تسجيل الدخول
برنامج ذكاء اصطناعي من غوغل يكشف السرطان       تقنية الليزر تثبت أن الديناصورات كانت تطير       يوتيوب تي في.. خدمة جديدة للبث التلفزيوني المباشر       الخارجية الأمريكية تنشر ثم تحذف تهنئة بفوز مخرج إيراني بالأوسكار       الصين تدرس تقديم حوافز مالية عن إنجاب الطفل الثاني       حفل الأوسكار يجذب أقل نسبة مشاهدة أمريكية منذ 2008       تعطل في خدمة أمازون للحوسبة السحابية يؤثر على خدمات الإنترنت       حاكم دبي يقدم وظيفة شاغرة براتب مليون درهم       ترامب يتعهد أمام الكونغرس بالعمل مع الحلفاء للقضاء على داعش       بعد 17 عاما نوكيا تعيد إطلاق هاتفها 3310       لافروف: الوضع الإنساني بالموصل أسوأ مما كان بحلب       فيتو لروسيا والصين يوقف قرارا لفرض عقوبات على الحكومة السورية       بيل غيتس يحذر العالم ويدعوه للاستعداد بوجه الإرهاب البيولوجي       ابنا رئيس أمريكا يزوران دبي لافتتاح ملعب ترامب للغولف       رونالدو وأنجلينا جولي ونانسي عجرم في فيلم يروي قصة عائلة سورية نازحة      



مقدمة




الأمير كمال فرج



فرسان من حجر



من أدب الرحلة


الطبعة العربية الأولى
2003م






جميع الحقوق محفوظة :
لا يسمح بإعادة إصدار هذا الكتاب أو أي جزء منه أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل من الأشكال دون إذن مسبق من الناشر

All rights reseved. No part of this book may be reproduced, stored in a retrieval system or transmitted in any form or by any means without prior permission in writing of the publisher.

الناشر
صحافة للإعلام والنشر




الإهداء
إلى .. نورا
ابنة أخي
نتاج جميل للحضارتين المصرية والنرويجية
ورمز لجيل العولمة المقبل
رغم أنف الجميع ..!




الأمير كمال فرج
كوبنهاجن في 16/9/2000م


مقدمة
منذ زمن بعيد والكتاب والمؤرخون يسافرون، ويتجولون في أرض الله الواسعة، يكتبون مشاهداتهم وانطباعاتهم بدءاً من ابن بطوطة وغيره من الكتاب والمؤرخون الذين قدموا لنا أدباَ حافلاَ بالرؤى والمشاهد لبلاد وأحوال، وشعوب وممالك، فأثروا الثقافة بأبعاد جديدة من المعرفة والتزاوج الحضاري.
والعكس حدث عندما جاء المستشرقون إلى بلاد الشرق ذات الشمس الساطعة، وكتبوا العديد من المؤلفات التي توثق الكثير من التاريخ العربي، وأصبحوا – ويا للغرابة – مرجعاً لنا نحن الشرقيين للتعرف على آدابنا العربية وتاريخها وتحولاتها الاجتماعية، ولعل "بروكلمان" أحد الأمثلة الكثيرة على ذلك، والذي ألف كتابه الضخم (تاريخ الأدب العربي) والذي يعد أحد المراجع الأساسية للطلاب والباحثين في تاريخ الأدب العربي.
واستمر الأدباء على مر العصور يكتبون هذا النوع من الأدب حتى تعورف عليه بـ "أدب الرحلات"، وظهرت أسماء كثيرة تقدم للقارئ تجاربها ورؤاها حول العالم، ولكن ظل أدب الرحلات رغم ذلك ابنا لا يعرف أبيه، لا الدراسات اعتنت به ووضعت معاييره، ولا النقد تصدى لتقييم أعماله، ولا فرسانه تبوأوا مكانهم تحت الضوء، وظل كفنون كثيرة مهمة في حياتنا، ولكنها بعيدة عن الممارسة الثقافية الحقيقية.
إن أدب الرحلة هو فن معرفة الآخر، ومعرفة الآخر هو الطريق الممهد للنمو والتطور، المرآة التي ترى فيها نفسك، وتعرف أين أنت في خارطة العالم، كل الحضارات نمت وازدهرت بتأثير حضارات أخرى، إن أعظم الحضارات تلك التي كانت محصلة لتأثير حضاري كبير.
قديماً قالوا "اعرف عدوك"، لماذا ..؟، لكي تعرف نقاط ضعفه، وتتمكن من التغلب عليه، فالمعرفة إذن فعل عظيم، ومقوم رئيسي للانتصار، وإذا غابت المعرفة تخبط الإنسان كالخفاش في الظلام.
في الاتجاه نفسه اعرف صديقك، وذلك حتى تتمكن من الاستفادة من تجاربه، نجاحاته، عثراته، من الخير أن تسأل عن الطريق بدلاً من أن تمشي وحدك متفاخراً مكابراً إلى الهاوية.
إن الشعوب المتخلفة هي الشعوب التي ضربت على نفسها ستاراً من الخوف والعزلة، لم تتحمل عيونها ضوء الشمس، خافت على تقاليدها من غزو الأجانب المستعمرين الذين جاءوا لنهب خيراتها، وضعت رؤوسها في الرمال، وعندما أفاقت وجدت نفسها في الكهف، ووجد الناس أنفسهم يركبون الحمير، والعالم المتقدم يركب الصاروخ، ويغزو الفضاء !
وإذا أردت البرهان على ذلك انظر حولك، جميع المخترعات الحديثة التي اخترعها الإنسان مثل الراديو، والتلفاز، والكمبيوتر، والإنترنت، والمصباح الكهربي، وجهاز التكييف، وغسالة الملابس، والسيارة، والمكواة، والثلاجة .. وغيرها، كلها لم يخترع إحداها عربي واحد ..!؟ لقد كنت أتمنى كعربي يعتز بعروبته أن أجد ولو اختراعاً واحداً من هذه المخترعات التي غيرت وجه الأرض شيدته يد عربية .. ولكن ..
نحن خير أمةٍ أخرجت للناس، فهل حقاً نستحق هذا الشرف، إن الإسلام ليس مجموعة من العبادات والواجبات الدينية فقط، بقدر ما هو عمل ومعاملة وسعي دائم للتفكر والتدبر وإعمار الأرض.
قال تعالى (إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
ولا شك أن المعرفة وحدها لا تعني شيئاً دون العمل الجاد لدراسة هذا الآخر، تقليد مزاياه، وتجنب عيوبه، المعرفة بداية مهمة يجب أن يعقبها سجال حضاري مع الآخر، لكي نضيء شوارعنا ودروبنا الحالكة الغارقة في الجهل، لا أقصد ذلك السجال الذي اندلع بين "كبار" أدبائنا في الماضي حول القبعة والطربوش، أيهما أفضل؟، ولكنه السجال الحضاري الذي يدفعنا دفعاً إلى الأمام.
لقد ظللنا عقوداً طويلة نردد عبارة "الغزو الثقافي"، نتشدق بها ونلوكها في الندوات والتلفاز، والخطب المنبرية، لا لشيء، وإنما لنبرز خوفنا وعجزنا ووسائلنا البدائية الضعيفة، ولم يتصدّ أحد ليرفع دعوة لكي نغزو نحن العالم، ويعلن أن كل الوسائل والخيارات مفتوحة حسب المصطلح السياسي المعروف.
إنني لا أعرف حقيقةً كيف سنواجه "العولمة" .. الطوفان المقبل، بعد كل هذه السنين من العزلة والغياب، كيف نواجه أفكاراً وعادات وإيقاعاً حضارياً رهيباً، كيف نلحق القطار الإكسبريس بدابة عرجاء؟، كيف نقاوم حرب النجوم بعصا خشبية ..؟
أدب الرحلات هو بداية لمعرفة الآخر، والمعرفة دليل وقصاص أثر يساعدنا على التقدم. لذلك كله أقدم لكم هذا الكتاب قطرة من بحر المعرفة الواسع الكبير ..!
المؤلف
 
القنصلية العامة
لجمهورية مصر العربية
جدة
فاكس صادر رقم 340
التاريخ 4/7/2000م

السيد السفير / محمد شعبان
سفير مصر في كوبنهاجن
أطيب التحية .. وبعد ..
أتشرف بالإحاطة أن السيد الأمير كمال فرج  من الكفاءات الصحفية المصرية المتميزة والمشرفة لمصر، يعتزم القيام برحلة صحفية إلى الدنمارك وإجراء أحاديث صحفية مع عدد من الشخصيات البارزة، علماً بأنه سبق له إجراء أحاديث مع كبار المسئولين المصريين وشخصيات عالمية.
والمرجو من سيادتكم التوجيه بتقديم أية تسهيلات قد ترونها ليتمكن من أداء مهمته الصحفية
وتفضلا بقبول فائق الاحترام
القنصل العام
سفير محسن بهاء الدين كامل

كانت الساعة تقترب من السادسة مساءً عندما أعلن قائد الطائرة رقم 683 المتجهة من القاهرة إلى كوبنهاجن، أن الطائرة ستهبط في مطار العاصمة بعد دقائق، ودعا الركاب إلى ربط الأحزمة، والطائرة تحوم كنسر يفرد جناحيه، وتقترب من العاصمة الدنماركية.
الدنمارك .. وطن الغابات .. مدائن متوجة بالخضرة. الاخضرار يمتد على امتداد البصر، تتخلله جزر،  وشوارع،  وبيوت صغيرة ذات قبعات حمراء وخضراء .. الخضرة تمتد .. تتوغل وتنحسر ، وتعود لتطغى من جديد، وكأنها أكبر سجادة طبيعية في العالم، كوبنهاجن مدينة الغابات .. استأذن البشر ملكة الغابات لكي يقيموا منازلهم الأنيقة الوادعة في رحابها فرحبت الملكة، وتسامقت الطبيعة.
تنهدت ونظرت عبر النافذة إلى الفضاء البعيد في مشهد تكرر عشرات المرات، وأنا سندباد، قلبي مثل طائر السنونو كلما هبط بأرض سرعان ما طار من جديد..

دفء الصقيع
تيار من البرودة القارصة شدني بمجرد نزولي من الطائرة، سرعان ما بدده دفء استقبال مسئولي السفارة المصرية في كوبنهاجن أشرف محمود ، ومحمد عاشور، ولافتة باللغة العربية عليها اسم أعرفه جيداً.. إنه اسمي، شددت على يديهما بحرارة، شكرتهما على حسن الاستقبال، واعتذرت لهما عن تأخر الطائرة ... أخبرتهما أن هذا ليس غريباً على الدبلوماسية المصرية الذكية الودودة، وانطلقت بنا سيارتهما القنصلية في شوارع المدينة الجميلة الخالية لتصل إلى الشقة التي سأقيم بها.
من هذه اللحظة بدأت رحلتي الصحفية المثيرة في الدنمارك ..
....
"صدمة حضارية" .. هكذا قيل لي في تفسير الوضع الناتج عن الدخول في هذه التجربة، فالصورة مختلفة، الوجوه والجغرافيا والمناخ والشوارع والبيوت والعادات والتفكير والمشاعر، اختلاف كلي لا تخطئه العين، هناك من يسمي هذه الحالة انبهاراً، ولكن مصطلح الصدمة يكون أكثر تعبيراً، صدمة الخروج من عالمك، وصدمة الدخول إلى عالم  آخر ..!
..
طريق "هويا تستغوب"، حي "فودوفغا" الذي أقطن به، القطارات الأنيقة، الابتسامة التي تزيح الهم تقابلك في كل مكان، في الساحات والمحطات ومكاتب البريد، بسمة ترد الروح كما يقول التعبير العامي المصري الخطير، مقر عمدة كوبنهاجن العريق، مبنى الحكومة الدنماركية بتماثيله العريقة، الفتاة الدنماركية التي تعمل وتريد أن تعبر عن نفسها، "التيفولي" أشهر معلم ترفيهي يطلق صواريخه النارية كل أسبوع لتتحول سماء المدينة إلى شعلة من الضوء والدهشة والفرح، المسارح والمتاحف والحدائق الجميلة، .. مؤتمرات انتخابية صاخبة، ومرشحون، ولافتات، المركز الإسلامي بقبته الكبيرة المميزة، مسلمون من دول العالم، مسلمون لا يعرفون العربية، مسئولون وطلبة، أرقى الأماكن وأحطها، الشباب الدنماركي في القطارات والميادين والمحلات يتحرك بحماس ويعشق الحياة، مواطنات متزوجات من عرب، لاجئون عرب، القصر الملكي، والمتاحف، والحدائق، والميادين ..
رحلة مثيرة في عالم لا تعرف لغته وأفكاره ..

"السنتر" وسط البلد
"السنتر" لفظة يتداولها الجميع،  وهي مثل وسط البلد عندنا، وهي تعني المنطقة المركزية في العاصمة التي تتجمع بها أهم المنشآت الإدارية والترفيهية والحضارية، تتوسط (السنتر) محطة KOBNHAGN كوبنهاجن، وهي محطة كبيرة تشبه محطة مصر عندنا، وإن كانت المحطة عندنا أكبر.
أمام المحطة تمثال جميل يشبه مسلة مصرية تحيط به أربع فتيات، وفي (السنتر) حدائق ودور السينما وملاهٍ وبارات، ومبنى البريد الرئيسي POST ، ومسارح ومتاحف، ومكاتب، ومعلومات سياحية، وبنوك، ومكاتب صرافة لتغيير العملة، وشركات طيران عربية وعالمية، ومبنى الخطوط الدنماركية SAS ، ومكتب مصر للطيران الذي يقع خلف مبنى (سكالا) ...
 حتى إسرائيل لها مكتب، على شرفته يافطة ISRAEL .. وهو مكتب سياحي حسب ما اعتقد يطل على المحطة. كما يقع مقر عمدة كوبنهاجن، والذي يعد أشهر مبنى في المنطقة، ويتميز بطابعه المعماري الفريد، يجاوره مبنى فندق (بالاس) الشهير ببرجه العالي الذي يشبه المئذنة، وتعتبر الساحة الموجودة أمام مبنى مقر العمدة، أشهر وأكبر تجمع للسياح والمواطنين والمتنزهين.
وتتميز المنطقة بمجسم رائع لنافورة من النحاس يعلوها مجسم لبقرة تصارع كائنا أسطورياً يشبه التنين أو الديناصور .. وهو تمثال ينطق ببراعة الصانع، وبالقرب منه تمثال آخر لرجل جالس على مقعد، وفي يده اليمنى عصا، بينما تمسك يده اليمنى كتاباً ، ويرتدي قبعة طويلة، ويتوالى السائحون لتصوير هذه التماثيل البديعة على مدار اليوم.
وتعتبر الساحة المقابلة لمبنى مقر العمدة المسرح المفتوح للمدينة، بها تقام  المهرجانات الموسيقية، والانتخابات، وحفلات السمر، والأنشطة الإعلامية الموجهة للجمهور، في أحد الأيام فوجئت بعربات كبيرة تحمل كتلاً كبيرة من القش والعمال ينقلون هذا القش إلى ساحة الميدان، والنجارون يشيدون بيوتاً خشبية تقليدية صغيرة. وفي غضون ساعات تحولت الساحة الأنيقة إلى ما يشبه قرية متواضعة من القش، الأكشاك الصغيرة يجلس بداخلها أطفال صغار يطلون من فتحاتها في براءة ودعة، طفلة أخرى تجلس، وتبيع بعض الحلوى في صناديق متواضعة مصنوعة من الكرتون، عندما سألت فوجئت أن ما يحدث الآن ما هو إلا مظاهرة سلمية طريفة للتضامن مع الفقراء والمشردين، إنهم هنا يحاولون غرس التعاطف مع الفقراء في الأطفال منذ الصغر.
وفي "السنتر" مزيج متنوع من البشر، .. سياح من اليابان والصين وإيطاليا وغيرها، شباب من الجنسين بتقاليع غريبة، تتمثل في حلق الشعر بطريقة معينة، أو حلقه تماما، أو ارتداء أكثر من حلق في الأذن، أو وضع حلقة معدنية في الأنف، أو تركيب حلق في الشفاه، أو تركيب دبوس فضي في الجلد أسفل العين، وأحياناً في الجفن، أو تركيب قطعة معدنية في الشفاه السفلى، أو تركيب حلقة بين العينين، أو ارتداء طوق في الرقبة مثل طوق الكلاب به أسنة خارجية مدببة، وارتداء سويترات مليئة بالنتوءات الحديدية الغريبة .. وهكذا عشرات التقاليع التي يقبل عليها الشباب بشغف، وكأنما هذه التقاليع الغريبة هي التي تحقق ذاته ووجوده.
إذا تأملت حولك ستلتقط عيناك مشاهد غريبة، فهذا شاب نائم على الأرض بطريقة غريبة، ولا يشعر بكل هذا الضجيج حوله، يبدو من طريقة نومه أنه من مدمني المخدرات، شاب وفتاة يرتديان الجينز يتخاصران، ويمشيان معاً ككتلة واحدة ..، الفتاة الصغيرة تداعب الشاب،  وتضربه على مؤخرته، فما كان من الشاب إلا ويعاملها بالمثل،  ويضع يده في منطقة حساسة فيها ، فتقفز الفتاة وتضحك، فتاتان صغيرتان جالستان على الأرض، واحدة تصفف شعر الأخرى في حنان غريب، وفخذاها الأبيضان يلمعان في ضوء النهار، يشربان معاً نوعاً من الشاي المثلج.
فتاة تراقص شاباً شعره مزيج من جميع الألوان.. فتاة شقراء ترتدي نظارة سوداء، ذراعاها عاريان تحتضن على صدرها كتاباً، وتبتسم من بعيد، كلبان صغيران من نوع "الكانيش" تركا صاحبتهما ، وراحا في لقاء حميم، بينما صاحبتيهما ممسكتان بحبليهما تراقبان الموقف، وتبتسمان، فتيات وشباب يفترشون الأرض .. يتحدثون ويتسامرون، وكأنهم في بيوتهم، بائع شاب يدور بصندوق خشبي، وينحني على الجالسين في الساحة يبيع شيئاً ما.

