الظلم أكبر ذنب يمكن أن يرتكبه الإنسان على الأرض، وفي المقابل فإن العدل أعظم ما يمكن أن يقدمه ليكون جديرا بخلافة الله في أرضه، ولعل الدليل على عظم الظلم أن الله عز وجل حرمه على نفسه، بالظلم يضع العبد والعياذ بالله نفسه مكان الله، يخترع قانونا خاصا من وحي خياله، فيعطي هذا، ويمنع هذا، وفقا للأهواء والأمزجة، وهذا من أعظم الذنوب. تماما كمن يستأمنك، ويمنح لك توكيلا بإدارة منزل، فتستغل أنت التوكيل، وتبيع المنزل لنفسك.
الظلم تزوير لتعاليم الله ووصاياه، وحكمته في خلقه، وأخطر أنواع الظلم الذي يتم باسم الدين، وبذلك تكون الجريمة جريمتان، تزوير تعاليم الله ووصاياه من ناحية، والادعاء على الله بالكذب من ناحية أخرى. لقد أمرنا الله بالعدل، ووضعه معيارا للحياة في الدنيا، لأن بالعدل وحده ينمو المجتمع المسلم ويتطور، وبالظلم يتآكل المجتمع كما تأكل الأرضة قطعة الخبز.
لذلك كان النظام القضائي هو الدعامة الأساسية لنهضة أي بلد، فالقضاء العادل هو الذي يندرج تحته المواطنين سواسية ، كل يأمن على ماله وعرضه ومستقبله، وعندما يغيب العدل في المجتمع يبرز قانون كالغابة التي يأكل فيها القوي الضعيف.
الأسلحة قد تحمي المجتمع من الخارج، ولكن العدل هو الذي يحميه من الداخل، فإذا غاب العدل يتصارع أبناء المجتمع الواحد، وبدلا من وجود قانون واحد عادل، تبرز العديد من القوانين، كل يحمي نفسه بأسلوبه الخاص، وهذا هو التهديد الحقيقي للوطن؟.
ومع تمتع الدول العربية بأنظمة قضائية متكاملة، إلا أن الواقع يقول أن هناك خلل يشوب هذه الأنظمة، وأن القضاء حتى في أكثر الدول ديمقراطية يحتاج إلى الكثير من الإصلاح. ومن السلبيات الأساسية في الكثير من الدول عدم استقلالية القضاء.
القضاء في معظم الأحيان أحد أذرعة الحكم، تابعا للسلطة التي تحكم، يحصل على ميزانيته ورواتبه وامتيازاته من الحكومة، وهو حتى وإن لم يقصد الانحياز سينحاز بالسليقة، تبعا للمثل الذي يقول "اطعم الفم تستحي العين".
القضاء يجب أن يكون قويا مستقلا ، تتوفر فيه كل عوامل الحياد والعدل والموضوعية، ولا يجب يكون هناك أي تأثير عليه ، لأن وجود هذا التأثير سينقض الاستقلالية، وبالتالي سينقض العدل.
القضاء في معظم الأحيان يعاني من البطء، فهو يمشي كالسلحفاه، والعدالة البطيئة حتى لو جاءت في النهاية عادلة، فهي عدالة ظالمة، لأن من أساسيات العدل الحكم العادل السريع الذي يشفي الغليل، ويعيد الحق إلى أصحابه. التأخير في إصدار الأحكام قد يتأخر لدرجة أن صاحب الحق لا يحصل على حقه، فكم من الأحكام تأخرت ولم تصدر إلا بعد وفاة الضحية، وكم منها قد تأخر ، وتركت الظالم ينعم بسرقاته، والمظلوم يعاني، وعندما صدرت لم تجد الظالم لتقتص منه، ولم تجد المظلوم لتعيد إليه حقه.
من السلبيات التي يعاني منها القضاء العربي أيضا هو التفرقة بين الناس، فعندما يذنب المواطن العادي فإن القضاء يقتص منه، وإذا أذنب أحد من أفراد الحكم أو أصحاب النفوذ، فإن الوضع يتغير ، وتقوم العدالة بعمل تحويلة، كما يحدث في الطرق المرورية لتجنب أصحاب النفوذ، وهذه بالطبع العدالة المنافقة التي تنافق الحكام وأصحاب النفوذ، ونسى هؤلاء قول النبي الكريم "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
القضاء في كثير من الدول يسري على الفقير والبسيط، ولا يسرى على السادة أصحاب النفوذ السياسي والمالي، بمعنى أكثر تبسيطا يمشى على السلم، فيمشى على درجة ، ويترك درجة .
من السلبيات التي يعاني منها القضاء العربي أيضا التمييز ، وللتمييز أنواع كثيرة، كالتمييز بين الرجل والمرة، أو بين المسلم وغير المسلم، وقد يكون بين المواطن والوافد، وقد يكون أيضا بين فئة وأخرى، والتمييز يتنافى مع مفهوم العدالة نفسه، فالعدالة الحقيقية عمياء لا تفرق بين رجل وامرأة، أسود وأبيض، مسلم أو غير مسلم، مواطن أو أجنبي، قبيلي أو غير قبيلي، ولكن التمييز القبيح موجود، ويمكن بإجراء دراسة بحثية بهذا الخصوص اكتشاف تضارب الأحكام تبعا للجنس والنوع والفئة والسلطة والنفوذ والوضع الاجتماعي .
