في السبعينيات كان هناك إعلان تلفزيوني شهير بعنوان "حسنين ومحمدين"، تقول الأغنية المميزة له "حسنين ومحمدين .. زينة الشباب الإثنين". ويدور الإعلان عن تحديد النسل، حيث يحاول منتجو الإعلان الموجه نشر فكرة تحديد النسل بطريقة مبسطة، وذلك من خلال محاولة إقناع الناس خاصة الفئات الشعبية بالاكتفاء بإنجاب طفلين فقط .. "حسنين و"محمدين".
سبب الحملة هي الزيادة السكانية المرتفعة، حيث يبلغ عدد سكان مصر حاليا 80 مليون نسمة، واعتقاد الحكومات المصرية المتعاقبة أن هذه الزيادة هي السبب الأساسي في فشل خطط التنمية، لذلك كان الحل هو محاولة الحد من الزيادة السكانية، بإقناع الشعب بتنظيم الإنجاب والاكتفاء بعدد أقل من الأبناء.
وكان إعلان "حسنين ومحمدين" أحد الإعلانات الشهيرة التي تصب في هذا الاتجاه، وهو نموذج للإعلانات الموجهة التي كانت الدولة تبثها في مجال التوعية العامة، ومن الإعلانات التي تدور في هذا الإطار إعلان آخر كان بطله المعلم محمد رضا، وكانت جملته المميزة "طول ماندي ضهرنا للترعة ، عمر البلهارسيا في جتتنا ماترعى".
ولكن هل نجحت هذه الحملات في أهدافها..؟، هل انخفض معدل الزيادة السكانية؟، هل اقتنع المواطن المصري بميزة الاكتفاء بإنجاب ولد أو اثنين، لكي يتمكن من الإنفاق عليهما ، وتربيتهما أحسن تربية كما تقول الحملة؟.
بالنسبة لحملة التوعية بخطورة البلهارسيا والتي كان إعلانها يطلب أن نعطي ظهرنا للترعة، أي لا ننزل الترعة التي كانت سببا رئيسيا للإصابة ، فإنني اعتقد أن البلهارسيا انتهت من مصر، وذلك بتكور الوعي أولا، ثم بتطور علاجات البلهارسيا والتي أصبح التخلص منها يحتاج فقط إلى تناول ثلاث حبات دواء.
وإن كانت مثل هذه الحملات، وتناول الإعلام المصري لموضوع البلهارسيا قد شوه سمعتنا كمصريين، وربط بيننا وبين البلهارسيا، الأمر الذي دعا عدد من الدول العربية المستقدمة للعمالة إلى اشتراط تجديد إقامة المصريين الخضوع لتحليل لكشف الإصابة بالبلهارسيا من عدمه، رغم أن تواجد البلهارسيا في مصر انحسر من سنوات طويلة، وأن العلاج منها أصبح أسهل من علاج الأنفلونزا، وأن مثل هذا المرض لا يؤثر على أداء العامل حتى في حالة الإصابة به.
ولكن بالنسبة لحملة "حسنين ومحمدين لتحديد النسل" واضح أنها لم تنجح رغم مرور أكثر من خمسة عشرين عاما على إطلاقها، والدليل على ذلك معدلات الزيادة السكانية المستمرة والتي لم تتراجع قيد أنملة، أيضا اعتراف المسؤولين عن الصحة والسكان اليوم بأن الزيادة السكانية مستمرة، فقد كشف الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع عدد المواليد خلال عام ٢٠٠٩ بنحو ٨%، ليصل عددهم إلى ٢.٢١٧ مليون مولود مقابل ٢.٠٥٠ مليون مولود عام ٢٠٠٨، وذلك رغم الحملات القومية لتنظيم الأسرة.
من البديهي أن تفشل الحملات التي تنادي بتحديد النسل في ظل تقاليد شعبية راسخة تعتبر الذرية "عزوة"، وتؤمن أن الطفل يولد ورزقه معه، وقوله تعالى "وما من دابة على الأرض إلا على الله رزقها"، وأن "المال والبنون زينة الحياة الدنيا". والحديث الشريف " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم يوم القيامة".
