أي حوار لابد أن يكون له قواعد، جدول أعمال ومباديء أساسية يستند إليها، لأن النقاش إذا خلا من الأسس الواضحة أصبح جدلا، كدخان السيجارة المنبعث في الهواء، ليس فقط لافائدة منه، ولكنه شديد الضرر، .. الكثيرون يدخنون ـ عفوا يدخلون ـ في حوارات، حوار بين الأصدقاء أو من خلال ندوة، أو أمسية، أو مائدة مستديرة، أو حلقة نقاش، أو اجتماع وزاري، أو قمة دولية، وقد يكون الحوار أسريا على الطبيلّة المستديرة لبحث ميزانية المنزل، ويمتد الوقت ويمتد ، ويكثر الكلام ويتشعب، ويتساقط العرق وتتداخل الأيدي، وبعد ساعات ينتهي الحوار، وينفض المجتمعون، وكأن شيئا لم يكن.
من أساسيات الحوار أن تحاور العاقل الشريف النزيه الصادق الذي لا يستنكف من التنازل عن رأيه مادام تبين له فساده، والموافقة على الرأي الصائب حتى لو كان يختلف مع قناعاته ، قال تعالى (خذ العفو وأمر بالعرف، واعرض عن الجاهلين) ، ويقول الإمام علي كرم الله وجهه (ما جادلت عالماً إلاّ غلبته، وما جادلت جاهلاً إلاّ غلبني).
من القواعد الأساسية للحوار أيضا وجود جدول اجتماع يحدد النقاط المطلوب مناقشتها، والتي تتفق مع الغرض العام من الحوار، لأن ترك الحوار مفتوحا على مصراعيه بلا تحديد، سيحول الحوار بالتدريج إلى ما يشبه "القعدة" ويتحول الكلام إلى دردشة، يذهب فيها الحوار حينا للشرق، وحينما أخرى للغرب.
الزمن أيضا عنصر ضروري للحوار، فلا يعقل أن يمتد الحوار بلا نهاية، وتمر الساعات، حتى يتثاءب المجتمعون، ويغط بعضهم في النوم، ويتصاعد الشخير في قاعة الاجتماعات ويتحول الحوار إلى "مسخرة".
ومن العناصر الضرورية في الاجتماعات اليقظة والاهتمام، فلا يصح أن تذهب للاجتماع وأنت مرهق يغلب عليك النعاس، وقد تابعنا في بعض اجتماعات مجلس الشعب وبعض المؤتمرات الدولية، كيف أن بعض الضيوف يغلبهم النوم من التعب والإرهاق، فيستسلمون لسلطان النوم، فترصدهم كاميرات المصورين، وتحتل صورهم في اليوم التالي الصفحات الأولى في الصحف.
الكثير من الحوارات تدور في حلقة مفرغة، وتكون على غرار "ما الذي خلق في البداية .. البيضة أم الدجاجة؟" ، ولا تنتهي إلى نتيجة أبدا، ليس ذلك فقط، ولكنها تؤدي أيضا إلى تعميق الهوة بين المتحاورين، فيدخل المجتمعون ببوز عرضه شبر، ويخرجون ببوز عرضه شبرين.
الكثير من الحوارات تشبه الحرث في البحر، أو مصارعة طواحين الهواء ، لا طائل منها إلا التسلية وإضاعة الوقت، والخروج والابتسام أمام الكاميرات لإثبات فقط أننا متحضرين، ومجتمعين، وجادين في البحث عن حل، وقبض بدل الاجتماع الذي تقره بعض المؤسسات، ويتفاءل المواطنون، ويشعرون أن الفرج قريب، وأن المشكلة على وشك الحل، ولكن الحل الحقيقي يبدو بعيدا كخاتم سليمان، أو كنجم معلق بين السماء والأرض.
وقد سخر الحس الشعبي من اللجان والاجتماعات التي لاطائل منها، حتى أنهم قالوا "عندما تريد أن تعرقل مشروعا كون له لجنة"، وفي ذلك دلالة على أن اللجان مقبرة الموضوعات ومدفن الحلول، لا طائل من ورائها إلا تسطيح المشكلة، وإضاعة الوقت.
ويتم ذلك عادة نتيجة للجهل بأساسيات الحوار وأدبياته، كما يتم مجاراة لشهوة الكلام وغريزة الحكي والبيان والإطناب والبلاغة والفصاحة التي تتميز بها الثقافة العربية.