علم مصري جميل
بعد مكالمة هاتفية مع المستشارة سمية سعد القائمة بأعمال السفير في السفارة المصرية بكوبنهاجن، حددت موعداً لزيارتها. في اليوم المحدد توجهت إلى هناك، كان الموعد في الواحدة والنصف. تأملت عنوان السفارة المكتوب معي ..
Embassy of the Arab Republic of Egypt
Kristianiagad 19,2100 o Copenhagen, Denmark
لم يكن الوصول لمبنى السفارة سهلاً، فقد استلزم الأمر السؤال أكثر من مرة، دون جدوى، وبعد بحث وجدنا السفارة الأمريكية، فأوقفنا السيارة، وتوجهت مرتجلاً إلى رجل أمن يقف على بابها ، وسألته عن السفارة المصرية،  فأخبرني أنه لا يعرف، ولكنه حاول مساعدتي،  وبواسطة جهاز اللاسلكي الذي يحمله اتصل بشخص في الداخل، ولكن كانت النتيجة سلبية، وعندما أخبرته أنني أعلم أنها قريبة من السفارة الإنجليزية، أشار بالإيجاب،  ووصف لي موقع السفارة الإنجليزية.
بعد عناء وصلنا إلى السفارة الإنجليزية، وأخذنا نسأل دون جدوى. الشوارع خالية ولا يوجد من نسأله. وجدت مدرسة أطفال سورها منخفض فتوجهت إليها وسألت إحدى المدرسات فأخبرتني أنها في الشارع التالي .. فتنفست الصعداء وانطلقت، وبعد دقائق وقعت عيني على مبنى السفارة المصرية.
تقع السفارة في أحد الشوارع الهادئة، شارع لا تسمع فيه "صريخ ابن يومين" حسب التشبيه العامي الطريف رغم عدم معرفتي بمعناه، وهل هو سريخ أو صريخ؟، المهم المنطقة راقية، وبها عدد من السفارات. والمبنى عبارة عن فيلا كبيرة مبنية على الطراز الكلاسيكي القديم، وهو بلا حراس بعكس ما نراه في السفارات والقنصليات في مصر والعالم، وبعكس ما رأيت منذ قليل في السفارة الأمريكية. على يمين الباب لافتة نحاسية عليها عبارة باللغة العربية هي (سفارة جمهورية  مصر العربية)، وعلى اليسار لافتة نحاسية أخرى مكتوب عليها EMBASSY OF THE Arab Republic of Egypt ، وتحتها لافتة صغيرة عليها رقم 19.
تنقسم الفيلا إلى طابقين كبيرين، كل طابق به عدد من النوافذ التقليدية الكبيرة، إضافةً إلى شرفة واحدة أنيقة، عدا دور ثالث هرمي الشكل، وذلك مثل الفيلات المبنية على الطراز الغربي، وفي الفيلا حديقة صغيرة مزروعة ببعض النباتات الخضراء، أمام المبنى صاريان طويلان، الصاري الأول لا يوجد شيء معلق به، أما الثاني فمعلق عليه علم مصري جميل.
خفق قلبي بشدة، كان العلم مرتفعاً كعادته، باسقاً كنخلة ترتفع في كبرياء، تهزها الريح فتميل يميناً ويساراً، لكنها لا تنكسر، وسرت في الجسد قشعريرة كتلك التي يشعر بها المغترب الذي يلاقي وطنه بعد طول غياب، خيل لي أن هذا الصاري مغروس في القلب.
تهادى إلى مسمعي صوت شادية وهي تغني ..
يا حبيبتي يا مصر .. يا مصر
يا أحلى البلاد يا بلادي ..
تداعت في ذهني آلاف الصور كتلك التي تتراءى لمحموم، إيه يا مصر .. يا أم الدنيا، مر عليك القراصنة، والتتار، والهكسوس، والمغول، والصليبيون، والزنادقة، وسماسرة الانفتاح، والقطط السمان، وأولاد الحرام، مروا عليك، ودنسوا ترابك الزعفراني الطاهر، ولكنك الآن باقية كالدهر، وهم  الآن عظام وهياكل في ترابك، رحل الغزاة،  ومازالت باقية كالوشك، مورقة كالحلم، صافية كاللبن الحليب.
على الباب الخارجي زر وجهاز "ديكتافون"، بمجرد أن ضغطت عليه سمعت صوت مصري يقول "أفندم"، عرفته بنفسي وأخبرته أن هناك موعداً مع المستشار سمية فانفتح الباب، ودخلت، المبنى يخيم عليه الهدوء، بعد درجات قليلة صعوداً دلفت إلى باب السفارة يساراً، لمحت على اليسار سيدة دنماركية يبدو أنها تعمل في السكرتارية، سألت عن مكتب المستشارة، فقيل لي في الدور الثاني، اصطحبني أحد موظفي السفارة مرحباً .. بالفراسة عرفت أنه مسئول الأمن بالسفارة،  رغم أنه يرتدي الملابس المدنية.
وسرعان ما كنت وجهاً لوجه مع المستشار سمية سعد القائمة بأعمال السفير .. فتاة رصينة محجبة، ترتدي زياً محتشماً مثلها مثل غالبية المصريات، آنسة لم تتزوج بعد، نهضت المستشارة من مكتبها،  واستقبلتنا بترحاب، ثم عادت إلى مكتبها الرسمي الوثير، عبرت لها في البداية عن شكري على الاستقبال الجميل الذي قاموا به، وهذه الحفاوة التي نلقاها منهم حتى الآن، وأبديت أيضاً سعادتي لوجود فتاة مصرية في مثل هذا المنصب، مما يؤكد أن المرأة المصرية أخذت حقها، واستطاعت أن تثبت جدارتها، وضربت مثلاً لسيدات بارزات في الميدان الدبلوماسي مثل السفيرة السابقة ووزيرة الشؤون الاجتماعية لاحقا مشيرة خطاب، والدكتورة ميرفت التلاوي وزيرة التأمينات الاجتماعية السابقة ورئيس المجلس القومي للمرأة حالياً.
والمستشارة سمية متحدثة لبقة، واعترف أن الصورة التي رسمتها لها عند حديثي معها في الهاتف تغيرت تماماً، ربما لأن المنصب الرسمي غالباً ما يفرض أسلوباً معيناً، ولكن عند مقابلتها اكتشفت أن الصورة مغايرة، وأن الآنسة المصرية الرصينة نموذج مشرف للدبلوماسيات المصريات .. حدثتني المستشارة سمية عن السفارة وعن جهودها في خدمة المصريين والأجانب، وكان حديثاً ودوداً.
سألتها عن وجود مكتبة في السفارة فأجابت بالإيجاب، فأهديتها نسخاً من إصداراتي، وأيضاً المجلات التي أعمل بها فقبلتها ممتنة.
قالت المستشار سمية : "محسن بك وصى عليك كثيراً"، فقد أرسل لنا (فاكساً) يطلب منا تسهيل مهمتك، أيضاً اتصل هاتفياً للتأكيد على ذلك.
ومحسن بك أو السفير محسن كما نحب أن نلقبه، هو السفير محسن بهاء الدين كامل قنصل عام مصر في جدة، وهو الشقيق الأصغر لمعالي الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التربية والتعليم الحالي، وهو أحد دبلوماسيينا الكبار الذين يعون جيداً دور الدبلوماسي، وقبل أن يكون سفيراً كان في الأصل أديباً مبدعاً يكتب القصة القصيرة باقتدار، بأسلوب فني يلج أعماق النفس الإنسانية.
وللسفير محسن أعمال عدة تنشر في مختلف الدوريات العربية، إضافة إلى مجموعة قصصية عنوانها (الطيران بلا جسد) صادرة عن الهيئة العامة للكتاب، وقد حصلت هذه المجموعة على جائزة أفضل مجموعة قصصية عام 1999، وعندما تجتمع حرفة الدبلوماسية مع حرفة الأدب فإن النتاج سيكون عظيماً، انظر مثلاً إلى نزار قباني الذي جمع بين العمل الدبلوماسي والشعر،  وأفادته أسفاره في أعماله الشعرية. أنظر أيضا للشاعر السعودي الدكتور عبدالعزيز خوجة الذي أفاده العمل الدبلوماسي كثيرا، وقد تقلد لاحقا منصب وزير الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية.
سألت المستشارة عن الملحق الثقافي بالسفارة، فأخبرني أنه لا يوجد ملحق ثقافي، فاستغربت ذلك لأنني أعلم أن كل سفارة موجود بها ملحق ثقافي وتعليمية وعسكري أيضاً، وعندما لاحظت دهشتي أردفت قائلة "يوجد ملحق ثقافي بسفارة مصر في برلين والدنمارك تقع ضمن اختصاصه".
من المهم والبديهي وجود ملحق ثقافي بسفاراتنا المصرية يعمل علي مد الجسور مع هذه الشعوب والتعريف بتراثنا وتقاليدنا وأدبنا المصري ولكن يبدو أننا حتى الآن ليس لدينا استراتجيه اختراق الآخر، مازلنا قابعين في الشرنقة، ولكن يبدو ماذا سنفعل في زمن "العولمة" والذي لا مكان فيه إلا للقوي والمنفتح والقادر علي التكيف مع (الطقس العالمي)، ماذا سيفعل أبناؤنا وهم لا يزالون قابعين في زمن الكتكوت، بينما العالم وصل إلي زمن الإنترنت والاستنساخ والبصمة الوراثية ..؟                            
سفاراتنا في الخارج يجب أن تكون مصدراً للإشعاع الثقافي والحضاري، ومصدراً لنقل التكنولوجيا والاستفادة من الآخر فكريا واقتصادياً، بل وعسكرياً. مصدراً لا يهدأ للترويج السياحي،  والتعريف بثقافة مصر وحضارتها ومواقفها الوطنية،  وموقعها في هذا العالم الكبير، يجب أن تكون سفاراتنا خلايا نحل لجلب الاستثمارات، ودعوة الوفود،  وعمل "بيزنس" رسمي حقيقي من أجل مصر.
وإلا قل لي كيف سنتطور .. إن الأمم لا تتطور ولا تنمو ولا تزدهر إلا بالاحتكاك بالآخر، وكما يقول المثل "من جاور السعيد يسعد"، يجب أن تتزاوج الحضارات، معظم الحضارات العظيمة لم تقم صدفة، ولكن نشأت باحتكاكها بحضارات أخرى، على سبيل المثال الحضارة الرومانية تطورت بفعل تأثرها بالحضارة اليونانية، ونحن في مصر لولا الحملة الفرنسية ما عرفنا المطبعة ولا الصحف، ولا طرق الحرب الحديثة،  ولا العلاجات المتقدمة، ومحمد علي التركي أو الشركسي هو الذي أنشأ جيشاً قوياً لمصر، هو الذي أنشأ مطبعة بولاق التي يرجع الفضل لها في النهضة الثقافية المصرية الحديثة، وعدد من المشروعات الحديثة، والكثير من علماء الإسلام كانوا من  الفرس، كذلك في الطب والعلوم وغيرهما .. إن الحضارات المزدهرة ببساطة هي في الأساس محصلة لتأثير حضاري كبير.
أعادتني المستشارة  إلى أرض الواقع عندما سألتني عن الهدف من زيارتي للدنمارك؟، فأجبتها بأن الهدف من الزيارة صحفي وترفيهي، والتعرف على المعالم الحضارية والثقافية في هذا البلد، إن معرفة الآخر شيء مهم للصحفي والكاتب، فلا يصح أن يكون الكاتب مثل جهاز (الفاكس) مجرد متلقٍ للمعلومات مثله مثل أي شخص .. يجب أن يتحرك الكاتب،  ويكون صانعاً للأحداث، تماماً مثل وكيل النيابة الذي ينتقل إلى موقع الحدث، ويستجوب الجميع،  ويعاين المكان،  ثم يكتب تقريره، وتحليليه للجريمة.
بمجرد وصولي المطار سألت عن سعادة السفير الدكتور محمد شعبان، فعلمت أنه غادر لتوه إلى القاهرة،  وأوصى بعمل اللازم لاستقبالي، وتسهيل مهمتي، ولكنني أسفت عندما علمت أنه صدرت له الأوامر بالانتقال إلى القاهرة في منصب جديد، وأن التكهنات مازالت قائمة حول اسم السفير الجديد، ويتوقع البعض أن تشغل هذا المنصب امرأة.
في حديث مع الشاب المصري الذي جلس بجواري في الطائرة، وهو حاصل على الجنسية الدنماركية،  أشاد لي بالسفير محمد شعبان،  وأخبرني أنه سفير غير عادي  لا يتوانى عن بذل الجهد لرعاية المصريين مهما كلفه ذلك، وروى  لي حكاية تناولتها الصحف الدنماركية لا أعرف مدى صحتها تتلخص في أن أحد الدنماركيين زار مصر،  وتعرف على إحدى الأسر القروية البسيطة، وكان طفلها يعاني من مرض معين، فتطوع الرجل الدنماركي، وعرض على الأسرة المساعدة، وعرض عليهم سفر الطفل معه على نفقته إلى الدنمارك للعلاج هناك، فوافقت الأسرة البسيطة، وسافر الطفل، وقضى وقتا هناك، ولكن بالصدفة اكتشف المسئولون أن هذا الرجل يستغل الطفل جسدياً، بل ويحصل على إعانة من الدولة كذلك، فتفجرت القضية، وتناولتها وسائل الإعلام، وحكمت الأجهزة المختصة بعودة الطفل إلى مصر، ولكن السفير محمد شعبان أصر على عدم سفر الطفل دون علاج، وبالفعل تم علاج الطفل على نفقة الدولة الدنماركية،  وسافر عائداً إلى وطنه.
وبغض النظر عن هذه القصة حقيقية أم محرّفة أم غير حقيقية،  كان الانطباع الذي أخذته عن السفير محمد شعبان جيداً،  رغم أنني لم أقابله، لذا أسفت لنقله إلى القاهرة رغم مرور عامين فقط على عمله سفيراً بالدنمارك، وتساءلت في نفسي .. لماذا الدبلوماسيون الأكفاء ينقلون بسرعة؟، فيما بعد علمت أنه تم ترفيعه ليكون مساعداً لوزير الخارجية.
في السفارة المصرية سألت القائمة بأعمال السفير عن وجود مترجم يمكنني الاستعانة به، فأجابت بالنفي، أخبرتني أنها حتى في أعمالها تعاني من هذه النقطة، حيث لا يوجد أحد يترجم رسائلها، إنها عقبــة الإمكانيـات، العقبة الكؤود الشهيرة التي يتحكم عليها كل عمل خلاق مؤثر.
سألتها عن إمكانية قيامهم بمساعدتي في محاولة تحديد موعد مع جلالة الملكة مارجريت الثانية ملكة البلاد، وذلك بتوجيه خطاب من السفارة لجلالتها ألتمس فيه تحديد موعد لمقابلة صحفية، أخبرتني بأن ذلك يستلزم رفع الأمر أولاً إلى وزارة الخارجية المصرية للموافقة، وأخبرتني أن مثل هذه الموضوعات تعرض على السيد الوزير شخصياً، وطلبت مني أن أكتب طلباً بذلك لكي يرسلونه (بالفاكس) للقاهرة لأخذ الموافقة.
استشعرت صعوبة الأمر، خاصةً وأن فترة إقامتي محدودة، وأن لي تجربة سابقة مع وزارة الخارجية المصرية تؤكد أن (حبالهم طويلة) بعض الشيء، وأحياناً لا توجد حبال لهم أصلاً، فقد أرسلت للوزير عمرو موسى – عندما كان وزيراً للخارجية. طلباً لتحديد موعد لإجراء حديث صحفي معه، وكان ذلك عن طريق القنصلية المصرية بجدة، ولم يصلني أي رد سواء بالقبول أو الاعتذار.
لم أتحمس لهذه الخطوة لأسباب عدة،  منها أن الصحفي يجب أن يكون مستقلاً، وإدخال السفارة في مثل هذا الموضوع قد يحد من هذا الاستقلال، وتساءلت في نفسي "ربما أكتب شيئاً يسبب حرجاً للسفارة"، خاصةً وأن العلاقات الدبلوماسية لها طبيعتها التي تتلخص في بعض الأحيان في عبارة "المشي جوار الحائط"، لذلك صرفت النظر عن الموضوع، وقررت المحاولة عن طريق آخر ..
طلبت من المستشارة معلومات عن الجالية المصرية القنصلية، وما يتيسر من صور لبعض هذا النشاط، ولكنها أبدت اعتذارها الشديد، والسبب أنها يجب أن تستأذن القاهرة أولاً. بدت على ملامحي مظاهر الإحباط، فسألتها السؤال الأخير "هل يمكن التقاط بعض الصور للسفارة وموظفيها، فاعتذرت مرة أخرى بشدة، والسبب نفسه وهو ضرورة استئذان القاهرة.
وانتهت المقابلة على وعد بزيارة أخرى، أثناء مغادرتي مبنى السفارة لاحظت أن عدد موظفي السفارة قليل، لا أدري هل هذه الحقيقة ؟، أم إن السبب أننا كنا خارج وقت العمل.
قبل أن نغادر قمت بزيارة القسم القنصلي الذي يشرف عليه أشرف محمود .. استقبلنا بحفاوة. القسم عبارة عن حجرة كبيرة تقع أسفل المبنى تتصدرها صورة الرئيس محمد حسني مبارك يعلوها النسر الجمهوري، وتوجد صورة أخرى معلقة للملكة نفرتيتي، وعلى الطاولة بعض المطبوعات عن مصر.
قبل أن نغادر،  ورغم أن التصوير ممنوع،  استطعت التقاط بعض الصور للسفارة من الداخل والخارج، وعذراً يا أهلي وعشيرتي، فالمهنة تحكم وميثاق العمل الصحفي يعطيني الحق في ذلك.
بعد عودتي إلى مصر فيه وجهت رسالة إلى سفير مصر في الدنمارك،  وطلبت منه معلومات مفصلة عن نشاط السفارة،  وخدماتها، وإحصائيات عن المشكلات التي يعاني منها المصريون هناك،  وغيرها من المعلومات التي تعين الكاتب، ولكن لم يصلني الرد، نفس الأمر حدث عندما أرسلت إلى الوزير أحمد ماهر وزير الخارجية حينئذ لم يصلني أي رد، نفس الأمر عندما أرسلت إلى اللواء إهاب علوي رئيس الهيئة العامة للتعبئة العامة والإحصاء !.. لم يصل أي رد.

