يؤمن البعض بضرورة وجود الرقابة، ويؤمن البعض الآخر بضرورة إلغائها، وكل طرف يقدم براهينه، فمن ناحية.. الواقع يؤكد أن الرقابة مطلوبة لحماية المجتمع من الأفكار والصور المسمومة التي تنخر فيه كالسرطان، ومن ناحية أخرى.. القواعد الجديدة التي فرضتها التقنية والفضاء المفتوح وسطوة المعلوماتية تجعل مقاومة التغيير كالوقوف أمام قطار.
إذن كيف نحل هذه المعضلة؟ وما الصيغة المناسبة التي توائم بين قيمنا المحافظة التي تسري في الشرايين، والعالم الذي يتطور كل يوم بل كل ثانية؟ كيف نجمع بين المشي على أرض الواقع الجبلية الصعبة، ورغبتنا في التحليق كالصقور في القمم العالية؟.
هذه المعادلة الصعبة تتنازعني ليل نهار حتى تكاد تصيبني بالجنون، فإذا طالبت بوجود الرقابة سيتهمك البعض بأنك تعيدنا إلى العصر الحجري، وإذا طالبت بمنعها اتهموك بقائمة من التهم الجاهزة كالليبرالية والحداثة والتغريب، وإذا أمسكت العصا من المنتصف، سيقولون إنك إمّعة، لا رأي لك، والمواطن العربي يقف بين نارين، كفرخ العصفور الذي يحاول الطيران لأول مرة.
الحل مزيج واعي من الرقابة الوسطية على القيم الإنسانية، والانفتاح اللامحدود في جميع المجالات كالرأي والتعبير والممارسة السياسية والبحث والحوار والعلم وحقوق الإنسان، مع تعزيز المناعة الذاتية التي تحمى الإنسان من سموم التقنية.
وحتى نتجنب الانطباع السيء الذي توحي به لفظة "الرقابة" لدى البعض، يمكن أن نسميها "حماية"..، هذه الحماية الأبوية يمكنها أن تحقق لنا المعادلة المستحيلة.. الحفاظ على قيمنا وتقاليدنا الضاربة فينا كالجذور، والتحليق عاليا نحو آفاق التطور كالصقور.