"، وبالغ العاملون في هذا المجال فقدموا عناوين غريبة لبرامجهم مثل "أيقظ العملاق داخلك"، وقبعات التفكير السبعة" وغيرها من المسميات التي تعتمد على الجانب التسويقي أكثر من اعتمادها على القيمة.
حتى المؤسسات الحكومية دخلت على الخط، فعملت ـ في إطار وهم التطوير ـ إلى أسلوب غريب يقضي بإخضاع المعلمين بكل فئاتهم وأعمارهم لاختيارات "الكادر"، وهي بذلك طبقت المثل الذي يقول "بعد ما شاب ودُّوه الكتّاب".
الكفاءة يجب أن تكون منهجا إداريا معتمدا في كافة مناحي الحياة، وأن تكون أولى مسوغات التعيين والاختيار والترقية، أشد جريمة يرتكبها المسؤول في أي مكان، في مؤسسة أو شركة أو دولة أن يمنح الفرصة لغير الكفء، لأنه ليس فقط يحرم ذلك الكفء من فرصته الحقيقية، ولكنه أيضا يوقف عجلة التطور، وينشر الفشل، ويضع المؤسسة على حافة الإفلاس، ويعرقل مهمة الإنسان الكبرى وهي إعمار الأرض.