ملكة من حرير
تتمتع الملكة مارجريت الثانية ملكة الدنمارك بشعبية كبيرة، فهي ملكة، وفنانة، وكاتبة،  وسياسية بارعة، ذات شخصية مرحة ليس فيها تجهم الملكات، وتصنع الساسة، ولكنها شخصية تلقائية استطاعت أن تنتزع إعجاب الجميع.
وتتحدث الكاتبة "ياسمين دقيق" عنها فتقول:
"تحتل مارجريت موقعاً متميزاً في تاريخ الملكية الدنماركية، فهي أول امرأة ملكة تحترف الكتابة والرسم والديكور، مما أضف على دورها الرسمي مضموناً شخصياً منفرداً ميزها عن سائر حكام الدنمارك".
كما قالت عنها الكاتبة الدنماركية "سوزان بروجر":
"صعدت مارجريت البنت الكبرى للملك فريدريك التاسع على عرش الدنمارك في عام 1972 بعد وفاة والدها الذي أنجب ثلاث بنات، ولم يتعد عمرها آنذاك الـ،31 عاماً، وكانت قد تعلمت من والديها أداء المهام المستقبلية".
"ورغم الألم الشديد الذي اعتراها من جراء وفاة والدها، بدأت الملكة الشابة خوض غمار الحكم ملكة رئيسية للدولة بخطوات واثقة، تقول عن تلك البدايات الصعبة:
"كان علي أن أليق بشعبي، وأثبت له أنني على قدر المسئولية التي أنيطت بي".
"ولعل أصعب ما في ذلك كون مارجريت أول امرأة تتولى بالفعل رئاسة الدولة، فالدنمارك لم تعرف غير ملكة واحدة سبقتها هي الملكة مارجريت الأولى (1323 – 1412) التي لم تحكم بالأصالة بل تولت منصبها بالنيابة عن ابنها أولوف .".
"والجدير بالذكر أن الدستور في الدنمارك لم يكن يسمح بأن تعتلي امرأة العرش حتى عام 1953، بعدما أجري عليه تعديل بموجب استفتاء شعبي أجاز ذلك".
"حصلت الملكة على شهادات متعددة في مجالات العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلوم الآثار واللغات من جامعات كوبنهاجن والسوربون في باريس وكامبريدج ومعهد الدراسات الاقتصادية في بريطانيا، كما نالت شهادات دكتوراه فخرية من عدد من الجامعات" .
"وتكرس الملكة جزءاً كبيرا من وقتها لمتابعة نشاطاتها الفنية المختلفة الأوجه، فهي رسامة مبدعة وصلت بها أعمالها إلى متاحف العالم، وقد ورثت عن أمها موهبة الديكور. تقول:
"بدأ اهتمامي بالديكور في عام 1947 حين انتقلنا إلى قصر فريدنبورج (منطقة العائلة المالكة)،  وشاهدت كيف كانت والدتي ترتب ديكور القصر، وهي لم تكن تلجأ إلى الاختصاصيين إلا في حالات نادرة، فوجدت ذلك مثيراً للغاية، وأخذت أهتم يومياً بكل جديد فور عودتي من المدرسة".
"ولاحقاً وضعت الملكة موهبتها في خدمة المسرح الملكي حين أعدت عام 1991 ديكور باليه "ايت فولكي ساجن" ، وهي من أروع الأعمال المسرحية التي شهدتها الدنمارك، وشاركت في ترميم قصر (كويستيان السابع) في كوبنهاجن وهو أحد قصور مجموعة "إميلين بورج" التي تضم أربعة قصور تابعة للعائلة المالكة".
"وعملت الملكة إلى جانب مصممة الديكور "آن نينكو- لارزن" في تصميم ديكور أجنحة القصر المختلفة، وخصوصاً قاعة "ريدرسالن" المخصصة للاستقبالات الرسمية، ولم ترك الملكة القصر حتى وضعت فيه  آخر قطعة أثاث عشية افتتاحه الرسمي، تقول:
"كان هذا المشروع حلماً يراودني منذ أكثر من 14 عاماً، كان يعيش أهلي في هذا القصر قبل ولادتي، ولاحقاً كانت أمي تأخذني معها لزيارته وتكلمني عن رغبتها في إعادة ترميمه".
وتضيف الملكة :
"استفدت من أفكار المجلات المتخصصة،  ولجأت إلى المراجع التاريخية لإنجاز هذا العمل، ولكن خبرتي في مزج الألوان هي التي ساعدتني قبل كل شيء، وهذه الخبرة هي نتيجة سنوات من الممارسة، فكلما أنجزت لوحة جديدة زادت معرفتي، فالعين تصبح متمرسة مع الوقت".
وللملكة شغف خاص بحضور مزادات الأثاث والتحف تقول: "ليس بهدف الشراء،  بل لأنها أفضل وسيلة للتعرف على تاريخ الأشياء، فالأثاث والتحف المعروضة في المتاحف مرممة،  ولا تظهر فيها العيوب، أما في المزادات فإنها تبدو على حقيقتها".
وتتحدث ياسمين دقيق عن زوج الملكة فتقول:
"الأمير هنريك زوج الملكة فرنسي الأصل وقد وقف بجانبها، وأعطاها ذلك ثقة بنفسها أخذت تزداد يوماً بعد يوم، فالأمير يشارك زوجته في الكثير من اهتماماتها، ويدعمها في كل خطواتها وإلى جانب إلمامه بالتاريخ والفلسفة يعشق هنريك الموسيقى والرسم.، تقول الملكة إنه أفضل نقادها وأقساهم حكماً على الإطلاق".
ولم تكن بدايات الأمير هنريك في العائلة الملكة الدنماركية سهلة، إذ رأى الدنماركيون في هذا الدبلوماسي الفرنسي الأرستقراطي الأصل دخيلاً على عادات وتقاليد بلادهم فأصبح عرضة لانتقاداتهم اللاذعة، بدءاً من هندامه ووصولاً إلى أفكاره عن المجتمع وطريقة تربيته للأطفال، غير أن هنريك والذي يدعى في الأصل هنري "حسب اللفظ الفرنسي" تلقى ترحاباً حاراً من الملك فريدريك التاسع عندما تقدم لطلب يد ابنته ووريثة العرش في عام 1967.
وتحسنت علاقة هنريك بالشعب الدنماركي تدريجياً خصوصاً بعدما أظهر مقدرته على الضحك والمزاح، وهي من ميزات الشعب الدنماركي.
يقول الأمير : "إنه لا يتساوى مع الملكة في نظر الدنماركيين"، ولكنه نال أخيراً احترامهم بعد أن أعطى الدنمارك الكثير من ذاته إلى حد أنه غير اسمه وجنسيته ولغته.
وقد تحدث الأمير هنري للصحافة،  وأعلن أنه مكتئب نفسياً لعدم إعطائه مهام ملكية، والصحافة لا تهتم به، بقدر اهتمامها بالملكة وابنه، وهذه التصريحات سببت ضجة في المجتمع الدنماركي، وبدأت الصحافة في مهاجمته وتقول: "إنه غيور وغير مقدر لقواعد البروتوكول الملكية".
ولعل الأمير هنري محق في موقفه، بعد أن لاحظ أنه عندما تكون هناك مهام تحتاج زيارة ملكية كانوا  يرسلون ابنه،  أو تذهب الملكة بنفسها، وهو دائماً على الهامش في النشاط الملكي، من لقاءات واجتماعات، وفي إحدى السنوات حدث خلاف بينه وبين الملكة،  وذهب إلى فرنسا، وأقام لفترة هناك، ولكن القناة الثانية في التليفزيون الدنماركي جمعتهم جميعاً في لقاء تلفزيوني،  وتمت المصالحة بينهم، وأعلنت الملكة أنه حبها الوحيد، وأعلن هنري الموقف نفسه وانه لا توجد مشكلات بينهما.
البرنس الذي سيجلس على العرش كراون برنس فريدريك قام بخطبة فتاة من استراليا،  ويستعدان للزواج، أما البرنس الآخر .... فهو متزوج من فتاة من هونج كونج اسمها ألكساندرا، وهي تجيد سبع لغات، والشعب الدنماركي يحبها، وهي تتحدث اللغة الدنماركية بطلاقة،  ولديها طفل عمرة ثلاث سنوا، وقد رزق أخيراً بمولود، واحتفلت البلاد بقدومه.. قدوم برنس جديد.
والأسرة الملكية في الدنمارك الآن في ظروف جيدة جداً، بعد انتهاء المشكلة العابرة الخاصة بالأمير هنري، وأصبحت الملكة ترسله في مهام رسمية، مثل زيارته لجرين لاند التي قام بزيارتها نيابة عن الملكة، وهي مقاطعة تابعة للدنمارك.
وتستعد الدنمارك حالياً لزواج ولي العهد الأمير فريدريك وعروسه الأسترالية ماريا، والأمير فريدريك طيار، وحصل على وظيفة أخيراً في قطاع الطيران، والشعب الدنماركي معجب بعروسه الجديدة ماريا وجمالها الفاتن، والملكة أيضاً سعيدة بها، والكل يتوقع حفلاً أسطورياً للزفاف قريباً، لأنه الأمير الوحيد في أسكندنافيا الذي لم يتزوج حتى الآن .. ، ووريث العرش في النرويج المجاورة تزوج، وفي السويد وريث العرش الأمير فيكتوريا لم تتزوج بعد.
والأمير فريدريك عرف فتيات كثيرات، وكلهن كن مرشحات للزواج، ولكن القدر ساق في طريقه ماريا الجميلة، فأحبها،  وقرر الزواج منها لتشاركه العرش.
والأسرة المالكة بعيدة عن السياسة، حتى إنهم لا يدلون برأيهم في السياسة، فهناك حكومة منتخبه تحكم البلاد، والأسرة المالك رمز للتاريخ الدنماركي.

الوطن والأسئلة
الليلة صافية. استيقظ مبكرا كعادتي، افتح باب الشرفة لأستنشق هواءً لم يلوث بعد، استمع إلى جلبة من بعيد، وألمح وجوها أعرفها جيداً، يغمرني الحنين إلى شيء جميل اسمه الوطن.
طوال رحلتي كنت أفتقد شيئاً ما، كنت أبحث عنه، إنها مصر الوطن وحرق الأسئلة، كنت أبحث عن مصر، في الوجوه والمحلات والعناوين الباردة، في ثقافة هذا الشعب وأفكاره، باختصار كانت رحلتي أشبه باستفتاء من أجل مصر، تماما مثل الاستبيان الذي تعده الجريدة،  وتنشره،  وتطلب من القراء المشاركة فيه لكي يساعدهم ذلك على التطوير، وكما يقول الشاعر (وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ).
 في إحدى زيارات سيدة الغناء العربي أم كلثوم لباريس سألها أحد الصحفيين عما أعجبها في باريس، قالت أم كلثوم "المسلة المصرية في باريس"، هكذا هم المصريون دائماً يحبون وطنهم،  ويرتبطون به ارتبطاً روحياً وثيقاً.  قال لي أحد الأصدقاء السعوديين "إنني أحسدكم على شيء مهم ، وهو حبكم لوطنكم".
وكنت أخشى أن لا أجدها، ولكني وجدتها، فليس هناك من لا يعرف مصر الحضارة والتاريخ، ولكن التفاصيل بالطبع ليست مكتملة عند الكثيرين، وكلمة مصر بالنسب للدنماركيين مرتبطة فقط بالأهرامات، فالكل يعرف أهرامات الجيزة إحدى عجائب الدنيا السبع التي بناها المصريون القدماء،  وظلت أكثر من سبعة آلاف عام،  وستظل تقاوم الزمن لتسجل للتاريخ عظمة هذا الشعب،  وقدرته على الإبداع.
لذلك فإن عدداً كبيراً من المواطنين هنا إما زاروا مصر،  أو يتطلعون لزيارتها، وإذا سألت عن حركة السياحة الدنماركية إلى مصر ستكتشف إنها جيدة ، وتنمو باستمرار، فالشباب الدنماركي عندما يفكر في السياحة،  فإن مصر تكون غالباً في أول القائمة؛ لأن سحر الشرق وتاريخه وحضارته مقوم هام للجذب السياحي.
وفي حواراتي مع المواطنين عرفت الكثير من الآراء حول مصر، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، وإن كانت الآراء الإيجابية أكثر .. ، على سبيل المثال قال لي شباب يدرس في الجامعة "إنه يحب مصر،  ويقدر دورها السياسي في العالم ، ويقدر الجهود التي تقوم بها لتنمية الاقتصاد والمجتمع:".
سيدة دانماركية متزوجة من مصري، وتزور مصر هي وزوجها كل عام قالت لي "إنها لا تحب في مصر إلا القاهرة والإسكندرية فقط،  أما الأقاليم فتكرهها – هكذا بالتعبير نفسه-، والسبب أن المصريين بها يشيرون عليها،  ويمطرونها بتعليقاتهم ومعاكساتهم، والسبب لون شعرها الأصفر، ورغم ذلك ستوافق على اقتراح زوجها بشراء شقة في القاهرة،  والاستقرار بها".
لاعب كرة شاب يعرف مصر، ولكنه لم يزرها من قبل،  ويأمل أن تسنح له الفرصة في إجارته المقبل لزيارتها، سيدة أخرى متزوجة من شاب مصري،  ولها منه ابنة جميلة، حدثتني أنها حضرت أحد الأفراح المصرية، واندهش لحجم الضوضاء الناتجة عن هذا الحفل، الموسيقي الصاخبة،  والغناء المرتفع، والعزف الذي يصم الآذان، حتى أنها اضطرت للانسحاب من الفرح خوفاً على ابنتها الصغيرة من الضجيج، وقالت لي : "لماذا يفرح المصريون بهذه الضجة، ألا يمكن أن يفرحوا بهدوء"، ورغم غضب أسرة الزوج في البداية لمغادرتها الحفل، إلا أنهم تفهموا بعد ذلك السبب.
قالت لي سيدة أخرى : "إن نظام الحكم في مصر سيئ لا يراعي ظروف الشعب ومتطلباته" ، وهذا في رأيها السر في المعاناة الاقتصادية التي نعاني منها، احترمت رأيها وقلت لها: "عدد سكان مصر سبعون مليون نسمة، وهو عدد كاف لتحطيم أي خطة وأي إنجاز" ، وأردفت قائلاً: "تصوري لو أن شعبكم هذا،  وعدد سكانه الآن خمسة ملايين أصبح فجأة سبعين مليوناً ماذا يحدث ..؟، سيتحول هذا البلد الجميل إلى فوضى .. أليس كذلك؟"، نظرت إلى وحركت رأسها بشكل يوضح عدم اقتناعها.
والعلاقات المصرية الدنماركية علاقات متميزة، فالدنمارك تنظر إلى مصر كبلد عريق ضارب بجذوره في الأصالة والتاريخ، ومصر كذلك تنظر إلى الدنمارك كإحدى البلدان المتقدمة المستقرة المتمتعة بخلفية حضارية كبيرة، وبين البلدين عدد من اتفاقيات التعاون في كثير من المجالات.
ومن هذه الاتفاقيات مذكرة التفاهم التي وقعتها مصر مع الدنمارك، ويتم بمقتضاها تقدم الوكالة الدنماركية للتنمية "دانيدا" منحة لا ترد لمصر تبلغ 230 مليون كرونا أي ما يعادل 115 مليون جنية مصري لتمويل برنامج دعم قطاع الطاقة في مصر للسنوات المقبلة، وهناك عدد من الجمعيات والهيئات التي تعني بتنشيط التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين منها "جمعية الأعمال الأسكندنافية".
والأمير هنريك فيليب زوج الملكة من المحبين لمصر، وهو دائم التردد عليها لممارسة رياضيته المفضلة،  وهي قيادة القوارب الشراعية، وأحيانا يرافقه في هذه الزيارات رجل الأعمال المصري عنان الجلالي، وقد قام الأمير برعاية عدد من المسابقات الدولية لهذه الرياضية في مصر كان آخرها مسابقة أقيمت في شرم الشيخ، وقد نجحت هذه المسابقات في لفت انتباه المصريين لهذه الرياضية الجميلة، وهو أيضاً عاشق للآثار المصرية.
 في زيارته الأخيرة لمنطقة آثار الجيزة قال الأمير : "رغم أن زيارتي هذه هي العاشرة للمنطقة، إلا أنني اكتشف جديداً في كل مرة، خاصةً الحفائر والاكتشافات الجديدة"، وعن الأهرامات قال: "الأهرامات صديقة قديمة لي، أشعر بالسعادة كلما تأمل عظمتها"، وأشار ضاحكاً"ربما تعود صداقتنا إلى أكثر من سبعة آلاف عام".
وينظر المصريون إلى الدنمارك كبلد حضاري لم يلوث، يتمتع بكل مقومات الحضارة والتقدم، ويقارنها بعضهم بأمريكا مؤكدين على أنها الأفضل، ويعتز الدنماركيون ببلدهم إلى حد كبير، اعترضت "أنَّا" وهي فتاة دنماركية على وصفي لأمريكا بـ  " أرض الأحلام" ، وقالت: "الدنمارك أفضل من الولايات المتحدة الأميركية  في كثير من الأشياء".
وللدنماركيين سجل كبير في دعم حقوق الإنسان، فهم شعب يؤمن بقضية الإنسان، ويرفض كل أشكال الظلم والتعسف، وفي عام 2001 أشار استطلاع للرأي إلى أن 56% من العينة المشاركة في الاستطلاع يطالبون الحكومة الدنماركية برفض قبول أوراق اعتماد السفير الإسرائيلي الجديد لدى الدنمارك، وكان السفير الإسرائيلي الجديد هو كرمي غلبون رئيساً لجهاز المخابرات الإسرائيلية، وله سجل أسود في تعذيب المعتقلين الفلسطينيين، وقتل أثناء رئاسته لهذا الجهاز أعداد كبيرة من الفلسطينيين تحت التعذيب.
وكانت "المنظمة الدنماركية لإعادة تأهيل الأسى السياسيين الذين يتعرضون للتعذيب في بلاد العالم" قد هاجمت تعيين غليون سفيراً لإسرائيل في الدنمارك للأسباب نفسها .. وهي سجله الأسود في تعذيب وقتل الفلسطينيين.