أصعب عدو يمكن محاربته هو الثقافة الاجتماعية، فالثقافة الاجتماعية خاصة في العالم العربي تقوى وتتجذر عبر مئات السنين، ومن الصعب اقتلاع ثقافة متعمقة بمجرد خطة توعوية أو إعلان تلفزيوني، الثقافة الاجتماعية في العالم العربي لها قوة أشبه بقوة الدين، حيث تستند في كثير من الأحيان إلى الدين لاستمداد القوة عن حقيقة أحيانا، وعن جهل أحيانا أخرى.
كانت الثقافة الاجتماعية المصرية أكبر عائق في سبيل إقناع المصريين بتحديد النسل، فمازال معدل الإنجاب من ثلاثة أبناء إلى أربعة منتشرا في العديد من الأوساط، كما أن هناك نسبة كبيرة لا تستخدم أدوات تنظيم النسل، مثلا 855 من سيدات الصعيد لا يستخدمن هذه الوسائل، كما صرح وزير الصحة، والذي اتعبر أن الصعيد أكبر عائق لنجاح حملات تنظيم الأسرة.
بالطبع تراجعت أرقام إنجاب سبعة وثمانية أطفال، بازدياد الوعي ربما، أو للظروف الاقتصادية الخانقة، ولكن هذا التراجع لم يؤثر في تخفيض المعدل الكلي للزيادة التي كانت دائما تشبه وابور الجاز، أو قطار الاكسبريس السريع.
كان الإنجاب في بعض الأحيان وسيلة للتغلب على الأزمة الاقتصادية، حيث تفضل الأسر إنجاب المزيد من الأبناء لمساعدة الأب بالعمل. لا يهتم التعليم بقدر وجود شخص جديد يساهم في تحسين اقتصا الأسرة .. بذلك فإن الإنجاب ميزة اقتصادية وليس عبئا اقتصاديا كما تصوره الحملات.
تحديد أو تقليل النسل هو الحل السهل الذي تلجأ إليه الحكومات الفاشلة..، القوة البشرية عنصر مهم في حياة الشعوب، وبدلا من بحث الطرق الصحيحة لاستثمارها وتحويلها إلى طاقة منتجة، يفكر المسؤولون في التخلص منها، والناظر إلى دول العالم سيكتشف أن الكثير من الدول تعاني من قلة أعداد السكان، وتبذل كل الجهود لزيادتها عن طريق تقديم حوافز للإنجاب، ولكن دون جدوى. بل أن هناك حضارات مهددة بالزوال بسبب تراجع معدلات الإنجاب.
الزيادة السكانية لو تعاملت معها الحكومات بالمنطق الايجابي باعتبارها ثروة خام تحتاج إلى تصنيع، ستحقق الفائدة العظيمة، التحدي الحقيقي والسهل والمنطقي هو أن نحول القوة البشرية الهائلة إلى قوة منتجة، ونحولها من عالة على المجتمع إلى رافد حقيقي للاقتصاد الوطني، من خلال خطة زمنية مرحلية.
الإدارة الناجحة ستتعامل مع السكان كعنصر قوة، وليس كعنصر ضعف، فمن الممكن استيعاب جزء ليس بالقليل منها في مشاريع قومية للإنتاج والتصنيع، كما يمكن توجيه جزء من الثروة البشرية إلى سوق العمل الخارجي عن طريق المزيد من الاتفاقيات والإجراءات الخاصة بتأهيل العمالة، وفتح أسواق جديدة لها عربيا وعالميا، .. الأفكار عديدة، ولكن الأهم أن نؤمن بأهمية العنصر البشري، وانه يمكن تحويله من عبء اقتصادي وهمي إلى مكسب حقيقي، ومصدر للاكتفاء والربح.
وكما أن تغيير الموروث الاجتماعي الذي يؤمن بميزة زيادة النسل، فإنه من الصعب أيضا إقناع الحكومات المصرية بعدم جدوى الحملات القومية لتنظيم النسل. رغم الأرقام التي تؤكد عدم فعاليتها، ولن نقول فشلها، لأن مثل هذه الحملات تظل دائما الحل السهل الأقل جهدا ومؤونة من الإنتاج والعمل.