إذا خسرت مالك في البورصة أو مشروع، أو سرقة، فيمكنك أن تعوض ذلك، ولكن إذا خسرت ابنك ، فإنه لن يعود، هناك خسائر لا تعوض. كم من كبار القوم الذين يملكون السلطة والمال، ولكن الله ابتلاهم بابن عاق، فلطخ الابن العاق شرف العائلة، وبدد ميراث الآباء والأجداد على النساء والمخدرات وموائد القمار.
حتى يدك إذا فقدتها يمكن أن تستعين بطرف صناعي يؤدي مهام اليد المفقودة، ولكن ماذا تفعل لو خسرت ابنا؟ لم ينجح العلم في تجميع ابن صناعي، أو مشاعر جاهزة التركيب، أو ذكريات سعيدة يمكن تركيبها لدى الطبيب تلغي طعم الأشواك . المرض له علاج والأرق له علاج، ولكن العقوق ليس له علاج، كالمرض الخبيث يسكن ذاكرتك فتظل مشتعلة.
عائلات كبيرة وسير طيبة وثروات هائلة وحضارات عظيمة يمكن أن يدمرها في لحظة ابن عاق، كعود الكبريت الصغير الذي يمكن رغم صغر حجمه أن يحرق مدينة. وكما يقول الشاعر "ومعظم النار من مستصغر الشرر".
رجل أعمال أعرفه، كبر في السن فاندلع النزاع بين أبنائه، وتحولت العائلة إلى معسكرين يتنازعان في الحياة وأمام القضاء، .. الأول معسكر الأب ومعه الابن الأكبر، والثاني معسكر يضم ابنا وبنتين، الفريق الثاني يدعى أن والدهم مصاب بالزهايمر، وأن الابن الأكبر قام باحتجازه وخطفه تحت السلاح أو القتل، للاستيلاء على ثروته، فقام الأب بنشر إعلان في الصحف عن طريق محاميه يؤكد فيه كذب هذه المزاعم، ويؤكد على عقوق أبنه وبنتيه، وأن "ابنه قام بإساءة التصرف في وكالة منحها له الأب، فقام بإلغائها"، مؤكدا على ثقته بابنه الأكبر، متهما أبنائه الآخرين بأشد حالات العقوق. وأكد الأب في إعلانه الذي يثير الحزن والوجع أنه "يقيم في دول عربية وأوروبية للنقاهة والراحة والاستجمام بعيدا عن الأذى والعنف المعنوي والعائلي الذي تعرض له من أبنائه العاقين".
قصص العقوق كثيرة، وكلها تنضح بالآلام والمآسي، قصص تحول فيها الدماء إلى ماء، والأخوة إلى أعداء، والأسرة الواحدة إلى متخاصمين أمام القضاء. هل كان الأب الذي ابتهج يوم ولادة ولده وبكى من الفرح، أن هذا الولد سيكون مصدرا للحزن؟، هل كان يدري أن من يطعمه طفلا سيأتي اليوم ويكبر ويشتد عوده ويغرس الخنجر في ظهره هو؟، هل كان يتصور وهو يحلم بأن يصبح رجلا يفخر به ويماثله في الطول أنه هو نفسه الذي سيجلب له العار؟. هل كان الأب المكلوم يتصور أن أبنائه الذي احتضنهم ورباهم والذين كانوا يتجمعون حوله ويتشاجرون على قطع الحلوى، سيتشاجرون في المستقبل، ويشهر كل منهم الأسلحة من أجل المال؟.
أود أن أتصور شعور هذا الأب المفجوع الذي حاز كل شيء، وتحمل على مر حياته الكثير من الصعاب والطعنات والخسائر، ولكن اليوم جاءت الطعنة التي لا يمكن أن تعالج، والخسارة التي لا يمكن تعويضها .. خسارة اللحم والدم. يقول الشاعر (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة .. على المرء من وقع الحسام المهندِ) ".
يقول المثل الشعبي "يخرج من ظهر العالم فاسد" فقد تشاء الحكمة الإلهية أن ينجب العام الورع التقي ابنا فاسدا، والعكس صحيح، فقد ينجب الأب الفاسد اللاهي العابث الابن الصالح، وهذه سنة الحياة ، قال تعالى "يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي".
وإذا كانت معظم الحالات التي ذكرناها حدثت في عائلات ثرية، فهذه ليست قاعدة، فقد يحدث الأمر في أسر فقيرة، وإن كان المال عامل مساعد للإفساد بما يوفره للمرء من إمكانيات وإغراءات. العقوق يصيب كل الفئات، حتى الأنبياء تعرضوا لهذا العقوق، ولدينا في نوح عليه السلام مثل، حيث عقه ابنه، ورفض أن يستقل السفينة معه، للنجاة من الطوفان، وقرر أن يصعد على قمة جبل معتقدا أن الجبل سيعصمه من الماء، ولكنه هلك مع الهالكين.قال تعالى )ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، قال (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين).
وتحدث القرآن الكريم عن الابن العاق، وأوضح أن من رحمة الله أن يموت الابن العاق حتى لا يرهق والديه بفساده، وذلك في قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام ، عندما مر الخضر على غلام فقتله، فاعترض موسى مشيرا إلى أنه قتل نفسا بغير ذنب، قال تعالى (فانطلقا حتى إذا لقي غلاما فقتله، قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا)، وبعد انتهاء الجولة فسر له الخضر السبب في قتله الغلام، وقال له أن الغلام كان أبواه مؤمنين فخشى أن يرهقهما بطغيانه، فأراد أن يبدلهما لله بولد خير منه، قال تعالى (وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما).
ظهرت في السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة للفقر، مثل الفقر المائي، ولكن هناك نوع آخر جديد لم يتم رصده وتعريفه بعد، وهو الفقر الأخلاقي، الكثير من الأسر تهتم بكل شيء في حياة الأبناء ، ولكنها لا تهتم بالعنصر الأهم وهو التربية، هناك شعوب ترصد المليارات في ميزانياتها السنوية، تتوزع على مجالات الصحة والتعليم والدفاع وغيرها، ولكنها لا تنفق جنيها واحدا على حجر الزاوية وهو التربية. الأب الذي لا يهتم بتربية أبنائه سيكون معرضا في المستقبل لخطر الفقر الأخلاقي، والشعوب التي لا ترصد ميزانيات خاصة بالتربية ، سيتكون أجيالها الجديدة معرضة للفقر الأخلاقي.
العقوق قدر، ولكن الأسرة قد توفر دون قصد له البيئة المناسبة للنمو والحركة، لقد تربينا على حقيقة أساسية وهي أن المال يفسد التربية، ولكن الكثيرون يعتقدون أن المال يحقق السعادة وأن توفير الأموال للأبناء بلا حساب يحقق لهم السعادة، وفي المقابل أدركت أسر أخرى خطر المال، فعودت أبنائهم على العمل والاعتماد على النفس.
ملف العقوق يحتاج إلى دراسة معمقة نبحث فيها الدوافع والأسباب، ونرصد فيها علامات التحذير المبكرة التي يجب أن ينتبه إليها الأبوان، وقواعد التربية السليمة المتوازنة التي تزرع في الأبناء القيم الأسرية الصحيحة. وتجنبنا جميعا هذا المصير، من ناحية أخرى يجب أن يحظى ضحايا العقوق بالدعم النفسي الخاص المدروس لكي يتجاوزوا أكبر المحن التي يمكن أن يمر بها الإنسان.