الرحيل إلى كرستيانيا

طلب مني مرافقي أن أخفي هويتي الصحفية، لأننا سندخل الآن أخطر منطق في كوبنهاجن، عالم الظلام على حد وصفه، إنها CHRISTIANIA كرستيانيا ، معقل المخدرات، هنا لا بوليس ولا قواعد، سوق خاص جداً، والسلعة الرئيسية هي المخدرات.. ، مخدرات من جميع أنحاء العالم تباع علنا في أكشاك تشبه أكشاك معرض القاهرة الدولي للكتاب، الماريجوانا، والحشيش،  والأفيون .. وأنواع أخرى عديدة من المخدرات، معلبة و"فرط" ،  .. جملة وقطاعي، وأدوات التدخين الخشبية الغريبة، تبيعها وجوه متنوعة .. أفارقه وأوربيون ودنماركيون وغيرهم، والأسعار معلقة على كل صنف،  تماماً كما يعلن العطار عن أسعار الشبّة والفسوخة والحبَّهان.
و"كرستيانيا" منطقة غير منعزلة تقع في قلب المناطق المعمورة، يدلفون إليها من خلال سور متهدم، والمنطقة عبارة عن مزارع كثيفة، أشجار ملتفة ومرتفعات ونهر يخترق الأرض،  ويمضي لا أدري إلى أين، على شاطئه قارب مبلل بالمطر، والبنايات الخشبية تذكرك بأجواء الريف الأمريكي،  حيث رعاة البقر،  وطلقات المسدسات،  والخيول الهاربة.
ولـ "كرستيانيا" عمدة أو زعيم بالطبع غير شرعي تماماً كالفتوة عندنا .. يدير شؤونها، وله الكلمة الآمرة الناهية بها، وفي "كرستيانيا" كل شيء .. كافيتريات، واستراحات، وجلسات في الهواء الطلق، ومحلات فول وطعمية ، ودورات مياه قذرة، ومراسم للفنانين، وطاولات بلياردو،  وعزف ، وفتيات جميلات،  ونساء يحترفن الدعارة، شباب وفتيات يأتون لتدخين الحشيش والماريجوانا، ويوجد أيضاً أشخاص محترمون – مثلي- يأتون للترفيه،  وشرب المشروبات البريئة مثل المياه الغازية.
على جدار إحدى البنايات رسم كبير، على اليمين نباتات ترمز إلى المخدرات النباتية،  وبجوارها على اليسار رسم لحقنة محطمة تحتها رسم ليد قوية، والمعنى المقصود واضح ، فهم يؤيدون المخدرات النباتية،  ويحاربون المخدرات الكيماوية القاتلة.
تأملت المخدرات المعروضة جيداً ، فوجدت أن بعضها مغلف بورق السلوفان،  وعليه ماركة معينة، مما يوضح أن هناك شركات تقوم بإنتاج هذه الأصناف وترويجها، تقف على بيعها وجوه قاسية لا تبتسم أبدا.
 تقول الأنباء إن الولايات المتحدة الأميركية طاردت الحكم في طالبان،  وضربت عليه الحار بدعوى أنهم يبيحون زراعة الأفيون،  لدرجة أن أفغانستان تحت حكمهم أصبحت تنتج 3656 طناً من الأفيون أي  72% من الإنتاج العالمي.
 أليس غريباً أن يحدث ذلك،  وتتجاهل أمريكا هذه البؤر الموجودة في قلب أوروبا، والتي تبيع المخدرات وتسوقها وتحميها أيضاً ..؟،  أليس غريباً أن تنصِّب أمريكا نفسها شرطيً في العالم، وتقتحم بنفسها دولة مثل بنما،  وتقبض على رئيسها نوريجا، وتضعه في أحد سجونها بتهمة الاتجار في المخدرات والكوكايين، إضافة إلى تهم أخرى مثل بيعه معلومات أمريكية،  وغسيل الأموال، والابتزاز، هذا الغزو الذي عارضه،  وندد به عدد كبير من مؤسسات حقوق الإنسان، ومن ضمنها منظمات أمريكية مثل "منظمة دول أميركا الوسطى"، وها هي المخدرات تنتج وتباع علناً في أكشاك للمواطنين في دولة أوروبية صديقة، ومن لا يشتري .. يتفرج !.
أمسكت بيدي حفنة من نبات الماريجوانا، وتأملت غباء الإنسان عندما يضع نفسه في قمقم أسيراً لهذه الحفنة التي تشبه روث الماشية الجاف. التفت لصديقي قائلا: تصور هذه الحفنة من الماريجوانا في مصر كافية لإدخالك السجن "تأبيدة" ...، وإن كان المحامون الآن يستطيعون بطرقهم الحلزونية إخراج أعتى المجرمين كالشعرة من العجين، فيعودوا بعد أيام لممارسة تجارتهم الرائجة.
"محروس" صبي قروي يمارس عملاً غريباً ، وهو صيد السمك باليد ، يضرب "بلانص" في الماء،  فيغيب،  ويخرج من الماء،  وعلى وجهه ملامح الانتصار، وفي يده سمكة تحاول الخلاص من يده، تذكرته وهو يحكي لنا بأسلوبه الريفي كيف كان يجمع أعواد الملوخية،  ويقف بها على الجسر يبيعها للشباب المرفهين الذين يأتون من المدينة على أنها "بانجو"، سألناه "ألم يكتشف ذلك أحد"، فأشار بالنفي، وأوضح أنهم كانوا يعودون مرة أخرى للشراء.
 ضحكنا طويلاً، خاصة عندما حكى لنا كيف ركض وراءه ذات مرة أحد المخبرين، وكيف هجم عليه،  وتمكن من الإمساك به عندما تعثر في الطين، وضحكنا من القلب عندما وصف لنا كيف كان المخبر يضربه في مركز الشرطة على قفاه، وكيف انتهت الحكاية في القسم بالضحك،  عندما اكتشف الضابط أن الممنوعات التي يبيعها ما هي إلا أعواد الملوخية.
تذكرت المطرب الشعبي وهو يغني :
الواد "جرئ" والواد  "لانجو"
ضاعت حياتهم م البانجو
في المستشفى خلاص تايهين
وبيرقصوا بلدي وتانجو
يافطة (ممنوع التصوير) معلقة في كل مكان،  والويل لمن يخالف ذلك.. حذرني مرافقي من التصوير ، وقال لي"هذه المنطقة أخطر مما تتصور" .. تذكرت الشقراء التي تعرفت عليها في "السنتر" ، لقد قالت لي "إذا أردت أن تدخل أوروبا .. احذر فمن الممكن بسهوله أن تقتل"، بدلاً من أن يخيفني ذلك، اشتعلت داخلي روح المغامرة، فأخبرت صديقي بإصراري على تصوير هذه المنطقة،  فاستشاط غضباً،  وحذرني من إظهار الكاميرا، وهددني بتركي بمفردي إذا قمت بذلك، هدأت من روعه وأظهرت امتثالي لأوامره.
إنهم يحاربون المخدرات السائلة والكيميائية القاتلة بإباحة المخدرات النباتية، والسبب – كما قيل لي – هو تجنيب الشعب خطر الموت الذي يسببه الهيروين وغيره من المخدرات الكيماوية، أخبرني صديق أنه من حين لآخر يبث  التليفزيون صوراً لشباب مات بسبب المخدرات، والدولة كما يبدو تحاول الحد من هذه الكارثة بإباحة المخدرات النباتية التي يعتقدون أنها غير ضارة،  أو قل أقل ضرراً من غيرها .. هذا هو شعارهم.
أمام إحدى الكافيتريات في كرستيانيا وقفت في طابور لأشتري ساندوتشات الطعمية يعدها ويبيعها شباب عرب، فرحت وشعرت بالفخر والتيه عندما وجدت هذا الإقبال على الطعمية المصرية الشهيرة، فقد وصلت الصناعة المصرية هنا، من قال إننا متخلفون عن الركب العالمي!
وكانت ليلة مثيرة في عالم الظلام.

عالم الظلام ..
عندما رأت الصديقة "سارة" إصراري على تصوير (كرستيانيا) وعدتني بالمساعدة،  فاتصلت بصديق لها يعمل داخل المنطقة،  وسألته عن إمكانية التصوير ، فحذرها من ذلك، ولكن عندما لاحظت إصراري قالت : "لا تيأس"، واتفقنا على أن نقوم بالمغامرة معاً.
في اليوم المحدد وفي وضح النهار انطلقنا إلى المكان المحدد، وبعد أقل من نصف ساعة، توقفت السيارة أمام "كرستيانيا .. عالم الظلام" كما يطلقون عليه، وأوقفنا السيارة أمام مدخل المنطقة حتى نتمكن من الهرب عند الخطر، ودخلنا المنطقة مترجلين على الأقدام، وقد فضلنا دخول المنطقة في النهار لقلة الزوار،  وحتى لا يؤدي استخدام الفلاش إلى كشفنا.
الطبيعة جميلة والجو صاف، والأشجار المحيطة بالمنطقة تعطي بعداً خيالياً كأنك بطل لقصة تدور أحداثها في الغابات، التقطنا بعض الصور، وتجولنا في المنطقة، ومشينا على الأقدام، واقتربنا من تل عال يجاوره نهر، في منطقة نائية، فوجئت بشاب أسود يظهر فجأة أمامي وكأنه جاء من تحت الأرض، اقترب مني، كان متجهم الوجه تظهر عليه سمات المجرمين، وقال بصوت أجش شيئا ما، ... دارت في رأسي جميع الاحتمالات، تصورت أن الرجل لاحظ أننا نلتقط الصور فجاء ليفتك بنا، تصورت أن الرجل من مدمني المخدرات وجاء ليسرقنا، تصورات كثيرة في لحظة واحدة، بسرعة فكرت في طريقة مواجهته، هل استخدم قدمي بقوة وحذائي المدبب،  أم أشل حركته بضربة مباشرة في الوجه، أم أفعل كما فعل بروس لي في أحد أفلامه، أشغله وأنظر في يدي، وعندما ينظر هو إليها أطيحها بقوة في وجهه، تصورات سريعة قطعها صوت سارة وهي تجيب عليه ببعض الكلمات، بسرعة غادر الرجل المكان، سألت سارة ماذا كان يريد، فأخبرتني أنه كان يسألك عن ولاعة سجائر ليشعل سيجارة!.
وبعد أقل من ساعة انطلقت السيارة بنا على طريقة جان كلود فاندام لنخرج من المنطقة بسلام بعد أن تمكنا من تصوير صور لها.

دَاوِن دَاوِن إسرائيل
مظاهرة حاشدة تنطلق من قلب المدينة يشارك فيها دنماركيون وعرب من جميع الجنسيات تضامنا مع الشعب الفلسطيني، سيدات محجبات، وأشخاص يرتدون الكوفية الفلسطينية، يرفعون أعلام الدنمارك وفلسطين، وهتافات تقول (داون داون إسرائيل) (Israel Down Down) ومعناها (تسقط إسرائيل)، فتيات شقراوات أوربيات ودنماركيات انحزن إلى الحق والعدل، خطب نبرية، ومسرح في الهواء الطلق، المسرح عبارة عن عربة نقل كبيرة تم تجهيزها لتكون مسرحاً متنقلاً، على المسرح يقوم بعض الأشخاص بإلقاء الخطب المنددة بإسرائيل وأمريكا، حامية  إسرائيل التي تنتهك حقوق الإنسان كل يوم وكل لحظة .
الحشود تتدافع وتتجمع في حماس،  وتحرق العلم الأمريكي أمام السفارة الأمريكية، والهتافات تتعالى (داون شارون)، (داون إسرائيل)، البوليس يحرس المظاهرة، بمرور الوقت يتزايد حجم المتظاهرين بانضمام أعداد جديدة لها، شخص يحمل مكبر صوت في يده ويهتف (Down Down USA)  ، المظاهرة تشق قلب كوبنهاجن، تمشي ببط في الشوارع الرئيسية، وتتجمع وتقف أمام مبنى الحكومة الدنماركية.
أكد أحد المتحدثين في المظاهرة أنه سيقدم إلى السفير الإسرائيلي ورئيس الحكومة الدنماركية رسالة احتجاج من الشعب الدنماركي على المجازر الصهيونية التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين.
فتيات محجبات يهتفون بالعربية (لا إله إلا الله .. محمد رسول الله .. الشهيد حبيب الله) .. (Down Down USA)، شخص يحمل كاميرا ، ويلتقط الصور، لافتة تتأرجح بين يدي مجموعة من الشباب مكتوب عليها باللغة العربية (أمريكا الشيطان الأكبر)، طفل صغير يرتدي الكوفية الفلسطينية يحمل في يده علما عربيا هو علم فلسطين، أشخاص يقودون الدراجات على جانب المظاهرة، صور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات تحملها الأيدي، لوحات عليها عبارات باللغة الدنماركية تندد بإسرائيل، بعض المتظاهرين يحملون صوراً بالأبيض والأسود لأطفال فلسطيني قتلتهم الأيدي الإسرائيلية القذرة التي لا تفرق بين رجل وطفل، امرأة وشيخ، عائلة مصرية .
 أب يحمل طفله على كتفه، والأم أجنبية تمسك بيدها كاميرا فيديو،  وتسجل وقائع المظاهرة، تحدثت معهم فأكدوا أنهم حضروا للمشاركة في هذه المظاهرة للوقوف مع الشعب الفلسطيني،  والوقوف في وجه المحتلين ولو بالتظاهر.
إشارات المرور خضراء دائماً تيسيراً للمظاهرة، وحتى لا تعيق السير، الشرطة تسهل مرر المظاهرة،  وتتيح للمتظاهرين التعبير عن موقفهم.
والتظاهر في الغرب وسيلة للتعبير عن الرأي، وهي إحدى الوسائل المؤثرة في الرأي العام الأوروبي، وقد علمت أن هذه المظاهرة جاءت ردا على مظاهرة حاشدة نظمت منذ أيام قام بها أنصار إسرائيل.
ولكن حق التظاهر مسلوب في العامل العربي، فإذا فكر أحد أن يخرج إلى الشاعر ليعبر عن رأيه بطريقة سليمة في قضية ما، قام رجال المباحث بدورهم على أكمل وجه، هذا بالطبع عدا بعض المظاهرات التي تنظم إما بإيعاز من الحكومة،  أو تشجيع منها لسبب سياسي معين، أو لعدم القدرة على مواجهتها كبعض المظاهرات التي تحدث دعم القضية فلسطين.
المظاهرة الآن تصل إلى منطقة يوهاون،  وهي منطقة سياحية شهيرة في العاصمة، هتافات عربية (نحن عشاق الحرية)، ... (واحد اثنين .. الجيش العربي وين)، وهتافات أخرى تندد بزعيمين عربيين بالاسم أحدهما مات،  والآخر عائش.

