حينما أقابل أي شخص، في الشارع ، في الباص، في أحد الأماكن العامة، أو أقرأ لأي كاتب، أو أشتري من أي بائع، أو أضم صديقا على الفيس بوك، لا أفكر أبدا في ديانته، لا أعلم هل هو مسيحي أو مسلم أو غير ذلك ، وقد تستمر علاقتنا لسنوات طويلة دون أن أعرف هذه المعلومة، فأنا لا أهتم أبدا بذلك، ومعظم الناس كذلك، ربما أهتم بالبلد التي ينتمي إليها الشخص، وهذا من باب الفضول، ومعرفة ذلك قد تثير نقاشات مشتركة. حتى "الجنسية" لا أعتد بها ، فأنا أؤمن بوحدة العالم، وليس وحدة العرب فقط، وقد كتبت كثيرا حول هذا المعنى.
وإذا كان هذا الموقف ضروريا في أي وقت، فإنه يكون أكثر ضرورة خاصة في العالم الجديد الذي فرض قوانينه، والعولمة التي لحقت كل شيء ، ووحدة العالم التي لا ترى بالعين المجردة، ولكنها تتحرك ببطء، وتتشكل على أرض الواقع. العالم الجديد يفرض عليّ أن أقبل الآخر حتى لو كان هندوسيا وحتى لا دينيا.
وهذه ليست لياقة زائدة مني أو مكرمة، ولكنه أمر إلهي، فقد قال تعالي في قرآنه الكريم منذ أكثر من 1400 سنة "لكم دينكم ولي دين".
الدين علاقة خاصة بين المرء وربه، لا تحتاج لتصريح أو إعلان، ولا يوجد دليل ملموس عليها، ورغم أن الدين قد يكون أحد معايير المعرفة حول شخص ما ، إلا أنه يبقى شأنا خاصا، كالثقافة الشخصية والحالة الاجتماعية والرأي الخاص والأكلات المفضلة، لأن العقيدة الدينية في الأساس عمل غيبي لا يعلمه إلا الله.
القيم الإنسانية والدينية واحدة، وإذا جمعت قواعد الأخلاق العامة التي يؤمن بها أصحاب الديانات من شتى بقاع العالم ستجد أنها لا تختلف في جوهرها عن القواعد الأخلاقية التي ينادي بها الإسلام، فلا يوجد عاقل يقول مثلا أن وضع يدك في النار شيء جيد، الكل يخاف من النار والكل يعرف أضرارها.
وفي مصر نشأنا منذ الصغر مع أخواننا المسيحيين، ودرجنا على وجود المسيحي الجار وزميل الدراسة والعمل، وتعاملنا معه في كل المواقع، فهناك المدرس والمحاسب والطبيب والترزي، وكان الاثنان المسلم والمسيحي يذوبان في نسيج المجتمع الواحد، تتفرس ملامحهما، فلا يمكنك تحديد المسلم من المسيحي، نفس الوجوه ونفس الملامح، نفس المزايا، ونفس العيوب.
تميز المجتمع المصري دائما بالعلاقات الوطيدة بين عنصريه المسلم والمسيحي، حتى أن هذه العلاقة دائما كانت مثار فخر، يقول فنان الشعب سيد درويش "أنا المصري كريم العنصرين، بنيت المجد بين الأهرمين"، ونحن كمصريين نفخر بهذين العنصرين، ونعتز بهما أيما اعتزاز، فالثقافة تختلف عن الدين، فهي مجموعة مقومات حضارية متعددة المشارب والاتجاهات، يرجع معظمها حتى إلى ماقبل نشأة الديانات على الأرض.
أتذكر "أشرف جورج" أعز أصدقائي أيام الطفولة، في المرحلة الابتدائية، وهو مسيحي، فقد كان زميلي وصديقي في مدرسة النصر الابتدائية بكفر الزيات، ومازلت أتذكر والدته سيدة المنزل الطيبة، ووالده الموظف، وأخته الصغيرة، واللوحات المعلقة في منزلهم الجميل البسيط، والتي تجسد العذراء والمسيح ورحلته للأرض المقدسة، أتذكر كيف كان متفوقا، لدرجة أنه كان يحفظ سورة القرآن التي تكلفنا بحفظها المعلمة، في الوقت الذي لم يحفظها آخرون مسلمون.
أتذكر صديقي عبد المنعم الذي اشترى قطعة أرض من أحد الأخوة المسيحيين، وكيف تعثر في أحد المرات في تسديد أحد الأقساط، فذهب للبائع المسيحي عارضا إعادة الأرض وإلغاء البيع، ولكن المسيحي طلب منه التريث، وأعاد جدولة الدين، وتجاوز عن بعض الأقساط ليكون التسديد أيسر، حتى تمكن صديقي من تسديد قيمة الأرض.
