منذ بداية فجر الحضارة الإنسانية وتزاوج الحضارات ظاهرة طبيعية لها دورها الهام في تأسيس النهضات البشرية في شتى بقاع العالم، فالإنسان عندما يطَّلع على حضارة الآخر وتجاربه وثقافته تتطور مداركه ومعلوماته، ويكتسب بذلك آفاقاً أرحب من المعرفة والرقي والحضارة.
والدارس لتاريخ الحضارة الإنسانية سيكتشف أن حضارة الإنسان على هذه الكرة الأرضية محصلة لمجموعة من التأثيرات المتبادلة بين حضارات الشعوب.
وقد أخذ الأدب نصيبه من هذه المعادلة الحضارية الكبرى فنما وتطور وحقق العديد من الإنجازات واستفاد الأدب العربي بالطبع، وتحقق ذلك بمساعدة مجموعة من العوامل، فكان للبعثات الخارجية دور، وللمستشرقين دور، وكانت الترجمة العامل الهام والأساسي في هذا الاتجاه، فاستفاد الأدب العربي من ترجمة عيون الأدب الأجنبي، واستفاد الأدب الأجنبي من ترجمة عيون الأدب العربي، والتاريخ الأدبي يثبت على مر عصوره التأثيرات المتبادلة بين هذين الأدبين.
حقق هذا التبادل الثقافي الكثير فاكتسب الأدب العربي اتجاهات جديدة ومكتسبات عديدة على صعيد الرؤية والتناول والأساليب، ففي الشعر ظهرت الرومانسية، وفي النقد ظهرت المدارس الجديدة في النقد كالبنيوية وغيرها، بل أدى ذلك إلى نشأة أساليب إبداعية جديدة كالقصيدة التفعيلية في الشعر مثلاً، وقد ساهمت هذه المكتسبات – لا شك – في إثراء الأدب العربي.
وعلى الصعيد الآخر حققت الترجمة الأجنبية لعيون الأدب العربي الكثير وفي كل يوم يثبت الباحثون حجم الاستفادة التي حققها الغرب من ترجمة التراث العلمي والأدبي العربي على مر عصوره في مجالات الأدب والطب والعلوم وغيرها، ودور العرب الحضاري في النهضة العالمية.
وللترجمة اتجاهان: اتجاه للخارج، واتجاه للداخل بمعنى ترجمة الأعمال الأجنبية إلى العربية من ناحية، وترجمة الأعمال العربية إلى اللغات الأجنبية من ناحية أخرى، ومع الأهمية التي أولاها العرب للترجمة على مر تاريخهم الطويل إلا أن هذا الاهتمام يظل محدوداً وروتينياً مهشماً الآن، فمع وجود حركة ترجمة تقودها بعض الهيئات الثقافية العربية إلا أنها تظل برأيي جهوداً غير مدروسة وغير ممنهجة لا تحقق الفوائد الحقيقية لعملية الترجمة ..! .
ومع أهمية الترجمة بنوعيها الداخلي والخارجي إلا أننا نلاحظ أن معظم إن لم تكن كل الجهود التي نراها حالياً مقتصرة على الترجمة الداخلية، وهي ترجمة الآداب الأجنبية إلى العربية، فهناك السلاسل الثقافية الرسمية التي تعني بترجمة الأعمال الإبداعية الأجنبية إلى العربية، وهناك دور النشر الخاصة التي تنقل للقارئ العربي الأدب الأجنبي بصورة منتظمة ودؤوبة.
إن التعرف على إبداعات الآخر وتجاربه شيء مهم وضروري لتحقيق تلاقح الثقافات والحضارات، ولكن الأكثر أهمية أن يتعرف هذا الآخر على إبداعنا وتجاربنا وقضايانا وأن يتأثر بها، إن المتتبع لعملية الترجمة الخارجية حالياً سيجدها قليلة صدفوية شبه منعدمة، لا تتعدى الجهود الفردية التي تقوم بها دور النشر الأجنبية لترجمة الأعمال المتميزة لبعض الأدباء العرب مثل أعمال نجيب محفوظ عندما حصل على الجائزة العالمية نوبل، وأعمال زكي معلوف عندما حصل على جائزة فرنسية عالمية، وأعمال أديب برز على الصعيد العالمي، أو نماذج من أعمال مجموعة من الأدباء في طور تعاون روتيني بين الهيئات والجامعات العربية والأجنبية، أيضاً أعمال أديب مجتهد موهوب في العلاقات العامة استطاع أن يصل بإنتاجه إلى النشر العالمي.
عدا ذلك لا توجد حركة ترجمة حقيقية ممنهجة تنقل للعالم آثارنا الحضارية والثقافية، وكان من نتيجة ذلك أننا أصبحنا أمة مستهلكة للثقافة وليست مُصَدَّرة لها، مع أن العكس هو المفترض، حتى في الجانب الصحفي الذي يعد أحد جوانب القضية، عجزنا عن التقدم والنفاذ إلى العالمية وقبعنا داخل حدودنا المترامية الأطراف نخاطب أنفسنا فقط، وعجزنا عن مخاطبة الآخر، إذا لم تصدق .. قل لي كم كاتباً عربياً نفذ إلى وسائل الإعلام الأجنبية واستطاع أن يطرح على العالم آراءنا وقضايانا ..؟، هل هناك غير محمد حسنين هيكل .. أعتقد لا ..، يحدث هذا في الوقت الذي يسيطر فيه اليهود على الإعلام الأمريكي ويوجهونه كاللعبة في كل الاتجاهات ..!.
وهذا الضعف الواضح في حركة الترجمة أجهض الفائدة الحقيقية لها، وكان له آثاره السلبية العديدة، لعل أهمها ضعف التأثير العربي على العالم، حضارياً وثقافياً وسياسياً، والدليل على ذلك القضية الفلسطينية التي عجزنا عن فرض رأينا بها وحلّنا لها على العالم رغم أن معظم أوراق اللعبة بأيدينا ..!.
أصبح الطرف الآخر هو الطرف المؤثر والمهيمن و(المبرطع) حسب التعبير العامي البسيط، لأنه استطاع أن يغزونا بثقافته، وأصبحت مهمتنا فقط هي التلقي، لقد أصبحنا للأسف أمة متلقية .. بل وتجيد التلقي والتبعية، لقد تمكن الغرب من احتلالنا ثقافياً وفكرياً، والشواهد على ذلك كثيرة ..!.
قضية الترجمة في رأيي بما تحمل من مدلولات قضية جدُّ خطيرة وهي ليست قضية أدبية بقدر ما هي قضية وطنية وقومية ومصيرية، إنني أدعو العالم العربي للاهتمام بالترجمة للخارج لأبعادها الهامة ثقافياً وحضارياً وسياسياً، حتى نستطيع أن نكون أمة قوية مؤثرة في العالم، ولتحقيق ذلك أدعو إلى إنشاء وزارة عربية قومية للترجمة تتبع جامعة الدول العربية وتكون لها مقار في كل الدول الأجنبية تضطلع بهذا الدور الحيوي والهام.
لو خصصنا جزءاً بسيطاً من الإنفاق العسكري الذي تنفقه الدول العربية سنوياً ودعمنا جبهة الترجمة سنحقق الكثير ليس على الصعيد الثقافي فقط ، وإنما على الصعيد السياسي والعسكري أيضاً.
صدقوني لقد انتهت الحروب العسكرية، والحروب القادمة ستكون حروباً حضارية وثقافية، ويجب أن نستعد لذلك ..!