عصفور في قفص
في مقال لي أسميته (الفكرة المجنونة) طرحت فكرة "توحيد العالم"، وأكدت أنها السبيل الوحيد لسلام البشرية ورخائها، وأكدت أن (العولمة) كظاهرة تعتبر خطوة في اتجاه ذلك، لا يهم إن كانت هذه خطوة أو بلاطة، المهم إنها خطوة في الاتجاه السليم، وسوف تعقبها لا شك خطوات، وربما بعد مئة سنة أو خمسمائة سنة نجد أمامنا عالماً واحداً متحداً، تذوب فيه البلدان والعرقيات والأنظمة في كيان واحد،  ودولة واحدة اسمها "العالم"، تؤمن بتعدد الأديان كما تؤمن بالحرية.
وقد تناول المفكرون على مر العصور أهمية الانفتاح على الشعوب والثقافات والحضارات واللغات،  وأهمية معرفة الآخر، والاستفادة منه، كما أشاروا إلى خطر الإنعزالية،  وعدم مواكبة التغيرات العالمية، والتخلف عن الركب.
ولمعرفة الآخر هناك عدد من الوسائل، منها ترجمة آثاره الفكرية والإنسانية، وتنظيم الزيارات العلمية والاقتصادية، والتعرف على تجربته ودراستها، والتعاون الاقتصادي والعلمي،  والعمل على نقل التكنولوجيا، والسجال الحضاري معه حول مختلف قضايانا بما يتفق مع تقاليدنا وديننا، وغيرها من الوسائل التي تكفل لنا الاحتكاك بالحضارات الأخرى، والاستفادة منها.
وهذه التبادلية الثقافية والحضارية شيء أساسي وبديهي للنمو والتقدم، فلا يصح أن تأخذنا العنجهية،  ونبدأ من أول الطريق حتى نحقق السبقية الوهمية، ويأخذنا وهم أننا الأفضل والأحسن والأطهر،  كما يحدث في كثير من الأحيان.
 ولكن الطبيعي أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، ولكن للأسف هناك فئة لدينا تعارض هذا الاتجاه، وتعمد إلى إرهاب الناس من (الآخر)،  باعتباره (عفريتاً أو شيطاناً) يجب الاستعاذة منه وتجنبه، ويذكرون في هذا الصدد عشرات الحجج الواهية، تارة الحفاظ على تقاليدنا الراسخة، وهويتنا الإسلامية، وتارة أخرى الحفاظ على خيراتنا التي يطمع المستعمرون في الاستيلاء عليها، وغيرها من الآراء التي أسست في المجتمع مبدأ الخوف من الآخر ، أو على الأقل الاحتراز منه، والذي وصل في أحد الأوقات إلى الدعوة لتجنب المسيحيين وعدم مخالطتهم، كما حدث عندما فسر بعضهم كلاماً بهذا المعنى للدكتور عمر عبدالكافي، واستغل بعضهم ذلك في محاولة ضرب الوحدة الوطنية.
وبالغ أحدهم عندما أفتى بأن السفر إلى بلادنا الكفار لا يجوز إلا للعلاج أو خدمة المسلمين، ولا أعتقد أن الإسلام المستنير الذي انتشر حتى وصل إلى أبعد الآفاق يدعو إلى تجنب أصحاب الديانات الأخرى،  ويدعو إلى عدم مخالطتهم،  والتعامل معهم ، والسفر إلى بلدانهم كما يدّعي هؤلاء، ولعل أحد الأدلة على ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته رهن درعه لدى يهودي بالمدينة .. الرسول الكريم الذي لو أشار بيده لجاءته خزائن الأرض يرهن درعه لدى يهودي! لماذا؟، لكي يضرب لنا مثلاً صلى الله عليه وسلم لسماحة الإسلام،  وانفتاحه على الثقافات والشعوب، بل إنه صلى الله عليه وسلم تزوج منهم عندما تزوج السيدة صفية بنت حيي وكانت يهودية.
ويسوق بعضهم أحاديث نبوية تدعو إلى الانعزال عن الكفار،  وعدم مخالطتهم، وهي كلها أحاديث لم تصل إلى درجة الصحة،  كما أفتى الدكتور يوسف القرضاوي، وتساءل إذا كان الإسلام يدعو إلى الانعزال عن الكفار،  فكيف إذن انتشر الإسلام، إن هذا الزعم لو صح  لظل الإسلام في الجزيرة العربية لم يغادرها أبداً.
وإذا كان هذا الشيخ الجليل الذي يدعو إلى الانعزال عن الغرب، فأولى به أن لا يستخدم المصباح،  لأنه من صنع الغرب،  ويعود ليستخدم الفحم والنار، وأولى به أن لا يستخدم السيارة،  والمبردات،  ومواقد النار ،  وغيرها من الأدوات الحديثة التي يزدحم بها منزله، وذلك لأن صنّاعها كفار.
إن ذلك يذكرني بالاعتراضات التي برزت عندما ظهر التليفزيون في حياتنا، وادعى بعضهم أنه عمل من أعمال الشيطان، وذكرني تحديداً بالمظاهرات التي اندلعت أيام الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز في السعودية اعتراضاً على قيامه بتدشين محطة التليفزيون، والتي يقال أنها كانت سبباً غير مباشر لاغتياله.
هذه فتوى أصدرها أحد علمائنا الأجلاء قال فيها:
"وأما التليفزيون فهو آلة خطيرة، وأضرارها عظيمة كالسينما أو أشد، وقد علمنا عنه من الرسائل المؤلفة في شأنه، ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها ما يدل على خطورته، وكثرة أضراره بالعقيدة والأخلاق وأحوال المجتمع، وما ذلك إلا لما يبث من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة، والصور الخليعة، وشبه العاريات، والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم، وأزيائهم، وتعظيم كبرائهم، وزعمائهم، والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين، وأبطال الإسلام، وتمثيله بالصورة المنفرة منهم، والمقتضية لاحتقارهم، والاعتراض عن سيرتهم، وبيان طرق الاحتيال والسلب والنهب والسرقة، وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.
ولا شك أن ما كان بهذه المثابة، وترتبت عليه هذه المفاسد يجب منعه ، والحذر منه، وسد الأبواب المفضية إليه،  فإذا أنكره الإخوان المتطوعون، وحذروا منه، فلا لوم عليهم في ذلك، لأن ذلك من النصح لله ولعباده.
ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور، ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت فقد أبعد النجعة، وغلط غلطاً كبيراً، لأن الرقيب يغفل فيه، ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى، والواقع شاهد بذلك كما في الإذاعة، والتليفزيون في بعض الجهات ، فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما ، ونسأل الله أن يوفق قادة المسلمين لما فيه صلاح الأمة ونجاتها، وسعادتها في الدنيا والآخرة، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على إحكام الرقابة على هذه الوسائل حتى لا يبث منها إلا ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم إنه جواد كريم".
وفي إحدى المطبوعات العربية ورد هذا السؤال عن حكم التصوير، طالعوا معنا السؤال والإجابة:
السؤال : ما قولكم في حكم التصوير الذي عمت به البلوى وانهمك فيه الناس؟
الجواب : "الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد: فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذي روح آدميا كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور،  والأمر بطمس الصور،  ولعن المصورين،  وبيان أنهم أشد عذاباً يوم القيامة، وأنا أذكر لكم جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وأذكر بعض كلام العلماء عليهما، وأبيّن ما هو الصواب في هذه المسألة إن شاء الله.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى : "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فيخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" لفظ مسلم. ولهما أيضاً عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين ينعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم" لفظ البخاري.
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم، وثمن الكلب، وكسب البغي، ولعن آكل الربا وموكله، والواشمة والمستوشمة والمصور.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" (متفق عليه). وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل أصور هذه فأفتني فيها، فقال: أدن مني، فدنا منه ثم قال: أدن مني، فدنا منه حتى وضع يده على رأسه فقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً تعبه في جهنم" وقال: إن كنت فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له، وخرج البخاري قوله إن كنت لابد فاعلا" الخ في آخر الحديث الذي قبله، بنحو ما ذكره مسلم انتهى. ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب الذي نقلت منه هذه الفتوى، وهو كتاب حكم الإسلام في التصوير: ص 37، 38 للشيخ ابن باز).
في عام 2001 أصدر الملا محمد عمر أمير حركة طالبان في أفغانستان حينئذ قراراً بهدم وتحطيم التماثيل الأثرية الموجودة في أفغانستان كافة،  والتي تعتبر روائع أثرية لا تقدر بثمن، ويرجع تاريخ بعضها إلى عصور سحيقة تصل إلى 2000 عام أي قبل الإسلام، وذلك بدعوى أن الشريعة الإسلامية لا تقر ذلك، وأن وجود هذه (الأصنام)- على حد تعبيرهم – يدعو بعض الناس إلى تمجيدها وعبادتها، وكان من ضمن هذه الأصنام تمثال هائل منحوت في الصخر لبوذا يصل طوله إلى 55 متراً، وما إن علم العالم بذلك حتى خرجت عدة تصريحات تستنكر هذه الخطوة التي تدمر تراثاً إنسانياَ هاماً، وبادرت اليونسكو بالتدخل لإيقاف هذه الجريمة، حتى إن بعض الدول الإسلامية استنكرت ذلك، وهذا لم يدفع طالبان إلى تعديل موقفهم، بل أعلنوا بدء تحطيم هذه (الأصنام) باستخدام الديناميت.
في أحد المؤتمرات الخاصة بافتتاح معرض للصناعات الوطنية الإيرانية، لاحظت أن جميع أعضاء الوفد لا يرتدون ربطة العنق رغم أن المناسبة رسمية، قيل لي إن الإيرانيين يحرمون ارتداء ربطة العنق،  لأنهم يرون في ارتدائها تشبهاً بالكفار، دهشت عندما سمعت هذا الرأي،  وتمنيت أن لا يكون صحيحاً، ولكن يبدو أنه صحيح، وقد لاحظت أن كمال خرازي وزير خارجية إيران أيضا لا يرتدي ربطة العنق.
أورد هذه الفتاوى والمواقف لا لكي أقوضها أو أعارضها حاشا لله، ولكن لكي أبرز مدى حاجتنا إلى التدبر ، والتفكر،  والاجتهاد في كثير من الأمور التي تحيط بنا، إن على علماء المسلمين أن يطرحوا هذه الفتاوى للرأي والنقاش، لا أقصد بذلك تقديم فتاوى جديدة تناسب الواقع، وتبرر أخطاءنا، ولكن ما أطلبه هو الاجتهاد،  وإبانة رأي الدين الصحيح في الكثير من الأشياء المتعلقة بالحياة الحديثة، وإبانة حدود الصواب،  وحدود الخطأ، حتى لا نقف في هذا الموقف المتناقض الغريب.
ديننا يرفض شيئاً، ولكننا نقوم به، بينما العالم يتفرج علينا ، ويتهمنا بالتخلف، إننا ننتظر من علمائنا الأجلاء الكثير من الفتاوى خاصة وقد أصبح التلفاز والنترنت والفيس بوك وغيرها ضرورة للعلم والثقافة والتواصل الإنساني مع الثقافات والشعوب، وأصبح التصوير أيضاً ضرورة في الكثير من مجريات الحياة.
قال أحد الغربيين: "بعض الإسلاميين يريدون أن يظهروا الإسلام كدين منغلق على نفسه لا يصلح لكل العصور".
إن الإسلام الجميل هو أكثر الديانات وعياً وحضارة،  ومواكبة لتطورات العصر، هو دائماً يصلح لأي زمان ومكان، يصلح لزمن الناقة والقبيلة، كما أنه يصلح لزمن الكونكورد والأمم المتحدة، إن الإسلام العظيم لم ينتشر بالتقوقع والانعزال، ولكنه انتشر بالغزوات والفتوحات الكبرى، وإذا كانت الدعوة المسلحة قد انتهت فإن الدعوة السليمة مستمرة، ويجب أن تستمر.
 يقول الحديث الشريف من أكثر من ألف وأربعمائة عام: "من عرف لغة قوم أمن شرهم"،  وقال تعالى "إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقد وعى خلفاء المسلمين أهمية معرفة الآخر،  وترجمة آثاره، ويعتبر الخليفة أبو جعفر المنصور أكثر الخلفاء الذين ازدهرت في عصرهم ترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية.
الآخر ليس كله شراً، وفي الوقت نفسه ليس كله خيراً، ولنا أن نأخذ منه ما يتفق مع مبادئنا، ولم يقل لك أحد خذ الصفات القبيحة. في أحد المؤتمرات الاقتصادية التي حضرتها تحدث هيلموت كول المستشار الألماني السابق وقال: "ليس كل ما يأتي من أوروبا صائباً، ويجب أن نتعامل معه بشيء من التشاؤم الثقافي".
معرفة الآخر هي في الوقت ذاته معرفة بنفسك، لأن كل شيء يحدد بالقياس، قياسه بالنسبة لشيء آخر، فأنا أعرف موقعي من معرفة مواقع الآخرين، وفي عصر العولمة تتخذ هذه المعرفة بعداً آخر ، حيث تبرز أهمية تعليم الأجيال الجديدة كيفية محاورة الآخر،  والاستفادة منه بما يتفق مع مبادئنا الثابتة الأصلية.
يقول خير الدين التونسي في كتابة (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك): "الغرض من الوسائل التي أوصلت الممالك الأوربية إلى ما هي عليه من المنفعة والسلطة الدنيوية، أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقاً، ولنصوص شريعتنا مساعداً وموافقاً، عسى أن نسترجع منه ما أخذ من أيدينا، ونخرج باستعماله من ورطات التفريط الموجود فينا".
ويحذر خير الدين هذه الفئة التي تحدثنا عنها والتي تتوجس من الآخر وتدعو للانعزال عنه فيقول:
"أحذر ذوي الغفلات من عوام المسلمين عن تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة غيرهم، الموافقة لشرعنا، بمجرد ما انتقش في عقولهم من أن جميع ما عليه غير المسلم من السير والتراتيب ينبغي أن يهجر، وتآليفهم في ذلك يجب أن تنبذ ولا تكرر، حتى إنهم يشددون الإنكار على من يستحسن شيئاً منها، وهذا على الإطلاق خطأ محض".
ويسخر أمين الريحاني عند المقارنة بين الشرق والغرب، وكيف أن الغرب يملك القوة الفاعلة، بينما نحن لا نملك إلا الفلسفات التي لا طائل منها، يقول:
"الفكر أساس القوة، هذه هي قناعاتي، وحين راعني افتقار بلادي إلى ما عند الغرب من أسباب القوة قلت:
"أن الشرق عندي فلسفات، فمن يبيعني بها طائرات".
إن اعتزال الآخر بدعوى أنه كافر دعوة حق يراد بها باطل، وهي بداية للدعوة إلى الانعزال عن المجتمع نفسه، بدعوى التكفير، كما حدث من بعض الجماعات الدينية المنحرفة مثل جماعة (التكفير والهجرة) التي ظهرت في مصر في عهد السادات، ونادت بتكفير المجتمع،  والانعزال عنه، واغتالت العالم الجليل الشيخ الذهبي.
الانعزال عن المجتمع إجراء لا يؤمن به إلا الجاهل الضعيف، حتى لو كان هذا المجتمع كافراً، لماذا لا أنخرط فيه،  وأضرب لأفراده مثلاً للمسلم المستنير الذي يعي جيداً حق دينه وربه، لماذا لا أدعو هذا المجتمع الضال بالحكمة والموعظة الحسنة.
يجب أن نواكب العصر ، ونتسلح بكل مقوماته، يجب أن نسبق الزمن ، لأننا إذا لم نسبقه سوف تسحقنا العجلات، يقول الشاعر أحمد الصافي النجفي:
يجري الزمانُ فمن لم يجرِ مستبقاً
أمامه سحقتهُ أرجل الزمنِ
في أواخر رئاسته وجه الرئيس كلينتون عبر "النيويورك تايمز" رسالة مفتوحة إلى الشارع العربي هذا نصها:
"سيداتي وسادتي ، غالباً ما كتبت إلى زعمائكم خلال السنوات القليلة الماضية، ولكن مع قرب نهاية رئاستي،  فقد قررت توجيه آخر رسالة لي إليكم، إلى الجماهير العربية التي دفعت ثمنا غالياً للنزاع.
ولأكون في غاية الصراحة معكم.
لقد بذلت قصاري جهدي لإيجاد مخرج عادل وواقعي للنزاع العربي الإسرائيلي لكم وللإسرائيليين،  ولكن إذا كنتم تريدون مواصلة حل النزاع بقوة السلاح ونبذ المقترحات التي تمنحكم 95% مما تريدون، فعندئذ ليس لدي المزيد أستطيع فعله.
ولكن أستطيع أن أقول لكم ما يلي:
إن الأمر الذي يقلقني كثيراً حول الحالة النفسية في الشارع العربي اليوم هو العداوة التي ألمسها تجاه التحديث،  والعولمة،  وثورة الاتصالات والديمقراطية، إن ما ستفعلون مع الإسرائيليين الآن هو شأنكم،  ولكن ما تفعلونه بمجتمعاتكم سيؤثر على استقرارها، وبينما تركز البلدان الأخرى على تنمية وتطوير الصناعات المتقدمة والمتنافسة،  فإنكم مازلتم تركزون على حماية صناعاتكم غير المتنافسة على الإطلاق، وبينما تتاجر البلدان الأخرى بشراسة مع العالم ، فإن نسبة التبادل التجاري ضئيلة بين بعضكم البعض في الدول العربية.
وبينما تحرر البلدان الأخرى صحافتها،  فإنكم مازلتم تراقبون صحافتكم، فبينما يستمد زعماء العالم الآخرون شرعيتهم بدفع عجلة التعليم،  فإن معظم زعمائكم مازالوا يقيمون شرعيتهم بدعم النزاعات الدينية، وبينما تبحث البلدان الأخرى عن مستثمرين أجانب من أجل إيجاد فرص وظيفية لشبابها فإنكم تطردون المستثمرين الأجانب بواسطة بيروقراطيات عدوانية، ومواصلة النزاع الذي يبعد كل الناس عن منطقتكم، وفي العصر الذي تصنع فيه البلدان الأخرى رقائق الكمبيوتر،  فإنكم تصنعون رقائق البطاطس.
وعندما أسأل بعض زعماء العرب عن سبب تقدم كوريا الجنوبية الآن التي كانت تملك نسبة دخل الفرد ذاتها في مثل مصر وسوريا في السبعينات،  فإن الرد الذي أتلقاه هو أن على الدول العربية أن تقود الحروب،  ولكن كوريا الجنوبية قادت الحروب مع كوريا الشمالية على مدى عدة عقود زمنية،  والذريعة التي كنت أسمعها هو أن الدول العربية تعاني من مشكلات تزايد وتكاثر السكان، ولكن الصين تعاني أيضاً إلا أنها تملك نسبة نمو سنوي تبلغ 10%.
ويهتم المثقفون العرب أكثر بحماية مزاياهم،  ومصالحهم بدلاً من أداء مهماتهم الثقافية المناطة بهم،  وتوطيد نقاش أمين ونزيه.
إنني أدرك تماما أن مسألة إسرائيل،  ومن يحكم الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس يمسان روح الشارع العربي،  ويعتبران القضية الأساسية لديه،  ولا أفكر في مطالبتكم بالتخلي عن أماكنكم المقدسة، ولكنني أحثكم على طرح أكثر من سؤال واحد:
إن من يحكم المسجد الأقصى يعد مسألة حاسمة للغاية لكرامة كل عربي وفلسطيني وللعصر الحديث،  ولكن ما نوع التعليم الذي تقدمونه لأبنائكم؟،  ما نوع الاقتصاد الذي تبنونه؟ وما نوع القانون الذي تسنونه؟،  فهذا هو الذي سيحدد كرامتكم ووضعكم في العصر الحديث،  وقد تهتمون بالرد على كل الأسئلة القديمة،  ولكن يجب عليكم الاعتراف بأنها ليست الأسئلة الوحيدة.  يجب أن يكون هناك توازن، إن المجتمع الذي ينسى جذوره لن ينعم بالاستقرار على الإطلاق.
ولكن المجتمع المهتم بجذوره،  ويسأل فقط عن صاحب الجور،  فإنه لن يثمر أبداً، لا يبالي المثقفون العرب أن الأنظمة تحميهم،  بينما يتركونكم تعيشون مع الأسئلة القديمة فقط ونماذج الدور القديم.
وآمل أن أرى في القريب العاجل انتفاضة ليست لفلسطين مستقلة فقط ، بل أيضاً لتعليم عربي،  ولصحافة عربية وحرة،  وديمقراطية عربية.
المخلص : بيل كلينتون"
فهل يمكن أن نتجاهل هذه الرسالة، ونتهم كاتبها بالحقد والضغينة كالعادة تطبيقاً لعقدة المؤامرة المتأصلة فينا، إن هذه الرسالة التي كتبها رئيس سابق لأقوى دولة في العالم يجب أن نضعها في الاعتبار، وأن ننصت إليها ونخضعها للدراسة والبحث، ولا يمكن أن ننكر أن الكثير مما جاء في هذه الرسالة صحيح، يجب أن نستفيد من رأي الآخر ونقده وتجاربه.
ومعرفة الآخر أيضاً خطوة هامة لاتقاء شره،  وكشف أفكاره ومخططاته نحوك، في عام 2002 نشرت صحيفة (الواشنطن بوست) خبرا عن تقرير تلي أمام مجموعة استشارية في وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" أعد هذا التقرير موران مواويك، وأحدث هذه التقرير ضجة عندما تسرب مضمونه.
تطرق التقرير إلى موضوعات عدة خاصة بالعالم العربي، وتحدث بكثير من التجني وسوء الفهم عن العالم العربي، وعن دول عربية بعينها كالسعودية والعراق ومصر، وكشف التقرير عن اقتراحات خطيرة باحتلال السعودية والعراق ومصر، وبعد تفاصيل عدة ينهي التقرير فصوله بالعبارة التالية: "العراق هو المحور التكتيكي، والسعودية هي المحور الاستراتيجي، ومصر هي الجائزة".
وسواء أكانت هذه الآراء حقيقية أم لا فإن دراستها مهمة، وعلى الرغم من أن التقرير حافل بالتجني والكره،  والحقد على العالم العربي والسعودية تحديدا، ورغم بشاعة أهدافه،  إلا أن هناك بعض الآراء التي يمكن الموافقة عليها منها:
1- العالم العربي يعيش أزمة نظامية طوال الـ 200 سنة الأخيرة.
2- فاتته الثورة الصناعية وحاليا تفوته الثورة الرقمية.
3- الأزمات الداخلية التشكل في العالم العربي تكبل قدراته وتشلها.
4- ليس هناك فسحة من الحرية العامة لمنافسة الأفكار والمصالح والسياسات.
5- التآمر والاضطرابات والقتل العمد والانقلابات هي الوسائل الوحيدة المتاحة للتغيير السياسي.
أعرف نفسك، وحتى تعرف نفسك يجب أن تعرف الآخر، لذلك خيارات كثيرة، تعلم اللغات والسفر والتعرف على ثقافات الشعوب،  وتجاربها الناجحة والفاشلة، وتقليد الصفات الحميدة، حتى لا تصبح "عصفوراً في قفص" لا يتجاوز غناؤه الحجرة التي حبس فيها.

