هناك أنواع من التجارة تبني ازدهارها ورواجها وأرباحها على آلام الناس، على طريقة شطرة المتنبي الشعرية "مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ"، الطبيب وتاجر السلاح والحانوتي ثلاثة أشخاص لا يعملوا وتزدهر أعمالهم إلا بمصائب المستهلكين.
سنستثني في البداية الحانوتي الذي يعمل على تجهيز الموتى ودفنهم في مثواهم الأخير، لأن الموت قدر، وتجارة الموتى منذ بدء الخليقة تجارة مضمونة رابحة لا تبور أبدا، ولا تتأثر بتذبذبات البورصة والأزمات المالية العالمية، فالبضاعة موجودة دائما، والطلب لا يتوقف، وإن كنا لا نغفل أن مستوى الإقبال يرتفع ويتزايد من المعدلات الطبيعية العالمية إلى معدلات أعلى بارتفاع نسبة الوفيات لأسباب مختلفة كالكوارث والأوبئة والحروب.
في تجارة الصحة كلما زاد المرض زاد عمل الأطباء، وراجت مهنتهم، واشتغلت المؤسسات الخاصة بالعلاج، وبالعكس إذا زادت الصحة في المجتمع وقلت معدلات الإصابة بالأمراض، سيعاني الطبيب من الكساد، ويعزف الطلاب عن دراسة الطب لأنهم لن يجدوا عملا بعد التخرج، وستصبح كليات الطب تأخذ الحاصلين على 50% كالمعاهد الفنية، أما المؤسسات الصحية فستشهر إفلاسها، وتنهار قطاعات متعددة متعلقة بها مثل شركات التأمين الصحي وشركات الأدوية.
وفي تجارة السلاح كلما زادت الحروب والنزاعات في العالم، كلما نما الطلب على السلاح، وتنوعت مصادره وأنواعه، وظهرت منتجات جديدة تقليدية وكيماوية ونووية، والعكس إذا حل السلام في ربوع العالم، واختفت النزاعات، .. ستنهار تجارة السلاح، وسيتحول وقتها أباطرة تجارة السلاح عبر القارات إلى تجارة مستلزمات صيد العصافير والغزلان والبط.
أي تجارة مبنية على مصلحة الطرفين، تقدم خدمة يحتاجها الناس، الشركة المنتجة من جهة تقدم خدمة، والناس من جهة أخرى تطلب هذه الخدمة، ورواج طرف لا يكون على حساب آخر، وقانون السوق هو العرض والطلب، ولكن في بعض القطاعات تكون العلاقة بين المنتج والمستهلك مأساوية، فيكون ربح طرف مبني على خسارة طرف آخر، وحياة طرف مبني على موت آخر، هذه العلاقة الغريبة وما تنطوي عليه من التباسات تجعل هذه القطاعات أكثر القطاعات التجارية خطرا على سلامة المستهلكين.
في القطاعات التجارية الأخرى قد يتسبب جشع التجار في أضرار اقتصادية للمستهلك، عند المبالغة في الأسعار، أو تتسبب في أضرار صحية، عند طرح منتجات تخطت تاريخ الصلاحية، ولكن في كل الأحوال فإن الضرر المتوقع معلوم ومعروف، ويمكن علاجه عن طريق الرقابة وجمعيات حقوق المستهلك.
أما في القطاعات المشبوهة ـ إن صح التعبير ـ كالصحة وتجارة السلاح فإن الانحراف لو وجد سيكون ضحاياه كثيرون، ولن يتوقف الضرر على الضرر المادي والصحي فقط، ولكن سيكون ضحيته الإنسان. الخطأ في هذه القطاعات سيكون فادحا، والجشع سيكون قاتلا، ولذلك وجبت الرقابة المشددة على هذه القطاعات للتأكد من أن الخدمة التي تقدم منزهة عن الاستغلال والجشع.
تخسر شركات التأمين الصحي كل عام أموالا طائلة، والسبب تجارة الوهم، حيث تبالغ الكثير من المستشفيات في الإجراءات الصحية للمريض، وتجرى له فحوصات كثيرة غير مبررة، ليرتفع رقم الفاتورة، مادام المريض مؤمن عليه صحيا، وهناك شركة تأمين غبية ستدفع الثمن.
وفر نظام التأمين الصحي للمستشفيات الخاصة تجارة رابحة وهي تجارة الوهم، وعزز من مرض عضوي ونفسي قديم، وهو مرض الوهم، وكان لهذا المرض ضحاياه الكثيرون، وإذا قدرنا الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها أنظمة التأمين الصحي جراء هذا الاستغلال، سنكتشف أن الخسائر بالمليارات سنويا، وقد دفع ذلك بعض شركات التأمين إلى اقتراح إنشاء مؤسسات صحية خاصة بها لوقف هذا الهدر المالي الكبير.
من ناحية أخرى أدت تجارة الوهم إلى دخول أعداد كبيرة من الناس في دائرة المرض، وهي نهاية مأساوية كان من الممكن أن تتجنبه إذا وجدت التشخيص الأمين لحالتها المرضية.
لو أجرينا تحقيقا طبيا نزيها على مستشفى خاص واحد يتعامل مع التأمين الصحي، سنكتشف الكثير من المهازل وطرق التلاعب والاستغلال التي يكون ضحيتها في النهاية المريض. سيكشف التحقيق النزيه كيف دخل أناس المستشفيات أصحاء على أرجلهم، وكيف خرجوا مرضى على نقالة، وكيف حول الوهم الوجوه النضرة المتفائلة إلى وجوه نحيلة مريضة غارقة في اليأس.
تسبب التأمين الصحي ـ رغم إيجابياته المفترضة ـ في تحويل الطب من مهنة أخلاقية في المقام الأول إلى نوع من التجارة، "سبوبة" كما يقول التعبير الشعبي، وحول الطبيب في بعض الأحيان إلى ما يشبه مندوب الإعلانات، عليه أن يحقق للمستشفى التي يعمل بها "Target" محددا، ليحصل على عمولة مناسبة.
لقد خسرنا كثيرا عندما قمنا بخصخصة قطاعات مهمة كالتعليم والصحة والبنوك والقطاع العام، وأتحنا فرصة الاستثمار بها للتجار، فتحولت هذه القطاعات من قطاعات حيوية هدفها الأول المواطن إلى قطاعات تجارية هدفها الأول الربح.
أتمنى أن نعيد هذه القطاعات الحيوية لإدارة الدولة، لأن الدولة ستدير هذه القطاعات وفقا لمعايير ليس من بينها الربح، سيكون الهدف الأساسي تقديم الخدمة النوعية للناس، وإذا كانت الدولة عاجزة عن إدارة هذه القطاعات بالكفاءة المطلوبة، فإن علينا تطوير إمكانيات الدولة لتقوم بهذا الدور بالشكل المطلوب، بدلا من الاستسهال ببيع هذه القطاعات، والتخلص منها عند أول فرصة.
الصحة والتعليم والإسكان ليست مجرد خدمات تجارية يمكن لتاجر مواشي أو جزار أو نائب فاسد تقديمها، ولكنها بنود أساسية من حقوق الإنسان، ويجب أن تقدم على أعلى مستوى من الكفاية والإتقان والتكامل لكل أفراد الشعب.