الأصل في الأسماء التجرد، فعندما ولدنا وقام أهلونا بالتسمية .. كنا .. محمد، أو صالح، أو عبدالشكور، وغيرها ..، ويستمر الاسم معنا من المهد إلى اللحد، ولكن الإنسان الفصيح لم يكتف باسمه المجرد فاخترع ما يسمى باللقب ..!
وبدعة اللقب لم تكن حديثة العهد ولكنها موغلة في القدم حيث صاحبت الإنسان منذ العصور السحيقة، وبدعة اللقب ليست شرا كلها ولكن لها شق إيجابي وهو الشق التعريفي الذي يساهم في تيسير المعاملات، ولكن في عصورنا الحديثة تنتشر هذه البدعة وتأخذ أبعادا جديدة لم يعها أجدادنا الأولون الذين اخترعوا ظاهرة الألقاب ..!
فليس غريبا أن تجد الآن حلاقاً يطلقون عليه لقب (دكتور)، وسباكاً يطلقون عليه لقب (مهندس)، وحرامي يطلقون عليه (رجل أعمال)، وغيرها من الألقاب غير الدقيقة في مبناها أو معناها، على سبيل المثال طالب الطب بمجرد دخوله الفرقة الأولى من كلية الطب يطلقون عليه لقي (دكتور) .. وعندما يتخرج يضع يافطة كبيرة على عيادته بنفس اللقب رغم أن لقب (دكتور) هذا لا يجب أن يطلق إلا على الحاصل على درجة الدكتوراه سواء في مجال الطب وغيره، وإذا سألت يا صديقي عن لقب (أستاذ) فسوف تكتشف أن كل الناس أساتذة على الرغم من أن لقب (أستاذ) في الحقيقة لا يستحقه إلا الحاصل على درجة الأستاذية وهي درجة جامعية رفيعة لا يصلها إلا البارزون، حتى الألقاب القديمة التي اندثرت ليس غريباًً أن نجد الناس يستخدمونها عُمال على بطَال فيقولون مثلاً "سيد بيه"، "محسن باشا" إلى غيرها من الألقاب الغريبة ..!!
إنها يا عزيزي فوضى الألقاب في العالم العربي فكانت النتيجة أن اختلط الحابل بالنابل، واختلط الجيد بالرديء، والمثقف بالجاهل، وضاعت القيمة في الشوارع الخلفية ..!، ولم يعد غريباً أن تكتشف أن هذا الدكتور المشهور لم يدخل كلية الطب ولو حتى على سبيل الزيارة، وهذا المستشار لا يحمل سوى الإعدادية، وهذا المدير وصل بالكاد إلى الإبتدائية ..!!، وما زلنا نتذكر الثري العربي الهارب من بلاده والمقيم بالقاهرة والذي أنفق أموالاً طائلة لشراء الألقاب المختلفة من البلدان المختلفة حتى وصل عدد الألقاب التي يحملها إلى أربعين لقباً ..!.
وفي الوقت نفسه نجد هذا المثال الإيجابي لشخص حول اللقب من مدلوله التقليدي والذي ينحصر في التعظيم والتبجيل إلى لقب يكرس فيه التواضع أمام الله عز وجل وهو الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية الذي قام في عام 1407 هـ بتحويل لقبه من "جلالة الملك" إلى "خادم الحرمين الشريفين"، وقد اتبع هذا النهج الحميد الملك عبدالله بن عبدالعزيز ، وفي التاريخ الإسلامي أيضاً قادة قرنوا أسماءهم وألقابهم بالخضوع إلى الله والحكم بما أنزله، منهم: (المعتصم بالله)، (المستنجد بالله)، (الحاكم بأمر الله)، (المستضيء بالله)، (المعتضد بالله)، (المعتز لدين الله) .. وغيرهم ..، وقد اشتهر العباسيون خاصة بذلك.
والمدهش وجود وكالات إعلانية قادرة على (طبخ) استفتاءات وهمية تمنحك ما تشتهي من ألقاب محلية وعربية وعالمية ..!، كما حدث من مركز وهمي مرخص من قبرص ومقره جدة، حيث قام بإرسال خطابات لمعظم المجلات الموجودة في الساحة، وفي كل رسالة يخبر رئيس تحرير المطبوعة بأن مطبوعته فازت بلقب أحسن مطبوعة في مجالها في استفتاء عالمي شارك فيه 550000 مواطن عربي، رغم أن أكبر مطبوعة من هذه المطبوعات لا توزع 40000 نسخة على أقصى تقدير، والفضيحة أن بعض المطبوعات العائشة في الوهم والولع بالنجومية صدقت هذا الزعم ، وهللت لقرائها بنبأ الفوز العظيم، أما المطبوعات الجادة فكشفت اللعبة ، وواجهت قراءها بحقيقة هذا الاستفتاء المزعوم، وكيف أنها مجرد عملية نصب ..!