كانت هواية الجدات في القرى الجلوس أمام المنازل أو الأسطح والحكي، وتبادل وصفات الطهي ، فهذه تزوجت ، وهذه طلقت، وقد يمتد الأمر إلى النميمة الظريفة غير المؤذية، والمؤذية أحيانا، وكانت هواية الرجال الجلوس على المقاهي وتبادل أطراف الحديث، حتى الحلاق كان من واجباته الحكي مع الزبون وتزويده بآخر الأخبار، لم يكن الأمر عفويا، بل كان ذلك نوعا من الثقافة الشعبية الخاصة، وكان لـ "الحكواتي" دور مهم في بعض البلدان العربية، .. يرادفه "الصييت" في دول أخرى ، والاثنان كانت وظيفتهما الحكي والقص في المقاهي والموالد الشعبية.
ربما جعل ذلك كله شهوة الحديث عند العرب زائدة عن اللزوم، فالحديث لدينا كعرب ليس فقط أسلوبا للمعرفة، بقدر ما هو هواية تروى شغف الفضول وحب الاستطلاع، وهو مالا نجده في الغرب، حيث إيقاع الحياة السريع العملي الذي لا يتيح مثل هذه الحوارات المملة الرتيبة.
ولكن مع الإقرار بحسن النية في الحوارات العربية التي تطول وتمتد، فإن الأمر قد يصل إلى السفسطة التي لا طائل منها، والسفسطائية مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان إبان نهاية القرن السادس وبداية القرن الخامس في بلاد الإغريق، وقد أهمل السفسطائيون الرياضيات والطبيعيات في التعليم، وانتقلوا لتعليم الفنون التي يجوز فيها الجدل، وكان الجدل هو أسلوب التعليم الذي خطه السفسطائيون.
والسفسطة هي قياس مركب من الوهميات الغرض منه إفحام الخصم أو إسكاته والسفسطائيون ينكرون الحسيات والبديهيات وغيرها مما اقره المنطق، وقد لجأ السفسطائيون إلى التلاعب بالألفاظ لطمس الحقائق والإجابة على السؤال بسؤال.
وفي واقعنا العربي الكثير من الحوارات التي لا تخرج عن الجدل العقيم، يظهر ذلك جليا في العديد من البرنامج التلفزيونية، والندوات الفكرية، واجتماعات العمل، وعادة ما يخرج النقاش دون نتيجة.
وفي عالم السياسة لدينا نموذجا للقاءات والحوارات العقيمة التي تمارسها إسرائيل عندما تدعى حرصها على السلام، وتدعو للاجتماعات مع الطرف الفلسطيني، وعندما تجتمع، تراوغ وتتنصل من الاتفاقات السابقة، ثم ينفض الاجتماع، وتنشر وسائل الإعلام صور المجتمعين المبتسمة، وينفض المولد "بلا حمص" ، لينعقد بعد شهور من جديد.
وهكذا الاجتماعات تلي الاجتماعات ، والنتيجة لاشيء، والطرف الفلسطيني يركض كالحيران، أما الطرف الإسرائيلي فيستغل الميديا الجهنمية التي يملكها في تسويق هذه الاجتماعات داخليا وخارجيا لإقناع العالم بأن الذئب الإسرائيلي يريد السلام.
الغريب أنه في حال فشل الاجتماعات السياسية وتجنبا للإحراج، وتحرجا من الفشل الذريع يخرج المجتمعون بأنهم اتفقوا على جولة جديدة من المباحثات، فهم يريدون أن يتذوقوا كلمة "الاتفاق" ، فيكون اتفاقهم الوحيد على جولة أخرى للمباحثات..!.
وقد سخر الحس الشعبي من الاجتماعات العربية الزائفة التي لا طائل منها، والخلافات العربية الدائمة، فأنتج لنا عبارة "العرب يتفقون على ألا يتفقوا"، وهي عبارة رغم ما بها من طرافة، إلا أنها تتضمن السخرية اللاذعة المؤلمة التي تعكس الواقع العربي المؤسف.
السفسطائيون الجدد يتحدثون عن أهمية الحوار، ويحرصون عليه، وينظمون "الاجتماعات" لكنهم يجهلون قواعده وشروطه، وتكون النتيجة ضياع الجهد والوقت والمال ، وبقاء "الخلاف" مستعرا كقطعة الجمر لا يزيدها الهواء إلا اشتعالا.