يتعمد البعض حصر الثقافة كمعنى ومدلول في أطر معينة ثابتة، وكتب وتخصصات معينة، وقوالب ثابتة كقوالب الطوب، يختطفون الثقافة ويضعونها في علبة زجاجية في متحف، ويكتبون عليها عبارة "ممنوع اللمس". يمارسون بإصرار الثقافة الموجهة التي تملي عليك "إقرأ هذا ولا تقرأ ذاك"، يتعاملون مع الثقافة كملكية خاصة . إرث تركه أهاليهم. يتحدثون عنها بحذلقة وفوقية غريبة.
الثقافة بعيدا عن التعريفات والنظريات المتشابكة تجربة إنسانية بسيطة تحمل مدلولات وعبر وحكم ورؤى واستشراف. قد تظهر على لسان سيدة أمية أو فلاح في حقل، أو في مثل شعبي، أو أغنية عفوية يرددها بشكل جماعي عاملو البناء، وقد تأتي من أي شخص. حتى المجنون الذي يربط بين أشياء متباينة لا معنى لها، فالفنون جنون والحكمة ـ كما قيل ـ قد تأتي من أفواه المجانين.
ولكن البعض يصر على وضع شروط للثقافة كالوزن والقافية واستهلال القصيدة بالبكاء على الأطلال، كما يضعوا مسوغات تعيين للمثقف، كالدراسة الأكاديمية أو الإنتاج الأدبي أو الحضور الإعلامي، إذا وافق الشخص هذه الشروط خلعوا عليه لقب المثقف، وإن لم تنطبق نظروا إليه شذرا وطردوه كالصعلوك خارج القبيلة.
ظلت الثقافة الرسمية العربية لسنوات طويلة تولى جل اهتمامها بمثقف الإسموكنج الذي يرتدى أفخم البزات ويضع أغلى العطور، ويتحدث بقيافة في البرامج التلفازية، وأهملت المثقف العادي الموجود في كل منزل وكل حارة وكل قرية، ونتج عن ذلك ظلم لشريحة عريضة من المثقفين الحقيقيين الذين لم تسنح لهم الفرصة للدراسة، وتسبب وضعهم الجغرافي وإقامتهم في مدن وقرى بعيدة عن العواصم والمدن والتسليط الإعلامي في تغييبهم سنوات طويلة، فأصبحت الثقافة حكرا على أسماء معينة مكررة، وظهرت الثقافة العربية في مجملها كالنشيد المكرر تمل من سماعه الجماهير.
الثقافة كنز نملكه جميعا. كنز غير قابل للاختطاف والاحتكار والتجنيس والمصادرة والاجتزاء والتزييف. الثقافة هواء مشترك يسري في رئات الجميع .