أتذكر "أبلة "أليس" مدرسة الموسيقي في مدرستي الابتدائية التي كانت تعلمنا الموسيقي، ومدام تريزا موظفة البنك بابتسامتها الدائمة وتفانيها في خدمة العملاء.
أمثلة عديدة عادية ليست خارقة للعادة، ليست غريبة على الشعب المصري، تؤكد أن المسيحي دائما "نسيلة" من لحم المجتمع، ليس عنصرا أضيف إلى آخر ، ولكنه مكون أساسي من مكونات هذا المجتمع، لقد كان المسيحيون دائما شركاء لأخوانهم المسلمين في المواطنة، والغنى، والفقر ، والكفاح، والنجاح، والفشل، والزحام ، وغلاء الأسعار، وروتين الأجهزة الحكومية، والنصر والهزيمة، حتى في المعاناة، وقد سالت الدماء المصرية المشتركة مسلمة ومسيحية على رمال سيناء في المعارك، فذاقا معا طعم النكسة عام 1967، وذاقا معا حلاوة النصر في أكتوبر 1973 .
حتى قصص الحب التي كانت تنشأ بين مسيحية ومسلم في السبعينيات، وتتحول فيها المسيحية إلى الإسلام، والتي كانت تنتهي بالزواج، كان المجتمع يتعامل معها بطريقة عادية جدا دون تشنج أو عنصرية، باعتبار أنها حرية شخصية، ويركز الفضوليون على علاقة الحب التي جمعت بينهما، ونقطة تحدى المجتمع للزواج بما فيها من فضول وإثارة..
في مصر بالذات لا فرق بين مصري ومسيحي، وربما يثير ذلك حسد البعض واستغرابهم، وربما يكون ذلك أحد أسرار عظمة هذا الشعب الذي استطاع أن يصهر داخل بوتقته مختلف الثقافات والأعراق. حتى المستعمرون تمكن المصريون من هضمهم واستخلاص العناصر المفيدة للجسم، ولفظ ماتبقى من فضلات.
لعل أحد الأدلة على ذلك أن مصر تناوب على استعمارها كثيرون .. الهكسوس والروم والفرنسيون والإنجليز وغيرهم، ورغم سنوات الاستعمار الطويلة لم تؤثر لغات المستعمرين ولا عقائدهم على الشعب، بعكس شعوب أخرى مازالت حتى بعد التحرير تتحدث بلغة المستعمر .
أما ما يحدث أحيانا من خلافات أو جرائم بين مسيحيين ومسلمين، فهي إما جرائم عادية كالجرائم التي تحدث في أي مجتمع، نتيجة للتعايش والتعاملات اليومية والمصالح المتبادلة، ونتيجة للصراع الأزلي بين الخير والشر الموجودين في كل شعب وكل فئة، وإما أنها مؤامرات دبرها البعض للنيل من وحدة هذا الكيان الجميل العجيب.
بالطبع يوجد متعصب هنا ومتعصب هناك، ويوجد جاهل هنا ، وجاهل هناك، ويوجد مجرم هنا، ومجرم هناك، هذا تأخذه الحمية ويتعصب لدينه، وهذا في المقابل تأخذه الحمية، ويتعصب لدينه، وهذا في رأيي أمر طبيعي، يتفق مع مانعلمه من أدران النفس البشرية، ولكن المهم أن معظم الشعب المصري يؤمن بوحدة النسيج المشترك بيننا. كمسلمين ومسيحيين.
بالطبع توجد مشكلات، وهذا أمر طبيعي، وقد بدأ الإعلام المصري في السنوات العشر الأخيرة بمناقشتها بحرية وصراحة وجرأة مطلقة، وهو لم يكن متاحا ـ أو قل محرما ـ قبل ذلك، وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن النقاش العلني المفتوح أول خطوة لحل المشكلة، والنقاش مع الآخر وإقناعه أفضل من مصادرته، ومحوه بالممحاة.
نعلم أن هناك مشكلات يعاني منها المسيحيون، كما أن هناك مشكلات يعاني منها المسلمون، ولكنها لا تخرج عن كونها مشكلات اجتماعية وسياسية يعاني منها الجميع، ولكن البعض من المغرضين الحالمين وهما بضرب العنصرين الكريمين، يروجون لاسطوانة مشروخة عن "اضطهاد الأقباط" في مصر، وهذه أكذوبة كبرى يدرك زيفها وكذبها الجميع.
ستظل الوحدة الوطنية عنوان جميلا لهذا الشعب، وستفشل دائما محاولات الحاقدين والإرهابيين، وسيظل المصري ـ كما قال سيد درويش ـ كريم العنصرين .. المسلم والمسيحي.