إميلين بورج .. القصر الملكي
السماء صافية،  والجو شتائي يرسل البرودة المنعشة التي تساعد الذهن على التجدد، وتساعد الجسد على الانتعاش. الشوارع تبدو من الشرفة خالية، وكأن هناك مباراة كرة قدم تلصق الجميع في منازلهم.
كان هدفي الأول في هذه الرحلة زيارة القصر الملكي، إميلين بورج Amalienborg Place، ومحاولة مقابلة ملكة الدنمارك مارجريت الثانية، أعلم أن ذلك صعب، فمقابلة الشخصية الأولى في البلاد تستلزم ترتيبات معينة ليست من السهولة بمكان، ولا يمكن أن أكون مقيما في الدنمارك لمدة قصيرة، وأطلب عند حضوري مقابلة ملكة البلاد فتلبي .. مستحيل، إن ذلك ربما يكون صعباً على رؤساء الدول، فما بالك بصحفي على باب الله مثلي، ولكني كعادتي أعشق المحاولة.
في الشقة الهادئة التي أقطنها في حي فودوفغا ساعدتني ماريا في إعداد رسالة للملكة، وأخرى لوزير الثقافة أطلب فيهما مقابلتهما للغرض نفسه،  وهو إجراء حديث صحفي لمجلة عربية، وفي اليوم نفسه أرسلت طردين إلى كل منهما يحتويان على نسخ من كتبي، ونسخ من المجلة التي أعمل بها، قلت محاولاً تركيب جملة إنجليزية سليمة If you want to succed try أي "إذا أردت النجاح حاول".
في اليوم التالي سألت عن موقع القصر،  فأخبروني عن وسيلة الانتقال إليه وهي الأتوبيس رقم (9)، ولكني كنت أفضل المشي دائماً على ركوب المواصلات، لأن المشي يساعدك على اكتشاف الأمكنة والشوارع، هذه المتعة سوف تتبدد حتماً إذا ركبت سيارة أجرة أو أتوبيساً.
بعد مشي عدة كيلو مترات وصلت إلى القصر الملكي "إميلين بورج" مقر الملكة مارجريت الثانية ملكة الدنمارك، سيدة في العقد الخامس من العمر تقود هذه البلاد بحكمة وقوة تذكرنا بقوة شجرة الدر، استطاعت أن تحقق الكثير للشعب الدنماركي، وأن تحافظ على خصوصية هذا الشعب، والناس هنا يحبون الملكة، ويرحبون باستمرار الأسرة المالكة.
ترى ماذا يحدث لو تولت المرأة رئاسة الدولة، أعتقد أن الأمر سيكون مختلفاً، لأن المرأة نجحت في إدارة المنزل، ومن ينجح في إدارة اقتصاديات الأسرة ينجح في إدارة اقتصاديات الدولة، لذلك سوف تنجح أيضاً في إدارة الدولة، وإن كان بعضهم يعتقد أن "المرأة" هي الحاكمة الفعلية الآن، حتى ولو كان الحاكم رجلاً.
قرأت في كتاب مترجم عن أحد الأنظمة العربية، أن حاكم هذا البلد يهتم اهتماماً كبيرا بالنساء، ويقدر القوة الكامنة فيهن، لذلك فإنه يجتمع كل يوم اثنين بسيدات وفتيات العائلة المالكة، يستمع إليهن، ويتحاور معهن،  ويستطلع آراءهن، تقول النجمة العالمية باميلا أندرسون: "النساء هن من يحكمن العالم، ويبدو أن الرجال لم يتعرفوا على هذه الحقيقة بعد".
بعد انتهاء الرحلة بأيام سمعت في التلفاز خبراً عن انفجار عربة في أحد شوارع كوبنهاجن، ذكر الخبر أن أي جهة لم تعلن مسؤوليتها عن الحادث .. أزعجني ذلك، ولكن يبدو أن لكل نظام معارضوه ..
أدهشني "إميلين بورج" بمبانيه العريقة، وميادينه الفسيحة التي يتجول فيها التاريخ.. عندما تتجول فيه تتلمس التاريخ، تسمع نبض أنفاسه، في وسط الميدان قاعدة كبرى عليها تمثال بالحجم الطبيعي؛ فارس يمتطي حصانه،  ويرفع يده الممسكة بالسرج. أحد الشوارع التي تتخلل القصر ينتهي بمبنى رائع لكنيسة (        ) الشهيرة والتي تتميز بالنقوش البديعة والفنون المعمارية .. جو يوحي بالأساطير، تذكرت قصة هاملت التي دارت وقائعها على هذه الأرض، لفت نظري أيضاً مشهد الحرس الملكي التقليدي الواقف أمام القصر، والطريقة التي يبدلون فيها نوبات الحراسة، ومشهد تبديل الحرس السياح بتقليديته وطرافته.
القصر عبارة عن عدة مبان تأخذ شكلاً شبه دائري، لتكون في وسطها ميداناً كبيراً، والقصر مطلي من الخارج باللون الرصاصي، أما الأبواب فمطلية باللون الزيتي، هناك جزء من القصر مغطى بقماش أبيض في إشارة إلى أنه تحت التطوير أو التعديل أو الطلاء، للقصر أبواب كثيرة، كل باب يبلغ ارتفاعه حوالي أربعة أمتار، وعرضه حوالي ثلاثة أمتار، على كل باب كشكان خشبيان طويلان للحراسة، لونهما أحمر داكن، ينتهي كل كشك من أعلى بنهاية هرمية، تعلوها سن خشبية مدببة بيضاء اللون، وعلى الجزء الهرمي رسم للشعار الملكي باللون الأبيض.
يقف الحارس عادة أمام ها الكشك، أما في حالة المطر أو الثلوج فيقف داخل الكشك، وعلى كل جانب من جوانب الباب يوجد حامل من الحديد المزخرف ينتهي بصندوق إضاءة يضاء في المساء.
يرتدي الحارس الزي الملكي التقليدي الذي يعتبر جزءاً من تراث المملكة لم يتغير منذ سنوات بعيدة، ويتكون من بنطلون زيتي اللون على جانبيه شريطان أبيضان، وبدلة سوداء في صدرها صفان أماميان من الأزرة فضية اللون، ويرتدي الحارس على صدره حزاماً عريضاً أبيض يحيط بالصدر والظهر، ويعلق أسفل الظهر حافظة سوداء لحفظ الذخيرة، أما الحذاء فهو أسود اللون يشبه "بيادة" الجنود المصريين، بينما يعلق في الخلف سيفاً تقليدياً.
ويحمل الحارس البندقية في يده اليمنى، يقبض عليها باليد من "الدبشك" في حالة المشي، وعند الوقوف يضع مؤخرة البندقية على الأرض، ويمسكها باليد من ناحية الماسورة، ويضع الحارس على رأسه غطاء الرأس العالي التقليدي ذا اللون الأسود والمصنوع من قماش يشبه الفرو، ولا أدري سر علو غطاء الرأس بها الشكل، وإن كنت أتذكر أن لدينا في مصر فلاحون في بعض المناطق مثل "أبيس" قرب الإسكندرية يرتدون الطاقية العالية، والتي لا نعرف السر منها أيضاً، أيضاً يرتدي هذه الطاقية العالية نفسها أتباع الطريقة المولوية في تركيا، وتسمى "السكة" ، وهي عبارة عن طربوش مرتفع مخروطي السطح.
داخل الكشك بالطو معلق، يرتديه الحارس عندما يستدعي الأمر ذلك، وهو عبارة عن رداء أحمر اللون سميك، الجزء العلوي منه والذي يغطي منطقة الكتف أخضر اللون.
في حوالي العاشرة صباحاً من كل يوم يبدأ مشهد تغيير الحرس. فيخرج من أحد الأبواب سبعة حراس جدد، يمشون في خطوة عسكرية صارمة، ويقومون باستعراض بسيط في الميدان ذهاباً وإياباً، ثم يقابلون الحراس السبعة الآخرين، ويقومون باستعراض جماعي في الميدان، ثم يتبادلون الحراسة مع الفريق القديم الذي يغادر مكانه بعد تسليم مهمة الحراسة، ويقوم باستعراض بسيط هو الآخر، وينتهي به الأمر للدخول إلى أحد أبواب القصر، أما الحراس الجدد فيدخلون أيضاً داخل القصر ما عدا حارس واحد عند كل باب يقف للحراسة الخارجية.
وعلى مدار اليوم يخرج قائد الحرس، وهو بالطبع ذو رتبة أعلى كل فترة، ويمر على الحرس بالتوالي، ويلاحظ أنه يمشي المشية العسكرية الصارمة نفسها، وعندما يتكلم مع الحارس يتكلم بلهجة عسكرية عالية، ومن الواضح أن هناك تقاليد في الوقوف والمشي والكلام أيضاً لدى الحرس الملكي.
من التقاليد التي لاحظتها أن الحرس الملكي غير مسموح له بالحديث مع غيره أثناء الحراسة، عندما اقتربت من الحارس، واستأذنته لكي ألتقط له صورة، لم يرد،  وإنما أشار بإيماءة تعني الموافقة، وإذا أردت التقاط صورة لك مع الحارس لا تقترب منه، وبالطبع لا تضع يدك على كتفه، وإلا دفعك بيده الغليظة كما حدث مع أحد السياح، فهذا غير مسموح، فقط يمكنك الوقوف على بعد متر بجواره.
أما  إذا وجدت رئيس الحرس يمر على الحراس، وطلبت التقاط صورة له،  فسيتعذر باللهجة العسكرية العالية نفسها، ويخبرك أن ذلك ليس مسموحاً له الآن.
عشرات السياح يتجمعون كل صباح لمشاهدة هذا المشهد التقليدي لتبديل الحرس، سياح من اليابان وإيطاليا وأمريكا وغيرها، منهم من يستخدم كاميرا فوتوغرافية، ومنهم من يستخدم كاميرا فيديو في تصوير المشهد التقليدي الغريب، استأذنت رجل الشرطة الذي يشرف على تنظيم السياح بعيداً عن المراسم التي تقام أمام القصر، وأخبرته أنني صحفي ولست سائحاً وطلبت منه أن يسمح لي بالدول للتصوير عن قرب، فأشار لي بالاقتراب، والتقطت صوراً مهمة.
رحت  أتجول وأتفقد القصر من الخارج، وألتقط الصور، وتمنيت لو أتمكن من الولوج داخل القصر لاكتشاف ما به، وكأنما استجاب الله لرغبتي، فبينما أنا أتجول وجدت على أحد الأبواب الرئيسية للقصر حاملاً عليه لافته حمراء عليها عبارة (متحف القصر)، تهللت أساريري وسارعت في الدخول.
عندما تدخل ستجد على يمينك سلماً نازلاً يؤدي إلى ما يشبه البدروم، به مكان للبيع أو ما يشبه ذلك، تباع فيه الكتب التي تتحدث عن التاريخ الدنماركي، والملكة والأسرة المالكة، كتب تتحدث عن القصر الملكي ومحتوياته، كذلك بطاقات سياحية ونشرات وأقراص مدمجة، وتذكارات،  كلها عن القصر والعائلة المالكة والأماكن السياحية بالدنمارك.
من هذا المكان يمكنك أن تحصل على تذكرة الدخول وقيمتها 10 كرونات، بعد ذلك ستصعد سلماً يؤدي إلى الجزء المخصص للزوار كمتحف من القصر، حيث خصصت المملكة جزءاً من القصر كمتحف يستطيع السياح زيارته، ليس متحفاً منفصلاً، ولكنه جزء من القصر الملكي نفسه، الديكور والألوان والمحتويات نفسها.
يتكون المتحف من بعض الحجرات، وهي مكتب وسفرة ومعيشة، تربط بينهما طرقات واسعة، تتدلي من الأسقف ثريات كبيرة فاخرة .. هنا زاوية بها بيانو الملكة تعلوه صورة زيتية لها ..وصورة لشوبان، مكتبها وصورها الخاصة وهداياها، رسائلها الشخصية، هنا الأزياء الملكية التقليدية، علب أنيقة، محافظ، طفايات سجائر، بايبات "جمع بايب"، كتب قديمة مرصوصة أفقياً، بطاقات معايدة ملكية عليها رسوم جميلة، رسائل خطية، عدسات مكبرة، فتاحات ظروف، كريستالة، أباجورات، براويز أنيقة، كرة أرضية، كراسي، مدفأة بيضاء، لوحات زيتية لفرسان، قلائد وميداليات عليها صور أفراد من الأسرة المالكة، أواني زهور، سيوف،  وبنادق قديمة الطراز، مراوح يدوية، شطرنج، دومينو،  طاولة وزهر، شمعدانات، ساعات، تماثيل نصفيه وكاملة، لوحات زيتية بمختلف الأحجام للملكة والأمراء والأميرات وأخرى للأسرة المالكة كاملة، صورة للملكة بزيها الرسمي .. فستانها الرمادي وترتدي وشاحها الملكي، صور كثيرة بالأبيض والأسود لأفراد من الأسرة المالكة بأزياء مدنية أحياناً وعسكرية أحياناً أخرى، مكاتب تقليدية فخمة، ستائر ملكية حمراء مطرزة بنقوش بديعة.
 هنا وقعت أخطر القرارات في تاريخ الإمبراطورية الدنماركية، هذه السيوف والبنادق تحكي قصص المعارك القديمة التي دارت على هذه الأرض، تذكرك بصليل السيوف، وطقطقة البنادق، وصيحات الفرسان، وأنات الجرحى، تذكرك بالثورات والفتوحات، المراسم والطقوس، العدل والظلم، المملكة والشعب.
في إحدى ردهات القصر يقابلك تمثال من الرخام لرجل وامرأة عاريان، صور عائلية عدة بمختلف الأحجام تحكي قصة العائلة المالكة، هنا صور خاصة للملكة بملابس المنزل، وهي تمارس هوايتها، وهي هواية الرسم بالقماش الملون، وكأنها تقول بذلك : "أنا من الشعب"، هنا التاريخ يقابلك في كل ركن وكل زاوية.
فكرة رائعة أن تخص المملكة جزءاً من القصر الذي تدار منه البلاد ليكون متاحاً للمواطنين، يدخلونه بسهوله لكي يتعرفوا على تاريخ بلادهم، والملكة التي تحكمهم، ويشاهدون بأنفسهم مكتبها وسفرتها وأشياءها الخاصة، يعرفون عن قرب كيف تعيش، ويتلمسون بأنفسهم كيف أنها أسرة عادية كأي أسرة من الشعب، كان لها موعد مع التاريخ، ويتحطم بذلك الحاجز النفسي الموجود بين الحاكم والمحكوم، بين وهج السلطة والشعب. الأمر نفسه يحدث في أمريكا، حيث يتاح للطلبة والمواطنين زيارة البيت الأبيض مقر الحكم ويتيح لبعض الشباب التدرب فيه.
بعد مغادرتي المملكة بأيام وصلتني بالبريد رسالتان الأولى من السير هاسلندر كريستنس كبير اللوردات بالقصر الملكي، والثانية من السيدة اليزابيث جيرنر نيلسن وزير الثقافة الدنماركي تقول الرسالة الأولى :
AMALIENBORG PALACE, September 19.2000
H.A.Nr. 1280/001021
Mr. Al Amir Kmal Farag
Managing Editor
Her Majesty the Queen has requested me thank you for jind let-ter, dated September 6,2000 and the copies of your magazines and books which the Queen washappy receive.
Unfortunately I have to inform you that because if many engagements the Queen will not be able to receive you for an interview this year.
Yours sincerely
S. Haslund Chamberlain
Lord Chamberlain
وترجمتها هي :
قصر إميلين بورج – 19 سبتمبر 2000
صادر رقم 1021/00/1280
السيد / الأمير كمال فرج
طلبت مني جلالة الملكة توجيه شكرها لكم على خطابكم الرقيق المؤرخ في 6 سبتمبر 2000 ، والمرفق معه نسخة من مجلاتك وكتبك، وقد سعدت جلالتها بها كثيراً.
ويؤسفني أن أخبركم بأن جلالتها لن تتمكن من استقبالكم خلال هذا العام لإجراء مقابلة صحفية نظراً لوجود كثير من الارتباطات العديدة السابقة.
المخلص
السير هاسلندر كريستنس
وتقول الرسالة الثانية :
MINISTER FR CULTURE
2NYBROGAD P.O.BOX 2140
DK- 1015 COPENHAGEN K
2 OKT. 2000
Mr. Al Amir Kmal Farag
Managing Editor
Dear Al Amir Kmal Farag
Thank you for your letter and the books of 7 September 2000. I regret that I will not have time enough in my calendar for interview.
I enclose two publications abut the Danish culture, which you may be will find interesting.
Please do not hesitate to write me a letter the next time you are in Denmark.
Your sincerely
Elsebeth Gerner Nielsen
وترجمتها :
وزارة الثقافة
2 نيبروجاد ص ب 2140
الدنمارك 1015 كوبنهاجن
2 أكتوبر 2002
عزيزي الأمير كمال فرج
أشكرك على رسالتك والكتب التي أرسلتها في 7 سبتمبر، يؤسفني جداً بأنني لم أجد وقتاً كافياً في جدول أعمالي للحوار الصحفي.
مرفق لسعادتكم نشرتين عن الثقافة الدنماركية التي ربما تجد فيها متعة.
الرجاء عدم التردد في الكتابة إليّ في وقت آخر عندما تكون في الدنمارك.
المخلصة
اليزابيث جيرنر نلس
ترى لو أرسل أحدنا لرئيس أو وزير يطلب فيه مقابلته .. ماذا يحدث ..؟