وفي عالم السياسة تأخذ الصورة أبعاداً متطرفة، فهذا رئيس خلع على نفسه كل الألقاب فهو القائد الملهم، والزعيم الشجاع، والفارس المغوار ..!!؟، وهذا آخر خلع على نفسه – والعباذ بالله- ألقاب من أسماء الله الحسنى، وفي عالم الفن نرى أيضا عجباً، فهذه نجمة الجماهير، وهذه نجمة مصر الأولى، ... وغيرهما.
وفي مصر أيا الملكية كانت توجد العديد من الألقاب مثل الأفندي، حضرة صاحب الجلالة، حضرة صاحب العزة، الخديوي، دولة الباشا، حضرة صاحب المعالي .. وغيرها وألغيت هذه الألقاب بعد ثورة يوليو المجيدة، وفي الأنظمة الملكية حالياً العديد من الألقاب مثل الأمير، صاحب المعالي، صاحب الجلالة، صاحب السمو، السلطان المعظم..، وغيرها، ومن الألقاب المنتشرة في معظم الدول .. سيادة الرئيس، سعادة الرئيس، سماحة الشيخ، فضيلة الشيخ .. وغيرها، والألقاب ليست مقتصرة على العالم العربي ففي الغرب يوجد العديد من الألقاب مثل الليدي، الدوقة، السير، الإمبراطور .. وغيرها ..!
ومن الألقاب الشائعة لقب (حاج) الذي يستعمله كثيرون، ومع تقديري للحج كفريضة إلا أنني أنتقد من يحرصون على أن تسبق أسماؤهم بلقب (حاج) للمباهاة ويا ليته قام بالحج، فقد قابلت مرة أحد الأشخاص الحريصين على هذا اللقب، وبعد فترة من التعامل معه اكتشفت أنه أدى العمرة فقط ..!
إنني أدعو إلى إلغاء الألقاب تماماً والعودة إلى الأسماء المجردة ..، أعلم أنني بذلك أطل المستحيل، لأن هناك من البشر من يتمسكون بألقابهم تمسكهم بالحياة ذاتها، وإن كان هناك من يتمسك باللقب ارتكازاً على جانبه التعريفي، يمكننا أن نستخدمه ولكن في إطاره المهني وذلك بوضعه كعبارة تعريفية بعد الاسم، على سبيل المثال يكون الوضع كالآتي (محمد عبدالشكور – طبيب)، بهذا نعيد للقب وظيفته الأولى ونقضي على المبالغة في الألقاب.
إضافةً لذلك يجب أن نتعامل مع الشخص الذي يضع بعد اسمه مهنة غير مهنته معاملة النصاب الذي يضلل الناس وينصب عليهم بتجريم ذلك، فلا يحق للطبيب أن يستخدم لقب (دكتور)، ولا يحق لأي فرد أن يستخدم لقباً ليس من حقه ولا من واقع كده وتعبه ..!
ومن جوانب هذه الظاهرة التي لا يمكن إغفالها ظاهرة تجار الشهادات، فبها أصبح بمقدور أي شخص يملك المال أن يشتري أعلى الدرجات من جامعات غربية معينة، والمؤسف أيضاً وجود أشخاص (يمتهنون) إعداد البحوث والدراسات الجامعية لآخرين مقابل مبالغ مادية، لذا يجب على لجان المناقشة التثبت من خلال النظر والمناقشة العملية الحية من جدة البحوث وتقهم الباحث لكل نقطة في بحثه، ومن الظواهر المهمة أيضاً التي يجب إلغاؤها ظاهرة الشهادات الفخرية التي اعتادت جامعات عربية وأجنبية مختلفة على منحها لكل من هب ودب وما تمثله هذه الشهادات من تعد سافر على كافة القواعد الإنسانية ومبدأ العدل والشرف الجامعي، فالدرجة العلمية الرفيعة التي يبذل من أجلها الباحث سنوات عديدة من عمره ويذهب بصره في سبيل الحصول عليها، تمنحها الجامعة في لحظة واحدة لهذا أو ذاك تحت دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان ..!
أيها الناس .. فلنلغ الألقاب، ونتعامل بأسمائنا المجردة التي سنحملها معنا يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا لقب، ولنلغ الشهادات الفخرية الموجهة، ولنقض على تجار الشهادات والألقاب، بذلك فقط نعيد لمجتمعنا صيغ التواضع التي افتقدها، ونعيد للجهد .. للعمل قيمته المفقودة ..!