في أحد الأفلام المصرية القديمة الأبيض والأسود يخاطب رجل صديقه متحدثا عن صديق ثالث قائلا "كان هيودي نفسه في داهية، كان بيسوق على سرعة 100 كيلو في الساعة"، .. هذه العبارة الطريفة تشير إلى أن القيادة على سرعة 100 كيلو/ الساعة في الخمسينيات كانت ضربا من التهور، وإلقاء للنفس في التهلكة، وإذا قارنت هذا الوضع القديم بالوضع الآن، ستكتشف أن الأمر قد تغير، وأصبحت القيادة على سرعة 100 كيلو/ الساعة أمر عادي، بل أنك في بعض الدول عندما تقود على بعض الطرق السريعة، إذا قدت بأقل من 100 كيلو/ ساعة يوقفك رجل المرور، ويحرر لك مخالفة، لأن القيادة ببطء على طريق سريع قد تسبب الحوادث.
وهكذا أمور كثيرة في الحياة تغيرت بتغير الزمن، وسوف تتغير بالطبع أمور كثيرة تحدث اليوم، وذلك في مستقبل جديد له قواعده وقوانينه ونظرته الخاصة للحياة.
المدقق في الأمر سيكتشف أن التغير سمة إنسانية، وليس عملا من عمل الشيطان كما يعتقد البعض، التغير ناموس كوني، .. نظرية من نظريات الحياة، ولولا التغير لتوقف الزمن..، التغير عملية حقيقية مستمرة، ليس فقط في العادات الاجتماعية، ولكن في أمور كثيرة، وكثيرا ما يلحق التغيير بأمور نعتقد ونسلم بأنها من الثوابت، مثل التفكير والرؤية الشخصية. التغير سمة أساسية للحياة، ومقوم أساسي لبقائها واستمرارها وتطورها.
ولفظة "الشيطان" هنا رغم أنها مجرد استعارة، إلا أن البعض بالفعل قد يصف الغريب والجديد بالشيطان، كما حدث ذات مرة مع قروية لم تخرج من بيتها أو قريتها طوال عمرها، وعندما اقتضت الحاجة بها إلى السفر للعلاج، أخذها ذووها للمطار، وعندما رأت الطائرة اعتقدت أنها "شيطان"..!، والإنسان دائما عدو لما يجهله وفقا للقول السائر.
التغير شمل الأدوات التي يستخدمها الإنسان، فمثلا في الماضي كان الفلاح يروي حقله عن طريق الساقية، وهي قرص معدني كبير يوضع بشكل رأسي يرفع الماء من عمق الأرض لتوزيعه على مجاري الحقل، وكان الفلاح يستعين بدابة كالبقرة أو الجاموسة تدور أفقيا لتدور الساقية رأسيا فيصعد الماء، ولكن مع التطور ظهرت آلات كهربائية تقوم بالمهمة في ثوان، بضغطة زر، دون استعانة بدابة أو بإنسان.
وهكذا مع كل مناحي الحياة، التغير لحق الأدوات والنظريات، والاكتشافات، والأدوية، وطرق العلاج، والعمليات الجراحية، واللغة، والطب والجراحة، والأزياء، تسريحات الشعر وقصة الشارب والسوالف واللحى، والموسيقى وفنون الأدب.. وغيرها. كان يوجد في الماضي فن اسمه "المقامة" وآخر اسمه "الموشحات؟، لقد اختفت فنون وظهرت أخرى، وتراجعت نظريات وظهرت نظريات أخرى.
وإذا كان كل شيء في حياتنا تقريبا تغير، وإيقاع التغير يعمل على الأشياء كل لحظة بل كل ثانية، فمن البديهي أن يتغير الفكر نفسه الذي يتعامل مع هذه الأشياء، الثابت إذا ظل في موقعه بينما الفكرة تتغير ستحدث صدمة، أو قل مشكلة في الاستيعاب والفهم والتصرف، لذلك فإن التفكير يجب أن يكون دائما متحركا ومتغيرا لكي يتواءم مع حركة الأشياء وتطورها.
