كلما وقفت أمام أهرامات الجيزة، تساءلت .. كيف لأجدادنا الفراعنة العظام أن شيدوا هذه العجيبة، كيف شيد أجدادنا هذا الإعجاز الهندسي والمعماري والفكري في وقت خلا من إمكانيات البناء الحديثة، فلم توجد من 7 آلاف عام شركات مقاولات عملاقة مثل المقاولون العرب، وطلعت مصطفى، والمناقصات التي يتم إسنادها بالأمر المباشر، لم يكن هناك سوى الرمل والشمس والإرادة والأحلام الباسقة التي لا تستعصي على الإنسان.
أعترض على الزعم الذي يقول أن هذا الحلم الباسق بنى عن طريق السخرة، لأن السخرة قد تبني المباني العملاقة، والمشاريع الكبيرة، المؤسسة على الجشع، ولكنها لا تبني الأحلام. فضلا عن أن البعد المعتقدي في الموضوع ـ حيث أن الهرم ماهو إلا مقبرة ـ يتنافى مع السخرة كتصرف ضد الدين وضد المعتقد، وأسخر وأضحك من الزعم الذي يقول أن الأهرامات بنتها قوى خارقة جاءت من الفضاء. الأهرامات المصرية بناها الفكر الخلاق والارادة والإصرار والتحدى والفريق الواحد، والأيادي المعروقة بالجد والعمل.
أقف أمام الأهرامات، وأتعجب كيف لأحفاد جدي خوفو العظيم غرقوا في شبر ميه، وفشلوا في حل مشكلات تافهة مثل مشكلة النظافة في الجيزة، ومشكلة فوضى الميكروباص، وانفجارات الصرف الصحي، والبطالة التي تنهش بأظافرها في جسد الشعب ؟، كيف للإنسان الذي بنى عمارة لا يستطيع أن يبني عشة، وكيف للإنسان الذي قام بتصدير الحضارة، أن يستعين بالخبرة الأجنبية لتنظيف الشوارع؟.
الإنسان هو الإنسان، لا أتصور أن قدرات الإنسان المصري اضمحلت، فالفرعوني القديم هو نفسه الفرعون المعاصر، لا يزيد هذا عن ذاك بقدم أو رجل، لا أتصور أن هذا الفرعون الكبير الذي قدم ثلث آثار العالم، وأبدع فنونا في البناء والعمران والعلوم والثقافة، وفنون يدوية ورسومية مازالت تبهر العالم ، .. لا أتصور أن يصاب حفيده بهذا العجز وهذا الهوان.
كيف للإنسان الذي كانت بلاده قبلة العلماء والمخترعين والباحثين عن الرزق والحرية من البلاد الأخرى، أن يصبح هو نفسه مهاجرا يبحث في دول العالم عن الرزق ونفس الحرية؟. كيف لمن كانوا يزينون موتاهم ومقابرهم الفرعونية بالذهب الخالص ، يسكنون في المقابر، وتسقط على رؤوسهم المساكن المهترئة، ويغرقون في المعديات الخشبية، كيف للقائد العظيم أن يبحث عن عقد عمل في الخارج؟.
على العكس، فالمفروض أن يضيف التقدم الذي حدث على مدى 7 آلاف سنة على صعيد الحياة والأدوات والبحوث والدراسات المزيد من الإمكانيات. فإذا كان الفرعوني القديم بنى هرما يبلغ علوه 148 مترا، فإن المصري المعاصر كان يجب عليه أن يشيد هرما يصل إلى القمر. هذا هو منطق التطور، ومنطق الطبيعة التي تجنح دائما إلى التطور، والتكامل، والتوسع.
لكن ماذا حدث للمصريين، لا تقل لي الأزمة العالية، أو الانفجار السكاني، أو الحسد، أو البنية التحتية التي صدَّعت رأسي بها لسنوات طويلة، لا تقل لي الكوارث الطبيعية، فمصر لم تشهد كارثة طبيعية يمكن أن تسبب هذا الأضرار التي تنزل لمستوى الخراب.
