الحلال بين والحرام بين، والعدل ظاهر كالشمس، والدكتاتورية واضحة جلية، والمثل يقول "من لايرى من الغربال أعمى"، ولكن البعض يصر على الوقوف أمام الطبيعة والفطرة والمنطق وناموس الكون، ويتغزل في الطغاة، هل الأمر يأتي على سبيل التعصب، فالعربي اعتاد على التعصب لقبيلته وعائلته وحسبه ونسبه، حتى ولو كان هذا النسب لا يشرف. والعائلة المصونة تعمل في إدارة مراجيح مولد النبي.
العربي في بعض الأحيان يبالغ، تماما كما تبالغ اللغة العربية، فتجعل محمد شجاعا كالأسد على سبيل التشبيه، وتجعل الشوق نارا عن طريق الاستعارة.
هل السبب هو استئناس القمع ، حيث تسبب طول سنوات القمع في اعتياد السجين على السجن، فكلما أفرجوا عنه وأخرجوه يعود من جديد، لأنه هناك سيضمن الغذاء والعلاج والمأوى؟أم أنه الاعتياد الذي يجعل البعض يتمسك بالقديم، حتى لو كان هذا القديم متخلفا، أم ترى السبب هو تمسك الإنسان عادة بـ "الذي يعرفه" جريا على المقولة الشهيرة "اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش"، و"إن فاتك الميري تمرغ في ترابه".
هل السبب عملية غسيل المخ التي تعرض لها الإنسان العربي على مدى عقود . حيث ظل سنوات طويلة يؤمن أن الحاكم أبوه وأمه وكل عائلته. والثقافة العربية التي تجعل من العار أن يخرج الإنسان على أبيه؟.
قد يكون مادح النظم الدكتاتورية مستفيد مباشر أو غير مباشر من هذه النظم، أثرى في ظل الدائرة الكبيرة من المعارف والمحاسيب، قد يكون موظفا في منظومة إعلامية هدفها الترويج للطغاة كما كان يفعل الحزب الوطني المنحل الذي أسس لجنة ألكترونية بالحزب، عين بها موظفين، كل مهمتهم مدح الحاكم، والتغزل الفاحش في عبقريته، وحكمته، ووطنيته، ويروج لمنجزاته الكاذبة.
أم ترى أن السبب اختلاف الثقافات ، فالشيء الذي يقنع به شعب، قد لا يقنع به شعب آخر، وفي الوقت الذي يوجد فيه شعب كل طموحه المأكل والمشرب، هناك شعوب لا تقل طموحاتها عن الحرية الكاملة.
يقول الأثر "إذا ابتليتم فاستتروا .."، ولكن البعض يرفض الاستتار، ليس ذلك فقط، ولكنه يتبجح، ويتباهى بالأساور الحديدية الموضوعة في يده وعنقه، كالشاعر المنافق الذي يكتب القصائد في مديح السجان. كيف يمتدح مواطن حاكما قتل ألف مواطن من شعبه في غضون أسابيع، وكيف تستطيع أن تقنعني بديمقراطية حاكم قتل 30 ألفا من شعبه خلال أيام لمجرد أنهم طالبوا بالحرية؟.
إحدى الصديقات على الفيس بوك تهوى امتداح الأنظمة الدكتاتورية، فهي لا تكتفي بمدح الطاغية في بلادها ، ولكن تمدح أيضا الطغاة في البلدان المجاورة، في مواقف ذكرتني بمهنة "المعددة" التي كانت تؤجر في الأفراح لترقص وتهلل وتزرغد، وتؤجر في المآتم لتبكي وتولول.
هذا الأسلوب كان من الممكن أن يجدي منذ عشرين عاما، في عصر التلفزيون الأبيض والأسود، وفي ظل الإعلام الحكومي الواحد القادر على مسح الأدمغة، وإقناعك أن كسرة الخبز تورتة، والحصيرة فراش من ريش النعام. ولكن في عصر التقنية والإعلام الواحد والعالم الواحد، فإن مدح الطغاة ضحك على الذقون.
رفعت ثورتا تونس ومصر سقف المطالب الشعبية، وبدأت الشعوب العربية في المطالبة بحقوقها وأولها الحرية، هناك دول مغلقة ثرية أبعد ماتكون عن الديمقراطية بدأ الشباب والشابات بها يتحدثون لأول مرة عن الحرية ، لقد كشفت الثورات العربية القمع الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي عانت منه الشعوب العربية، وألهمت ثورتي تونس ومصر الشعوب الأخرى، فبدأت عجلة الثورات، لا أعتقد أن من تذوق نسيم الحرية سيعود للجلوس داخل القبر.
للعدل معايير إنسانية عالمية لم نخترعها نحن، ولكنها معايير قديمة جدا، وردت في تعاليم الإسلام العظيم الذي جاء لينشر العدل والمساواة والحرية، ولكن البعض يحاول أن يفسر "العدل" على هواه، بل يفسر الدين على مزاجه، ليبرر بقاءه وتسلطه. والبعض يفسر الثقافة على طريقته، ويتعلل بالخصوصية، ويرد على المطالبات بالديمقراطية بأن لكل مجتمع ثقافته وعاداته التي يجب مراعاتها.
قيم العدل الإنساني واحدة. لم يختص بها دين أو عرق أو جنس، فالإنسان خلقه الله حرا، ومن حقه أن يتمتع بالعدل والمساواة والحرية، ولكن البعض مازال يؤمن بعصر العبيد، ويتمسك بقضبان الزنزانة ، ويروج لثقافة الضعف والهوان، ويتغزل في الطغاة، ويدبج في مدحهم المعلقات العشر.