انظر إلى المخترعات الحديثة التي نقلت الإنسان من عصر الدابة إلى عصر الطائرة النفاثة والمكوك الفضائي، أنظر إلى الأدوية التي اكتشفت وخففت الكثير عن الإنسان، والإنسان القديم الذي كان يموت بسبب نزلة برد، فكان تطور الطب سببا لإنقاذه، أنظر إلى الأمراض الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل كالإيدز والتهابات الكبد والأمراض الوراثية، وكلها أمراض اكتشفت في العصر الحديث بالبحث والتجربة. أنظر إلى عدسات النظارات القديمة التي كانت تشبه قعر الكوب، وعدسات اللاصقة وعمليات الليزك التي ستنهي ـ عما قريب ـ عصر النظارة.
حتى المناخ الذي يعتقد البعض أنه من الثوابت تغير، والدليل على ذلك ظاهرة ارتفاع منسوب البحر والذوبان الجليدي والاحتباس الحراري. حتى العقيدة الدينية فمع ثبوت قواعدها الإلهية وسننها نبوية، فإنه مع ثبات الجوهر يمكن أن تتغير بعض القواعد والأحكام بتغير العصر، وأحوال الناس، وفي الإفتاء يراعى التغير الذي قد يصيب الأفراد وأحوال البلاد والعباد، كما أن الاجتهاد أمر إلهي، يجدد الدين، ويجعله حيويا صالحا لكل زمان ومكان.
ولكن مع أن التغير سمة العصر وعنصر أصيل في حركة الحياة الموَّارة التي تنزع دائما نحو التطور، هناك ما يرفض التغيير، ويتشبث بالفكرة الثابتة، ويتهم دعاة التغيير بجملة من الاتهامات كالعلمانية والتغريب وغيرهما من التهم التي لا يقصد منها التصنيف، ولكن يقصد منها الإدانة والتشهير والاستعداء.
فعلى صعيد العادات يتمسك الكثير من الناس بتقاليدهم وعاداتهم، حتى لو كانت غير عملية، لا تناسب إيقاع الحياة المتطور، وفي بعض الأحيان يتمسكون بها حتى لو كانت خاطئة تتعارض مع الدين، لقد اتخذ التقليد لدى البعض سلطة الدين وقدسيته، حتى اختلط الأمر على الشخص نفسه، فلم يعد يدري ـ ومعه بالطبع الناس ـ هل هذا من الدين أو العادة؟.
وعلى صعيد التقنية، هناك من يتمسك ـ حتى الآن ـ باستخدام الأدوات القديمة، ويعزف عن استخدام الأجهزة الحديثة إما جهلا بـ "الحديثة"، أو تشبثا بماضيه القديم، وحنينه إليه، وفي حالات نادرة يربط البعض بين الجديد والدين، ويعتقد واهما أن الإسلام يتعارض مع الحداثة والتطور.
هناك من يعتقد أن اللبس الغربي كالبدلة والكرافتة حرام، .. ، وإذا رأى أحدهم شخصا يرتديهما قالوا له "أتقلد الإفرنجة ياشيخ". رغم التطور هناك من يعتقد للأسف الشديد أن التصوير حرام واستخدام اللاب توب حرام والذهاب للنادي حرام. هل تذكرون المعركة الأدبية التي دارت في الخمسينيات بين مصطفى صادق الرافعي والدكتور محمود عزمي، حول الطربوش والقبعة، والمقالات المتبادلة التي اشتعلت بينهما. كل يضع الحجج الذي تبرر تمسكه بما يرتديه..، فالطربوش كان في هذا الزمن يعبر عن الهوية المصرية، أما القبعة فكانت تعبر عن الغرب، وهاهي السنوات تمر والمصريون أنفسهم يتخلون على الطربوش ، ويتخلون أيضا عن القبعة، ويفضلون الرؤوس العارية.
الإسلام دين صالح لكل زمان، وهو دين الفطرة، وقد راعى هذه الفطرة التي تنمو وتتطور للأفضل دائما، وهو دين يرحب بالتطور بل يشجع عليه، من خلال الدعوة إلى السعي والتفكر والتدبر في مخلوقات الله، ولكن البعض يصر على حصر الدين في قوالب جامدة، ويرفضون رياح التطوير.
الرافض للتغيير يضع نفسه في سجن إرادي، يتقوقع داخل شرنقة، ويعيش داخل كهف، لا يحصد إلا العزلة والتخلف، ستأتي لحظة ويكتشف هو نفسه أنه يقف وحيدا في الصحراء، يتحدث بلغة لا يفهمها أحد، يستوقف المارة، ويتعامل معهم بالإشارات، فلا يفهمونه، .. ، يتعجبون منه، ويمضى كل منهم إلى حال سبيله.