الأمل وقود أسطوري للحياة، فلولا الأمل لما كانت للحياة قيمة، ولا صار للمعيشة طعم، ففي الواقع القاتم الهائج كالأمواج، نحتاج دائما لسفينة نوح تلوح في الأفق، تمنحنا الأمل في النجاة، وفي الظلام المطبق كالأخطبوط، نتطلع إلى شمعة يتأرجح ضوؤها من بعيد تمنحنا الأمل في النور، .. ، وعند الهزيمة نتوق إلى كلمة تشجيع تمنحنا القوة، لننهض من جديد، .. إذا غاب الأمل صدقوني .. سيجلس الإنسان في بيته ينتظر الموت.
هذا ليس كلاما إنشائيا، ولكنه الواقع، وإذا كان لكل شيء مبررات ، فإن مبررات الأمل كثيرة، المبرر الأول أن الله تعالى خلق الكون لحكم بليغة، تتركز في ثنائية "العمل والجزاء" فالرغبة في الجزاء الحسن دافع أساسي للعبد لكي يعمل عملا صالحا، والجنة هي الأمل الكبير للمسلمين.
بالطبع هناك درجة من الحب الإلهي أعلى من هذا الغرض البشري الطييعي، وهو ما يظهر لدى الصوفية، وتمثله العابدة الزاهدة رابعة العدوية ، وقد عبر عن هذه الدرجة من الحب الإلهي الشاعر الراحل طاهر أبو فاشا، والذي قال على لسان رابعة بصوت أم كلثوم (أحبك حبين حب الهوى.. وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا/ فأمَّا الذي هو حبُّ الهوى.. فشُغلِي بذكرك عمَّن سواكا/ وأمَّا الذي أنت أهلٌ له.. فكشفُك لي الحُجبَ حتَّى أراكا / فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي.. ولكن لك الحمد في ذا وذاكا).
في هذا النوع من العبادة يتسامى العبد، ويغرق في الحب الإلهي، ليس طمعا في الجنة، ولكن لأن الله بعظمته وجلاله يستحق الحب والعبادة. مع إقرارنا بوجود هذا النوع من الحب إلا أن طمع العباد في رضوان الله، والأمل في دخول جنته محركان أساسيان، ودافعان لا يمكن تجاهلهما في عملية العبادة.
المبرر الثاني أن الله تعالى قدّر لعباده دائما الجانب الحسن من الأشياء، حتى لو قابل الإنسان قدرا سيئا، لأنه في الظاهر العام سيكون القدر سيئا ، ولكن في جانبه غير المنظور سيكون إيجابيا. على سبيل المثال ربما يكتب الله للعبد أن يفصل من عمله، ليكتب له الله بعد ذلك عملا أفضل، وقد يكتب الله وفاة أحد أبنائه ليعوضه بطفل خيرا منه، ولنا في قصة موسى والخضر عليهما السلام، والتي وردت في سورة "الكهف" عبرة، فعندما خرق الخضر السفينة استنكر موسى ذلك، وقال لقد خرقتها لتغرق أهلها، وعندما رأى موسى الخضر يقتل غلاما، اعترض قائلا أنك قتلت نفسا زكية بغير نفس، وعندما رأه يهدم جدارا استغرب ذلك، وقال أنه كان يجب عليه إقامته لاهدمه ليحصل على الأجر والثواب.
وبعد ذلك قام الخضر عليه السلام بتأويل ما حدث، يقول الله تعالى على لسان الخضر عليه السلام (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا، وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا، فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا، وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (سورة الكهف) .
وهذا يتفق أيضا مع التوجيه الإلهي الذي يقول (عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (سورة البقرة).
ولكن الإنسان دائما ينظر تحت قدميه، ولا يستوعب الحكم التي يضعها الخالق، وجوانب الخير التي يكتبها دائما لعباده، فإذا واجهتَ قدرا سيئا في ظاهره فلا تجذع، فإن وراء هذا المعنى الظاهر السيء ، لا شك معنى جميل ، فمن رحم المأساة يولد الفرح، ومن زحام الشر يخرج الخير، ومن قلب الظلام ينبثق النور.
ولعل الدليل على غلبة الجانب الحسن أن ذلك أحد مقومات استمرار الحياة نفسها ، فلو غلب الجانب السيء، لاضمحل المجتمع، وتلاشى في النهاية، وهذا يتعارض مع حكمة الخالق في خلق مجتمع إنساني مستمر قادر على الاستمرار والتطور، أضف إلى ذلك أن الله وعد عباده باليسر بعد العسر عندما قال "إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا". لذلك كله يجب أن نتمسك بالأمل، نتشبث به كما يتشبث الغريق بطوق نجاة.
مبرر آخر للأمل هو أن الأقدار مكتوبة، والأرزاق محددة ، كتبها وقدرها الله لعباده، عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا".
ولكن الأمل لا يعنى أن أتمدد على ظهري، وأنتظر الفرج، ولكن الأمل يجب أن يكون مقترنا بالسعي والعمل على تغيير الواقع السيء، فالجائع لن تهبط عليه مائدة من السماء ، ولكن يجب عليه السعي للحصول على رزقه. لأن هذه هي المشيئة الإلهية والحكمة من خلق الكون.
كان من الممكن مادام الله تعالى قدر الأرزاق أن يعطي لكل منا رزقه، ولكن الله ربط بين الرزق وبين سعي العبد للوصول إليه، وهنا تتحقق حكمة من حكم الحياة وهي السعي والسبل المستخدمة في هذا السعي هل هي مشروعة أم لا ، وهنا يتحدد الحساب والجزاء.
ولكن المتأمل في الواقع سيكتشف أن الكثيرين فقدوا الأمل، وبالتالي فقدوا الثقة في الحاضر والمستقبل، وهذا هو سبب التعاسة التي تشعر بها الأجيال الجديدة. رغم كل مباهج الحياة التي تحيطهم.
الأمل قوة غامضة تمنح المهزوم القدرة على الفوز، وتمنح الخائف المرتعش الأمن بعد الخوف، الأمل هو الإرادة الإلهية التي تصنع المعجزات.