والعدالة قد تلعب دورا في تقنين الظلم، وهو الدور الذي يلعبه المحلل لإعادة زوجة إلى زوجها، يحدث ذلك عندما يعاني القانون نفسه من خلل ، فعندما يلجأ القاضي الى قانون، ويتبين أن القانون نفسه قانونا معيبا، فإن المشكلة ستكون أكثر فداحة من الحكم الخاطيء أو الظالم ، لأن الظلم سيكون هنا مدعما بالقانون، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك، فهناك عدد ليس قليل من القوانين المعيبة التي تتنافى مع الشرع، وتتنافى مع منطق العقل والعدل والحياد.
من هذه القوانين القانون الذي يعفي أو يخفف القاتل من العقوبة في حالة جرائم الشرف، والذي يتخذه البعض وسيلة لقتل الأمهات والأخوات والخروج من القضية مثل خروج الشعرة من العجين. من هذه القوانين أيضا ما تكون فيه العقوبة لا توازي الجريمة، كأن يحصل القاتل عن طريق الخطأ على أحكام بالسجن ثلاثة سنوات، أو من يسرق الآثار ويحصل على الحكم بالسجن سنة أو سنتين، أو من يختلس الملايين، ويحكم عليه بالسجن سنوات معدودة.
وتلعب ثغرات القانون دورا كبيرا في شل يد العدالة وأحيانا قطعها، حيث يستغل المحامون ثغرات القانون لتهريب القتلة والمجرمين من السجون، وإنقاذهم من المقصلة، حتى أن المجرمين نفسهم أصبحوا يعرفون ثغرات القانون قبل ارتكاب جرائمهم، أتذكر أن أحد القتلة الذي حكم عليهم بالقتل الخطأ أخبرني أنه عن القتل يجب أن يضرب الشخص أكثر من ضربة، لأن ذلك يحول القضية من تصنيف "القتل العمد" إلى "القتل الخطأ"، أو تصنيف "ضرب أفضى إلى موت"، وعقوبتها السجن لمدة قد لا تتعدى ثلاث سنوات.
ويلعب النقض أحيانا دورا في ضياع الحقوق، حيث يلجأ المحامون إلى الثغرات التي في القانون لتخفيف الحكم على المجرمين، من ذلك ماحدث في قضية العشرة أشخاص الذين اختطفوا زوجة من منزلها واغتصبوها، وقاوموا السلطات بالسلاح عندما تدخلت لإنقاذها، فقد حكم عليهم في محكمة أول درجة بالإعدام، ولكن محكمة النقض نقضت الحكم، وأمرت بإعادة محاكمتهم أمام دائرة أخرى.
وفي بعض الدول يوجد قانون، وفي جانب آخر يوجد القانون الموازي، فهناك العادات والتقاليد التي تكون أحيانا أقوى من القانون، وترضخ الدولة في بعض الأحيان إلى القانون المجتمعي حتى لو تناقض مع العدل، ويحدث ذلك في بعض الحالات منها وضع اليد على الأراضي، والثأر ، وجرائم الشرف، كما يحدث في حالات تحول غير المسلم إلى الإسلام، كما حدث في حالة المسيحية وفاء قسطنطين زوجة القس التي أسلمت، ولعبت الدولة المصرية دورا سلبيا، تجنبا للمشاكل مع الأقباط، ولم تنفذ قاعدة إجارة المسلم، ولم تنفذ حتى القيم الانسانية العالمية التي تنص على حرية اختيار المعتقد، وسلمت وفاء إلى الكنيسة، وقد تردد بعد ذلك أنها قتلت.
والعدالة في بعض الأحيان تستند إلى نصوص في الدين وتفسرها على هواها، فتكون أحكامها جائرة ظالمة، وأخطر مافي هذا النوع من القضاء أنه يفسر الدين بطريقة خاطئة، وتكون النتيجة أحكاما ظالمة تشوه الدين وتسيء إلى سمعته، ومن هذه الأحكام ، الحكم بالتفرقة بين زوجين بدعوى عدم تكافؤ النسب.
وهناك "العدالة المزيفة" وفيها يرتدي القتلة أوشحة القضاء، ويجلسون على منصة الحكم، ويصدرون أحكامهم الجائرة الظالمة، ويجسدون ما نسميه "الأحكام السياسية"، وهو ما يحدث في اسرائيل التي تحتل أراضى الفلسطينيين وتنتهك حقوقهم، وتدمر ممتلكاتهم، وتأسر السيدات والفتيات، وتغتال الأطفال، وفي الوقت نفسه تدعى الديموقراطية، وتستخدم العدالة المزيفة لتحقيق مخطاطتها الاستعمارية، فتصدر أحكاما بهدم منازل الفلسطينيين، وطردهم من قراهم، وسجن النشطاء والمقاومين، وتهويد القدس.
العدالة في العالم العربي غائبة مقيدة، ورغم وجود حالات مضيئة لاستقلال القضاء على مر التاريخ، وأدوار مشرفة للقضاة العرب، فإن "القضاء العربي" مازال يحتاج إلى إصلاح وتقويم ، .. ولعل ذلك أحد أسباب الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية العربية.
القضاء العادل هو الطريق الوحيد للتنمية والبناء والقضاء على الفقر والبطالة وحل الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية، واستقلال القضاء هو الخطوة الأولى التي تحقق ذلك.