الكتب كانت هناك
المكتبات في الدنمارك ليست كثيرة، ففي خضم العناوين الكبيرة المرسومة بالنيون تلمح بصعوبة على البعد مكتبة تقاوم الصخب، توقفت عند إحدى المكتبات واسمها Samleren صاحبها العجوز اندهش عندما استأذنته في تصوير أرفف الكتب، ولكن دهشته زالت عندما علم أنني صحفي من الميدل إيست، والكتب في الدنمارك أسعارها مقاربة لأسعار الكتب في مصر والدول العربية، وفي المكتبات ترى كتباً من كل شكل ولون، هنا كتب في السياسة والأدب والموسوعات والمراجع، هنا أيضاً كتب ومجلات الجنس تباع لمن هو أكبر من 16 سنة تقوم بإنتاجها شركات متخصصة، ولها معدون ومنتجون وممثلون والمقومات الفنية كافة من ديكور وإضاءة .. تجارة وبيزنس هام جداً ، ومربح جداً ، ومدمر جداً، بعض الباعة يعرض كتبه على شكل مجموعات مخفضة، ورغم عدم معرفتي بـ "الدانش" أو اللغة الدنماركية اشتريت مجموعة من الروايات الأنيقة بـ 25 كرونا لعلني أستطيع قراءتها ذات يوم.
والشعب هنا يحب القراءة،  وهي صفة قد تكون عامة في الغرب، ولعل الدليل على ذلك أن الكتب توزع لديهم الملايين من النسخ،  ويصبح الكتاب أثرياء في لحظة، بينما توزع الكتب لدينا العشرات، ويعاني الكاتب عندنا من الفقر والعوز، ولعل من الأدلة أيضاً على تقديرهم للقراءة أن هناك أكثر من تمثال شاهدته يمثل شخصاً يقرأ، أو  لرجل في يده كتاب.

العالم متحف
المتاحف هي ذاكرة التاريخ، وقفة ضد تيار النسيان الذي يجرف كل شيء، الأحلام والأحداث والذكريات، والمتاحف في الدنمارك كثيرة ومتنوعة، ومن المتاحف الهامة التي زرتها متحف يقع بجوار مبنى الحكومة الدنماركية، ويتكون من قاعات كبيرة ملأى بالتماثيل العملاقة،  والتي تمثل معظمها العصر اليوناني. فرسان على أحصنتهم، وشخصيات تاريخية،  وحيوانات،  ووجوه تجسدها كلها تماثيل عملاقة بالحجم الطبيعي، وتفوق هذا الحجم أحياناً.
فهذا تمثال أبيض لفينوس ربة الجمال عند الإغريق،  وتمثله فتاة جميلة الجسم عارية، تتأمل في يدها اليمنى تفاحة، بينما تمسك في يدها اليسرى رداءها، وهذه قاعة كبيرة يقف في صدارتها تمثال يجسد المسيح عليه السلام،  وهو يفتح ذراعيه، وعن يمينه ويساره وقف صفان من التماثيل لأشخاص يجسدون حوارييه، وفي نهاية القاعة في المنتصف تمثال لفتاة بجناحين مرتكزة على ركبتيها، وتحمل بيديها وعاءً كبيراً.
وهذا تمثال آخر للمسيح يحمل في يده اليسرى عصا نهايتها على شكل صليب، ويرفع يده الأخر مخاطباً قومه، وهذا تمثال لأسد قابع على الأرض، وتمثال آخر لرجل ينحني وفي يده اليمنى ما يشبه الدلة، وفي يده اليسرى وعاء يسقي منه طائراً كبيراً، وهذا تمثال لفارس قوي تقف تحت ذراعه فتاة صغيرة.
عشرات التماثيل، وعشرات القاعات،  كلها تبرهن على عظمة فناني هذه العصور القديمة، وقدرتهم وبراعتهم في فن النحت، هذه القدرة التي ربما تضاهي – بصراحة- أجدادنا الأعزاء المصريين القدماء، ولكن الاختلاف الرئيسي بين آثارنا أن معظم تماثيلهم تجسد أشخاصاً عارية .. رجالاً ونساءً، بينما لا تجد ها الاتجاه في الآثار المصرية القديمة، أو ربما كان موجوداً ، واندثر بفعل التقاليد.
وفي هذا المتحف أيضاً قاعات كبيرة، حوائطها وأسقفها ملأى بالرسوم الجميلة الملونة، بعضها يمثل المسيح والسيدة مريم عليهما السلام، كما تمثل صور كثيرة رحلتهما وقصتهما، وقصة المسيحية ونشأتها.
ومن المعالم الشهيرة في الدنمارك مدينة الألعاب الشهيرة Legoland  ، وهي عبارة عن مدينة كاملة للألعاب والمجسمات الجمالية،  مشيدة بالكامل باستخدام مكعبات ليجو، وشركة ليجو هي ماركة الألعاب ذات الشهرة الكبيرة في العالم .. أسسها كيرك كريستيانس الذي بدأ نجاراً في أحد المصانع في الدنمارك عام 1916، وكان كيرك يتميز بحب الابتكار والتميز .. وسرعان ما طور أفكاره،  واخترع ألعاباَ مصنوعة من الخشب، وسرعان ما نجحت هذه الألعاب، وأقبل عليها الجمهور، مما دفعه إلى تطوير أفكاره ونماذجه، ثم كون بعد ذلك شركته الخاصة لإنتاج الألعاب،  وتم تسمية الشركة باسم "ليجو" Lego ، وهي كلمة مشتقة من كلمتين دنماركيتين هما Godt, Leg ، ومعناهما "العب جيداً"، وهكذا بدأت شركة "ليجو" أولى خطواتها، وانطلقت بعد ذلك لتصبح في سنوات قليلة أهم وأشهر شركات إنتاج وبيع لعب الأطفال في العالم، تنتشر منتجاتها في معظم دول العالم، وتتميز ألعابها بمساعدة الطفل على الابتكار والتخيل والتركيز من خلال العمل على تكوين شكل معين باستخدام المكعبات البلاستيكية الصغيرة.
وشيدت الشركة مدينة الألعاب Legoland في بيلوند في الدنمارك عام 1968، وبلغ عدد القطع المستعملة في بنائها 42 مليون قطعة، ويرتادها اليوم عدد كبير من السياح من جميع أنحاء العالم.
وقد حضرت مؤتمرا صحفيا لهذه الشركة في مدينة جدة، حيث تولت الشركة برعاية إحدى الشركات ، وهي شركة باسمح التجارية إنشاء أكبر علم سعودي في جدة باستخدام مكعبات ليجو.

