أعترف أنني كنت طفلا شقيا في الصغر، والمقصود بـ "الشقي" .. الشقاوة، وهي التمرد على القواعد والعناد والشغب الطفولي الجميل الذي مارسه الكثيرون منا صغارا. كنت أمارس الشقاوة في كل مكان في المنزل والمدرسة والشارع، حتى أن الأهل كانوا يقولون عني "عفريت"، أو بلهجة أخرى طريفة "جن مصوّر".
وكانت شقاوتي بلاحدود، .. أذكر أنني ومجموعة من الزملاء في المدرسة الابتدائية كنا نضع التخت ـ "جمع تختة"، وهي الماصة التي ندرس عليها في الفصل، ـ على السلالم، وندحرجها فتنزل الماصة متدحرجة إلى أن تسقط أسفل السلالم ، فتحدث صوتا مدويا مثل الفرقعة، فتهتز جدران المدرسة.
كنا نقفز من غرفة أبله الناظرة إلى الحديقة، لنقطف الورود والزهور الجميلة ثم نعود أدراجنا، أيضا من نفس الطريق .. شباك غرفة أبله الناظرة، وكان بالحديقة جزءا مخصصا لتربية النحل، وفي إحدى المرات أخذنا الفضول أنا وزميل اسمه أسامة فوزي لرؤية النحل ومداعبته، واقتربنا .. ، واقتربنا أكثر، ولكن في لحظة معينة تعرضنا لهجوم مباغت من أسراب النحل، فأطلقت لساقيّ الريح، أما زميلنا المسكين أسامة فقد تعثر، وغطته عدة مئات من النحل، فتحول إلى كومة سوداء، وكان وليمة شهية لقرصات النحل.
ولم ينقذ الموقف إلا أستاذ حامد رحمه الله أستاذ الزراعة، الذي خلع جاكيت البدلة، وقفز على الطفل أسامة، وغطاه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولن أنسى أبدا زميلي أسامة الذي جاء المدرسة في اليوم التالي وهو متورم من جميع الجوانب كأنه تعرض لعملية سلق.
كنا في هذه السن الصغيرة نعاكس البنات تصوروا، في الابتدائي ونعاكس، ولكننا وياللغرابة وببراءة الطفولة كنا لا نعاكس الزميلة الجميلة، ولكن نعاكس الزميلة المتفوقة ، وعند انتهاء اليوم المدرسي نستأجر دراجات من العجلاتي القريب من المدرسة، ونطارد الزميلة المتفوقة (أ . أ) حتى منزلها، فيخرج لنا أبوها غاضبا، ويطاردنا بالعصا. بالمناسبة هذه الزميلة التي كنا نعاكسها أصبحت حاليا طبيبة مرموقة يشار لها بالبنان.
كانت الشقاوة قاسما مشتركا لدى الجميع، ولكن لم يكن أحد يتوجس من شقاوة الطفولة، كما يحدث الآن، وكانت الشقاوة مرحلة طبيعية في حياة كل طفل، كنا نمارس الشقاوة وفي الوقت نفسه ندرس ونتفوق ونحفظ الأناشيد ونحضر حصص الموسيقي، ونمارس الخطابة في الإذاعة المدرسية.. ، وفي الوقت الذي يشكو البعض من شقاوتنا كان نفس هذا البعض يشيد بتفوقنا اللافت.
وفي المدرسة الثانوية كنا نمارس شغبنا المعتاد، وتطور الأمر ذات مرة، وأخرجني المعلم من الفصل، ورفع الأمر للمدرس الأول .. وبدأوا في التحقيق معي، وكان المحقق أستاذا فاضلا اسمه هو عبدالمنعم أبو النجا رحمه الله، وعندما بدأ في كتابة أقوالي طلبت منه تدوين كل ما أقوله، وبدأت في نقد حال التعليم في المدرسة وافتقادها للأنشطة، وعدم تواصل المعلم مع التلاميذ، وأخذت أحلل أسباب الظواهر السلبية للطلاب، وكلما نظر إلى المحقق مندهشا مما أقوله، أكرر عليه طلبي منه كتابة كل ما أقوله، وأنهيت حديثي بعبارة "لك الله يامصر"، فما من المعلم القدير إلا أنا قام باسما، ومزق أوراق التحقيق وقال لي مازحا "اجري على فصلك".
أما المعارك التي كانت تدور بين المدارس، فحدث ولا حرج، وهي تحتاج إلى كتاب خاص، باختصار كنا جيلا من العفاريت، ولكني كبرت، ومعظم أصدقائي كبروا وتفوقوا وتميزوا وشغلوا العديد من المناصب المرموقة داخل مصر أو خارجها. لقد كانت الشقاوة أسلوبا طبيعيا للتنفيس عن النفس، وإخراج النشاط الزائد، ولم تكن سلوكا هدفه الإيذاء أو إلحاق الضرر بالناس.