ضع أمامي تفسيرا منطقيا ، هل السبب الفساد الذي وصل إلى مستويات عالمية، وجعل مصر في المرتبة غير بعيدة في سجل الفساد العالمي، هناك تفسير شعبي طريف لا يمكن أن أتجاهله، وهي أن "مصر أغنى دولة في العالم، لأنها تسرق من 7 آلاف سنة، ومازال الشعب بها قادرا أن يعيش".
من الممكن أن يكون للفساد دور، ويمكن أن يكون للزيادة السكانية دور، وعوامل أخرى يمكن أن تتشابك لتوصلنا إلى هذا الوضع المحرج والمؤسف معا. ولكن المشكلة الأساسية في رأيي افتقاد الشعب المصري في العصر الحديث لوجود الإلهام ، لوجود قوة عادلة حكيمة تستنفر قواه، وتفعل قدراته، وتستغل إمكانياته الخطيرة، الشعب المصري يفتقد البطل.
يملك الانسان المصري العديد من الإمكانيات، كالحضارة والعلم والذكاء والرؤية والصبر والجلد والابتكار والتفوق ، والوازع الديني الذي لا يمكن إغفاله، إضافة إلى العوامل الجغرافية والمناخية، ووراء ذلك ثروات تاريخية وتعدينية وعلمية لا تعد ولا تحصى، وهي كلها عوامل لو توفرت لشعب يجب أن يحقق المستحيل.
قال لي الصديق العربي متسائلا ، ماهو سبب تراجع "الوضع" في مصر، وهو يلمح بذلك إلى تراجع الكفاءات، فنفيت ما قاله عن تراجع، واستشهدت بقائمة طويلة من العلماء المصريين المعاصرين الذين يقودون أهم المراكز العلمية في العالم، .. أشرت إلى مجموعة الشباب الواقف بجواره والذي قدمهم لي فخورا ، وسألت فعرفت أنهم مجموعة من أكفأ العاملين في مجال السفر يديرون شركته السياحية، فكان ذلك أبلغ رد، فتدخل صديق عربي في الحوار وقال " مصر قد تمرض ولكن لا تموت".
التراجع المصري قد يكون تراجعا في مستوى المعيشة، وقد يكون تراجعا سياسيا، ولكنه أبدا لم يكن تراجعا في قيمة الإنسان المصري وما يختزنه من مهارات وكفاءات. وهذا ما يعطينا الأمل في نهضة الأسد الجريح. فالمال يمكن أن يعوض، والإنسان المصري مازال معدنا نفيسا، حتى ولو عتم عليه البعض بالتراب.
لدينا شعب "يأكل الزلط" حسب التعبير الشعبي، قادر على تحقيق المعجزات، ولعل الدليل على ذلك أنه تمكن من صنع المستحيل في السادس من أكتوبر عام 1973 عندما تمكن بعد 6 سنوات فقط، من تحويل الهزيمة إلى نصر وتحرير سيناء، وإنهاء أسطورة جيش إسرائيل الذي لا يقهر.
مصر تبحث عن بطل، ولننظر للتجارب العالمية، وكيف نهضت الأمم سنجد أن في كل نهضة كبرى كان يوجد دائما مصدر الإلهام، كان يوجد دائما بطل شعبي قادر على إنها ء حالة اليأس التي تعشش في البيوت والمدن والشوارع، ويقوم يستنهض الهمم، والتغلب على الظروف وتحقيق المستحيل.
مصر تبحث عن بطل، مزيج من جمال عبدالناصر، وتشي جيفارا ولولا داسيلفا، وصلاح الدين الأيولي وعمر بن الخطاب، وعمر بن عبدالعزيز، والمتنبي وسوار الذهب، واللواء أحمد رشدي، والسادات .. بطل يغير التاريخ لتشهد في هذه البقعة المهمة من العالم قيامة المارد المصري من جديد.