يتعامل خبراء علم الاجتماع مع "الأم" كقضية اجتماعية بحتة، فالأم ـ كما يقال دائما ـ لبنة مهمة من لبنات المجتمع، تضطلع بدور مهم في التنشئة والتربية، فهي مربية الأجيال، وصانعة الحضارات، ويتفق الجميع على أهمية دور الأم، ويدللون لذلك بالحديث النبوي الشريف الذي كرر فيه الرسول الكريم لفظة الأم ثلاثة مرات كإجابة لمن سأل "من أحق الناس بحسن صحابتي؟".، ثم قال بعد ذلك "أبوك"، ويرددون دائما الحديث المختلف على صحته "الجنة تحت أقدام الأمهات".
من الأزل لم يخرج تعاملنا مع الأم عن هذا المعنى، ولكن رغم جلال هذا المعنى وقيمته، فإننا حصرنا "الأم" بذلك في دور واحد، رغم أن للأم أدوار أخرى منظورة وغير منظورة لم يتطرق لها أحد.
إذا نظرنا للأم من زوايا أخرى، سنكتشف أننا أمام أبعاد أخرى كثيرة لا تقل عن البعد الأصلي، وهو الإنشاء والتربية، فالأم إضافة إلى كونها قضية اجتماعية وتربوية .. قضية سياسية، نعم، ففي هذا العصر أصبح للأم دور سياسي مهم، لا يمكن إغفاله، وهو دور لم يتطرق إليه أحد، لقد أغفل الكثيرون دور الأم في بناء المجتمع السياسي السليم القادر على توفير احتياجات مواطنيه، والحفاظ على حقوقهم، لقد تجاهلنا طويلا دور الأم في نهضة الأمم والشعوب، وقد لامس أمير الشعراء أحمد شوقي هذا البعد عندما قال " الأم مدرسةَُ إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيب الأعراق". كما ظهر أيضا هذا البعد عندما شبه البعض الأم ـ حتى ولو كان ذلك على سبيل الاستعارة ـ بـ "الوطن".
وإذا نظرنا إلى "الأمومة" كقيمة إنسانية سنجد أنها تختزن داخلها الكثير من القيم، مثل العطاء والحب والإخلاص والإيثار والكفاح والتربية والتعليم وغيرها، وهي جميعها صفات لم تجتمع في كائن واحد غيرها.
في البداية لست بحاجة للتدليل على الدور الايجابي الذي يمكن أن تلعبه الأم في إصلاح المجتمع، ولكن الجديد الذي أود التركيز عليه هنا دورها في الإصلاح السياسي، ففضلا على دورها المباشر والمهم في العمل السياسي، والذي تمكنت المرأة العربية من الحصول عليه في الكثير من الدول، وأهمية تفعيل هذا الدور، فإن على الأم دور غاية في الأهمية في المطالبة بحقوقها السياسية، وبالتالي نشر الفكرة السياسية الصحيحة وترويجها وتعليمها على الأقل في محيطها الصغير .. الأسرة، ولدينا نماذج عديدة.
على سبيل المثال إذا فتحنا ملف الإرهابيين الذين ضلوا واعتنقوا الأفكار المتشددة، وأصبحوا أدوات هدم وقتل وتدمير في المجتمع، سنكتشف أن نسبة ليست قليلة من هذه الأسر تعتنق فيها الأم أو الزوجة أو الأخت هذا الفكر الضال، وأن هؤلاء قد يكونون أحد منابع الفكرة الضالة، أو يكونوا من المؤيدات والداعمات لها على أقل تقدير.
الأم التي ترضع طفلها العادات الحسنة والأخلاق وتعلمه أول حرف .. يمكن في المقابل أن تعلمه الكراهية، والتشدد، وتزرع داخله بذرة الإرهاب، والغريب أنه لم تنتبه الأجهزة الأمنية لدور الأم ـ في حالة انحراف هذا الدور ـ في تربية أفراخ الإرهاب، كذلك لم تنتبه الدوائر الاجتماعية لهذا الدور الخطير، وبالنظر إلى الترابط الاجتماعي بين الأسرة المصرية وطغيان سلطة الأب، فإن فكرة انقياد أو تأييد أفراد الأسرة للفكرة الخاطئة وارد جدا، ومتوقع، وقد رأينا في عائلات بعض تجار المخدرات، كيف كانت سيدات الأسرة يقاومن السلطات عند محاولة القبض على رب الأسرة المتهم، لدرجة حملهن السلاح، ومقاومتهن السلطات بالقوة.
للمرأة دور خطير في بث الفكرة الضالة وتغذيتها، وخاصة في المجتمعات المغلقة التي تحجب المرأة وتمنع الاختلاط بين الجنسين، وتوفر للمرأة الخصوصية الكاملة . هذه الخصوصية التي قد يكون من مضارها عدم معرفة الكثير مما يدور في هذا العالم المغلق المنعزل، وهذه كلها أبعاد سياسية لم يتطرق لها أحد.