لم تكن شقاوتنا تثير القلق. بل أن البعض كان يرى أن الطفل الشقي في الصغر، يكون هادئا في الكبر، وكانوا يعتبرون الشقاوة علامة على النباهة والذكاء، ولا أدرى ماهي المرجعية لهذا الكلام، ربما تكون مرجعية ذلك هي المرجعية الشعبية التي في كثير من الأحيان تكون صادقة، حيث تكون ناتجة عن خبرة الأمهات والجدات في التربية.
أتذكر ذلك كله عندما أتابع اليوم الحديث عن شقاوة الأطفال والجدل الدائر حول الضرب في المدارس، وحالات العنف المدرسي التي تتناولها الصحف، والتي تتسبب أحيانا في إصابات وأحيانا وفيات. وأشفق كثيرا على هؤلاء الذين يتحدثون وينظِّرون ويشكون من تمرد هذا الجيل وشقاوته. ويرجعون له السبب في العنف المدرسي.
حتى على مستوى الأسرة يشكو الآباء دائما من شقاوة أطفالهم، وتبكي الأم ، وتشكو من عدم قدرتها على السيطرة على شقاوة أطفالهم ، وعدم سماعهم الكلام ، والفوضى اليومية التي يحدثونها، فالمنزل الذي تقضى الأم في تنظيفه وترتيبه يوما يعيده الأطفال إلى سيرته الأولى في دقائق.
وتخشى الأم من أن تكون سلوكيات الطفل سمة عامة لشخصيته، ويغضب الأب من سلوكيات أبنائه، ويزعق، ويلجأ على الضرب، ويتكهرب الجو، وتستنفر الأسرة قواها لمواجهة ظاهرة اسمها "شقاوة الطفل"، والغريب أنه على العكس إذا كان الطفل هادئا لا يتحرك، ولا يتفاعل مع أقرانه أثار ذلك قلق الآباء، وتوجسوا أيضا، واعتبروا ذلك إشارة إلى وجود خلل.
تفتقد الأسرة العربية إلى الكثير من الخبرات التربوية، أهمها ما يتعلق بالتعامل مع شقاوة الأطفال، وتمرد المراهقين، وجنوحهم في حالات متقدمه، والسبب أن هناك جهل تام بمعرفة طبيعة الطفل، ونوعية المرحلة التي يمر بها، والتفرقة بين الشغب الطبيعي، وما يصل منه إلى الحالة المرضية التي تستلزم التدخل، جهل الأبوين كيفية التعامل مع عناد الطفل وعدم طاعته للأبوين وسلوكياته غير المرغوبة، وكيف نحول هذا الشغب الطفولي إلى طاقة إيجابية تدفع الطفل إلى التفوق والتميز، بدلا من أن تدفعه للتراجع.
على الآباء أن يتعاملوا مع الطفل ككائن متغير يمر بعدة مراحل نفسية وبدنية، والتعامل معه وفقا للمرحلة، لا أن نتعامل معه بأسلوب واحد في كل المراحل. وفي مرحلة الطفولة، وما تشهده من شقاوة ، على الأبوين أن يراقبا الطفل، وألا يصطدمان معه، برفض السلوك والنهر عنه، ولكن عليهم تقنين هذه الشقاوة، وإضافة وسائل الأمان لها، حتى لا يؤذي الطفل نفسه، فمثلا عملية الشخبطة على الجدران التي مارسناها جميعا ونحن صغارا، نجحت أمانة جدة في تقويم هذا السلوك لدي الشباب والمراهقين، فبدلا من أن يكتبوا على الحوائط العاموا ويشوهو الجدران بعبارات مسيئةـ، خصصت سورا في وسط المدينة يمارس عليه المراهقون الرسم والشخبطة وإخراج ما في مكنوناتهم من مواهب فنية وخطية.
طفل اليوم خاصة في هذا العصر المزدحم بوسائل متنوعة للمعرفة، لا يذعن عادة للأوامر والنواهي، وبالتالي لا يذعن ـ بطبيعته الطفولية ـ لمنطق العقل، ولكن بوسعنا كآباء منحه الفرصة لممارسة الشقاوة، ولكن برقابة الأسرة وإضافة عوامل الأمان، وعدم الإضرار بالغير. بذلك نحسن مسار السلوك ونحوله من سلوك ضار إلى مجرد نشاط بدني لا يضر أحدا.
شقاوة الطفولة تنفيس طبيعي عن النشاط والمشاعر والقدرات، لا يجب أن تثير القلق، ورفض هذه الشقاوة سيؤثر سلبا على شخصية الطفل، ولكن الأصح ترويضها وتقويمها، وتحويلها إلى مسارات إيجابية تثري إمكانيات الطفل وقدراته ومواهبه.