جانب آخر وهو أن المرأة كغيرها من عناصر المجتمع تمر مراحل من التطور وتطرأ عليها تغييرات سلبية كانت أم إيجابية، وقد يكون أساس بعض هذه التغيرات سياسي، على سبيل المثال إذا نظرنا إلى المرأة المصرية وقارنا بين المصرية في الخمسينيات والمصرية في عام 2010 ، سنكتشف وجود الكثير من التغيرات، على صعيد الفكر والأزياء والتوجه وأسلوب الحياة، وإذا قربنا الصورة أكبر، بالميكروسكوب الاجتماعي سنكتشف أن هذه التغيرات مردها في الأساس تغيرات فكرية وسياسية. وهذا البعد أيضا لم يتطرق إليه أحد.
من هذه التغيرات الملحوظة هذا التغير الكبير الذي شهدته "أزياء" المرأة المصرية، فبعد أن كانت المرأة في الخمسينيات شبيهة بالمرأة الأوروبية، ترتدي الجيب والبنطلون، وهي نفسها الصورة التي نشاهدها في أفلام فاتن حمامة وماجدة وناهد يسري ونادية لطفي، لقد أصبحت أزياء المرأة المصرية مختلفة تماما، والناظر لشوارع القاهرة سيكتشف ذلك بسهولة. لست بصدد تأييد هذا التغيير أو رفضه، ولكن موضوعي هو أن هذا التغيير له أبعاد سياسية قبل الأبعاد الاجتماعية، وأن هذا البعد السياسي لم يتطرق إليه أحد.
إدراك البعد السياسي في قضية الأمومة ـ كخطوة أولى ـ سيساعدنا على حماية المجتمع أولا ، وإصلاح الكثير من مشاكلنا السياسية ثانيا، إن الكثير من مشكلاتنا السياسية يمكن أن تحل بالعودة إلى الأم باعتبارها اللبنة الأولى للمجتمع، فإذا أردنا ثمارا سليمة ناضجة يجب الاهتمام بالجذور التي تغذي هذه الثمار، والأم هي الجذر الذي يقدم الأبناء، وإذا أردنا أجيالا جديدة سليمة نفسيا وبدنيا يجب أن نبدأ من الأم. ويقول المثل الشعبي "ابنك على ماتربيه، وزوجك على ما تخاويه"، ولو اهتممنا بالتوعية السياسية للأم، سنضمن بذلك جيلا جديدا قادرا على فهم السياسية المحلية والعالمية، وأداء دوره في خدمة الوطن والأمة.
في المقابل، أيقن أعداؤنا الدور الكبير الذي تلعبه الأم في نهضة الأمم، فأصبح يولى "الأم" اهتماما كبيرا، وأصبحت أدواته الإستخباراتية والإعلامية موجهة للمرأة العربية، لأن تدمير الأم يعنى تدمير الحاضر، وتدمير المستقبل.
المشكلة أننا اهتممنا كثيرا بدور الأبناء تجاه الأم، وحشدنا الآيات القرآنية والأحاديث التي تنص على ذلك، وأهملنا طويلا دور الأم تجاه أبنائها، ورغم أهمية الجانبين، إلا أننا بحاجة اليوم أكثر مما مضى للتوعية بالأدوار التي يجب أن تضطلع بها الأم نحو أبنائها، من حيث التربية، والتوجيه، والتعليم، والتقويم، والتنوير، خاصة في هذا العصر الذي ازدحم بالكثير من المشكلات الاجتماعية والتي شغلت الأم عن أدوارها الحقيقية.
كذلك فإن الكثير من مشكلاتنا الاقتصادية يمكن أن تحل بالتوعية الإقتصاية للمرأة العربية التي تعمل بدءا من الحقل إلى مبنى الوزارة، وكانت على مر التاريخ أهم منتجة اقتصادية تساهم في اقتصاديات الأسرة المصرية والعربية.
الكثير من مشكلاتنا الاقتصادية يمكن أن تحل بدراسة تجربة الأم العربية في الادخار والتدبير والإدارة المنزلية، وإذا أخضعنا هذا الجانب وحده للدراسة سنكتشف الكثير من الجوانب التي ابتكرتها الأم العربية في الإدارة المنزلية، والتي يمكن بالقياس تعميمها، والاستفادة منها على المستوى الاقتصادي العام. من هذه الجوانب "الجمعية" التي تميزت بها الأم العربية والتي تعتبر إحدى صور التكافل الاجتماعي الفريدة التي حققت للأسرة العربية الكثير.
عملية الإصلاح السياسي يجب أن تبدأ من الأم، فلا جدوى من إصلاح الفروع دون إصلاح الجذر الذي يغذي هذه الفروع، والوطنية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والانتماء، والليبرالية والتعدد السياسي، والحرية، والانفتاح على الآخر، واحترام الأقليات، وأصحاب الديانات الأخرى، وعدم الانحياز، .. كلها معاني سياسية يجب أن تتعلمها الأم وتؤمن بها، وترضعها لأطفالها منذ اللحظة الأولى.
الأم التي تقدم للمجتمع العلماء والمخترعين والثائرين والأبطال والفاتحين ، يمكن أن تقدم أيضا الخونة والجواسيس والديكتاتوريين والطغاة ومزوري الانتخابات الذين يبيعون الوطن في سوق النخاسة.