حزام العفة
حتى الجنس أقاموا له متحفاً يزوره السياح من كل أنحاء العالم اسمه Museum  Erotica.. يتكون المتحف من ثلاثة أدوار، وعدة قاعات تضم بين جنباتها كل ما يتعلق بالجنس من أدوات وصور وأفلام .. ، والسياح يتجولون، ويشاهدون كل هذه الأشياء الفاضحة بلا خجل أو حياء، والفتيات يتجولن ويتفرجن بجدية كأنهن يتفرجن على فترينات المحلات.
ولأن الغاية تبرر الوسيلة، ورغبة الصحفي في المعرفة أقوى من أي شيء، وناقل الكفر ليس بكافر كما يقولون، دخلت هذا المتحف المثير، وشاهدت به الكثير من المفاجآت.
في مدخل المتحف تُفاجأ بتمثال فاضح يمثل العضو الذكري مطلياً باللون الذهبي، وعندما تدخل ترى قاعات فسيحة على جدرانها صور كثيرة عارية لشخصيات تاريخية قديمة وحديثة، وصور عارية لنجمات من الفن العالمي، ورسوم وتماثيل ومجلات فاضحة مثل مجلة "البلاي بوي"، وتماثيل تجسد موضوعات متعلقة بالجنس، على سبيل المثال تمثال لامرأة ترتدي ملابس غريبة تمسك في يدها سوطاً، وفي الأرض تمثال لرجل مقيد بالأغلال .. هذا ربما يمثل السادية في الجنس، وهذا تمثال من الحديد لرجل يمارس الجنس مع امرأة،  وهذا قسم خاص بنجمة الإغراء الشهيرة مارلين مونرو  يضم عدداً كبيراً من صورها الفاضحة .. صور فوتوغرافية، وأخرى مرسومة، وأفيشات لأفلامها، وفي فاترينة خاصة علقوا فستانها الأبيض الشهير عاري الكتفين، والذي ظهرت به في أحد الأفلام، ويضم صوراً لعشاقها، وقصة غرامها مع الرئيس الأمريكي جون كينيدي، والتي انتهت بانتحارها أو قتلها كما يعتقد البعض.
كل جزء في المتحف مزود بجهاز تليفزيون وفيديو يعرض على مدار اليوم شرحاً مصوراً لمحتوياته، كما توجد بطاقات على الصور والفترينات توضح الشيء المعروض وقصته. تأملت سقف الحجرة فوجدت كاميرات مراقبة في كل مكان.
ولأن الشيء بالشيء يذكر يضم المتحف وسائل منع الحمل، وتطورها عبر التاريخ، وفي إحدى قاعات المتحف فاترينة خاصة عرضوا بها نماذج حقيقية من أحزمة العفة التي كان العرب يستخدمونها قديماً في عصور الجهالة حتى لا تزني النساء، والحزام مصنوع من الجلد أو الحديد، به فتحتان لقضاء الحاجة فقط، وترتديه المرأة، ويغلقه الرجل على وسطها بقفل خاص، ويغيب الرجل عن المرأة مع قوافل التجارة شهوراً، وبسبب هذا الحزام لا تستطيع المرأة ممارسة الجنس مع غيره، ويسافر الرجل معتقداً بذلك أن امرأته لن تزني أثناء غيابه.
المؤسف حقاً أنهم وضعوا عدداً من هذه الأحزمة في واجهة زجاجية، ووضعوا لوحة في الخلفية تمثل الأهرامات الثلاثة، وفي يسار اللوحة رسم لقافلة، وإعرابي يحمل بندقية، يتصدر اللوحة رسم لشخص أغبر الوجه بلحية سوداء كبيرة يحمل في يده اليمنى رمحاً، وفي اليسرى سيفاً، وفي الجانب الآخر من اللوحة صندوق كنز، مما يوحي أن العرب عامةً والمصريين خاصة متخلفون، وأننا من ابتكر هذه الحزمة الغبية التي تنطق بالجهل والغباء، وترسخ "عقدة" الجنس في هذه الأمة.
تأملت حزام العفة جيداً ، وتصورت كيف ترتديه المرأة، ورددت قول الشاعر:
يا أمةً ضحكت من جهلها الأممُ.
ألم يكن أجدر بهذا العربي الداهية الذي ابتكر هذا الاختراع الغبي أن يخترع شيئاً مفيداً لقبيلته، إنها عقدة الجنس الغبية المتأصلة في العقلية العربية، هذه العقدة الناتجة عن الجهل بالمفهوم الحقيقي للشرف.
هناك طريقة أغبى كان العرب يلجأون إليها في الجاهلية لمعرفة هل زنت زوجاتهم أثناء غيابهم أم لا؟، كان الجاهلي يعقد حبلاً ، ويعلقه في غصن شجرة، ويتركه ويسافر مطمئن البال في تجارته لشهور، وعندما يعود يركض إلى الشجرة ذاتها وينظر إلى الحبل، فإن كان على حاله فزوجته لم تزنِ، وإن وجده محلولاً يرفع سيفه ويركض نحو امرأته زاعقاً "زنت ورب الكعبة"! كما صور فيلم قديم، وكان بعض الخبثاء يوقعون بين الرجل وزوجته بفك هذا الحبل خلسة.
متى يدرك الناس المفهوم الحقيق للشرف الذي يتجاوز هذا المعنى الجسدي القاصر إلى معنى أشمل وأعم. متى يدركون أن العفة الحقيقية ليست فقط عفة الجسد، وإنما عفة الضمير، من الذي يضمن لك أن طفلتك الجميلة التي تلعب أمامك من صلبك أو من صلب البواب، إنها الضمائر والأخلاق.
إذا دققنا جيداً سنجد أن "حزام العفة" لم يزل موجوداً في حياتنا المعاصرة، ولكن تعددت أشكاله .. حزام العفة لم يزل موجوداً في أدمغتنا، ورسخ لنا ذلك المعنى الشكلي للشرف.
حزام العفة لم يزل موجوداً في ظاهرة الأسوار العالية التي يبنيها بعض الناس حول بيوتهم، فتصبح كأنها قلعة حديدية لا يرى أحد من بداخلها، موجوداً في ظاهرة الختان التي تعاني منها معظم الفتيات في العالم العربي بدعوى تحجيم الشهوة عند الفتاة، وهي في الحقيقة اعتداء وبتر لجزء مهم من جسد المرأة،  ومركز لسعادتها الجنسية التي حللها الله .. ربما لم يصدق أحد عندما يعلم أن زوجاً يحرص على إغلاق باب منزله على زوجته بالمفتاح عندما يذهب إلى العمل، خوفا عليها من ماذا لست أدري؟.
حزام العفة موجود في العالم العربي الغارق في الجهل والتخلف، واعتقد أنه إذا قام أحد المستثمرين الآن بإنشاء مصنع لهذه الأحزمة سيحقق الملايين، خاصةً إذا توسع في العمل و"شغل مخه"، وابتكر أحزمة يمكن للكلاب والأبقار والخيول أيضا ارتداءها!.
تأملت مرة أخرى حزام العفة، ودعوت في سري أن يحفظ الإسلام الذي رفع المرأة من هذا الدرك القذر المهين.
المضحك أننا ونحن وصلنا إلى القرن الحادي والعشرين هناك من يستخدم هذا الحزام فعلاً، ففي بلجيكا عام 2001 رفعت إحدى الزوجات دعوى قضائية ضد زوجها والسبب أنه يجبرها على ارتداء "حزام عفة"، كلما خرجت لتقوم بعملها كخادمة عند إحدى الأسر، يغلق الحزام الحديدي عليها ، ويحتفظ بمفتاح القفل الحديدي معه .. ، روت الزوجة للشرطة كيف أن هذا الحزام الحديدي يمنعها من دخول دورة المياه، فقامت الشرطة بمداهمة المنزل، وصادرت السلاسل الحديدية والأقفال، وأوقفت الزوج.
وفي متحف (الجنس) العالمي حزنت وتألمت عندما وجدتهم يقدمون ضمن ما يقدمونه من ألوان الخلاعة في قاعة سينما تقدم على مدار الساعة كل ما تفتق عنه الذهن من أفلام فاضحة،  فيلما إباحياً بدوياً والخلفية أغنية لفيروز، وفي إطار بحثهم عن الجديد والمثير يقدمون أيضاً في هذا العرض السينمائي اللعين فيلما فرعونياً تظهر فيه فتاة سمراء البشرة تجلس على كرسي يحمل رسوماً فرعونية، وتعرض جسدها للمشاهدين، في نهاية الفيلم قرأت على الشاشة عبارة تشبه كلمة Egyptian  فقلت في سري .. "يا أولاد الكلب".
متحف غريب مقزز يثبت كيف صار الإنسان هنا عبداً للجنس، لو كان هذا متحفاً علمياً توثيقياً غرضه البحث والعلم لما اعترضنا على ذلك، ولكن أن يجمع أصحاب هذا المتحف كل ما يتعلق بالجنس في مكان واحد بهدف الإثارة،  وتحقيق الربح فهذا عمل غير أخلاقي يثبت الخلل الرهيب في هذا المجتمع، ويثبت أيضاُ إفلاس المجتمع روحياً وأخلاقياً.
إن مثل هذا المتحف لا يفيد الإنسان،  ولا يساعده على الإنتشاء واللذة؛ ولكنه يدمر لديه الإحساس بالجنس، فمتعة الجنس الحقيقية في العفة، كما أنه يدمر الكثير من القيم الأخلاقية فيه.  
ولكن ماذا يفعل الإباحيون بعد ذلك، لقد كشفوا كل شيء وهتكوا كل ستر، واخترعوا كل ما تتصوره ولا تتصوره لتضخيم مساحة الإثارة، سكبوا الكوب على الأرض،  ولم يجدوا بعد ذلك إلا العطش، لقد افقدوا الجنس براءته وعفته وخصوصيته والمودة والرحمة الكامنة فيه، فصار الإنسان كالحيوان بل أحط منه .. اخترعوا الشذوذ مع البشر والحيوان، بل مع طوب الأرض، واخترعوا أدوات وأجهزة وأفلاماً وصوراً، وأصبح الجنس تجارة عالمية تدر المليارات سنوياً، فماذا بعد ذلك؟
لم يتبق إلا أن يخترعوا للمرأة عضوا جنسياً ثانيا في قفاها لكي يكون هناك الجديد الذي يروي شبقهم للخلاعة والشذوذ والمجون، ويجددون بذلك بضاعتهم الرخيصة.
لقد حطم هؤلاء الفسقة كل الحدود،  ولم يراعوا القوانين ولا المبادئ وفي طريق هوسهم بالجنس أباحوا كل شيء، أباحوا الجنس مع الأطفال، وأنشأوا لذلك الجمعيات والاتحادات. في لوس أنجلوس توجد جمعية رين جيون التي ترفع شعار (الجنس قبل الثامنة وإلا فات الأوان) Sex by eight or too late، وفي أمريكا توجد (جمعية الشواذ من الرجال والصبية) The North American Man/Boy love Association.
حتى ممارسة الجنس مع المحارم أباحوه ودافعوا عنه، وفي دراسة للدكتور محمد البار عن (الإباحية في المجتمع الغربي) استعرض ظاهرة نكاح المحارم المنتشرة في أمريكا، واستشهد بآراء علماء وكتاب غربيين.
يقول الأنثربولوجي يهودي كوهين "إن منع نكاح المحرمات ليس إلا من مخلفات الإنسان البدائي الذي احتاج لإجراء معاهدات واتفاقات تجارية خارج نطاق الأسرة، فقام عند ذلك بمنع نكاح المحارم، وبما أن ذلك لم يعد له أي أهمية فإن هذا المنع يصبح أمراً عفا عليه الزمن".
وتأخذ قضية نكاح المحارم بعدا خاصاً في الغرب، وتحظى على ولع بعضهم، وأجد تفسيراً لذلك. أتذكر الشيخ أحمد ديدات في نقده للإنجيل الحالي في معرض تدليله على تحريف الإنجيل، وكيف كان يتعجب عندما لاحظ أكثر من عشر حالات لزنا المحارم في الإنجيل، وتعجب قائلاً: "عشر حالات لزنا المحارم في كتاب ديني؟"!.
في عام 1994 أصدر البرلمان الأوربي قرارا يبيح الزواج بين الجنسين، مع تمتعهم بالحقوق الواجبة كافة في هذا المجال،  فضلاً عن السماح لهم بتبني أطفال يكونون نواة لأسرة!، ولكن البابا يوحنا بولس الثاني أصدر قرارا يقضي بتحريم زواج الشاذين جنسياً، جاء في خطاب وجهه للمصلين، وأوضح فيه أن الكنيسة لا تستطيع تقنين القواعد الأخلاقية من أجل هذه الفئة، ولكن البابا رغم رفضه هذا السلوك أبدى "تعاطفاً" مع هؤلاء الشاذين جنسياً، وهاجمت جمعية الشواذ الإيطالية – التي تتخذ من مدينة بولونيا الإيطالية مقرا لها – قرار تحريم البابا، ووصفته بأنه قرار عنصري.
وتبنى البرلمان الهولندي مؤخراً بأغلبية كبيرة قانوناً يجيز زواج مثليي الجنس، وتبني الأطفال من قبل أبوين من الجنس نفسه، وبذلك يكون لهم الحق في عقد زواج رسمي، والاستفادة من الحقوق نفسها التي يتمتع بها أي زوجين من جنسين مختلفين.
وأقر النواب القرار بأغلبية 107 أصوات،  مقابل 33 صوتاً معارضاَ ، ويستطيع بموجبه الأبوان من جنس واحد تبني طفل هولندي الجنسية وفق القانون الذي حظي على تأييد 62% من الهولنديين وفق استطلاع أجراه معهد (نيبو).
وفي ألمانيا أيضاً أصدر القضاء عام 2001 قانوناً يبيح وينظم هذه العلاقات الشاذة، بحيث تقوم الهيئات المدنية لديهم بإتمام مثل هذا "الزواج الشاذ"، ويتمتع كل طرف فيه بجميع الحقوق التي يتمتع بها الأزواج الطبيعيون.
انظروا تخاريف الغرب إلى أي مدى وصلت. أنظروا إلى الاستخفاف بكل القيم الآدمية، وتوقعوا معي قريباً جداً بعد أن يستنفدوا هذا الشطط الجديد أن تجيز برلماناتهم زواج الإنسان بالحيوان، نعم كأن يتزوج رجل من قردة طيبة،  أو جاموسة عشر، وتعاشر المرأة حمارا ظريفا، أو دباً خفيف الدم كما روى أحد كتب التراث، وانتظروا معي المزيد من تخاريف الغرب المتخبط في ثنائية الرفاهية والضياع.
ولكن لن ارتدي مسموح الحكمة ، وأدعي أننا فقط أهل العفة، فالعرب أيضاً للأسف الشديد سقطوا في الفخ نفسه، فخ الجنس اللعين، وإن كانوا لم يصلوا إلى ما وصل إليه الغرب، فهاهي كتب التراث تحفل بألوان من المجون والشذوذ، وها هو تاريخنا بمختلف عصوره حافل بقصص الجنس الرخيصة، وها هي شبكات الدعارة تنخر كالسوس في جسد المجتمعات، ولا تفلح في تقويضها حملات الشرطة.
وإلى عهود قريبة كان البغاء في مصر مباحاً، وله بيوت معروفة، عليها علامات معينة، وكانت كل غانية تحمل شهادة صحية تثبت خلوها من الأمراض، تجدد من الحكومة دورياً ..
روى لي صديق عن والده كبير السن أنه عندما اقترب موعد زفاف الملكة فريدة للملك فاروق أقيمت الأفراح والليالي الملاح في قصر عابدين، وفي القصور الملكية، وتوافد الرجال من جميع أقاليم القطر المصري للمشاركة في الحفلات الشعبية، وتقديم التهنئة، وعندما تأخر الاحتفال عدة أيام، أشفق القصر على هؤلاء الرجال البعيدين عن بيوتهم، النائمين في العراء ففتحوا لهم بيوت الدعارة.
كانت الغانية تستلقي على ظهرها، وأمامها طابور من الرجال، ينحني الرجل عليها، وفي دقائق يفرغ منها، وينصرف ليقبل من بعده، وهكذا ..، وإذا تجاوز الرجل وحاول تقبيل الغانية، تصفعه بالقلم على وجهه صفعة مدوية، وهكذا دواليك، من حين لآخر كانت الغانية تبرز عجيزتها، وتأخذ حفنة ماء من السطل الموجود بجوارها لتغسل شيئها، ثم تعود لممارسة عملها ..!
وإذا كانت مصر قد تخلصت من كل ذلك – والحمد لله- فإن المشكلة مازالت قائمة الآن، فها هي الأطباق اللاقطة تلتقط لنا على مدار الساعة القنوات الإباحية بمجرد ضغطة على زر.
نحن وهم إذن في الهم واحد، ولكن ربما يكون الفرق بيننا وبينهم أنهم يمارسون كل شيء في العلن، ونحن نمارس كل شيء في الخفاء، ندعي الشرف، ونتشدق بالعبارات، وهم صادقون مع أنفسهم في الانحراف، ونحن كاذبون في نفس الانحراف.

ابتسم من فضلك
المرأة الدنماركية رقيقة الحس، جميلة الوجه، هادئة الطلة، تشبه تماماً حبة الكرز عندما تضعها في فمك، وهذا ما دفع منظمي إحدى مسابقات الجمال الفريدة إلى اختيارها ملكة لجمال الأرض، حدث هذا عام 2001 عندما أقامت الفلبين مسابقة لترويج السياحة، وتم اختيار الدنماركية كاترينا سفينسون ملكة جمال الأرض، وفازت الأرجنتيتية دانيلا شوكان كملكة لنيران الأرض، وفازت البرازيلية سيمون ريجيس ملكة لهواء الأرض، وفازت الكازاخستانية مارجريتا كرافيستوفا بلقب ملكة جمال مياه الأرض.
والدنماركية تحرص على رشاقتها حتى الموت، والسبب موضة قد تهدد جمال المرأة الدنماركية،  وهي موضة النحافة، حيث تحرص الكثيرات على إنقاص أوزانهن حتى يحصلن على جسد رشيق كأجساد العارضات، وقد دعا ذلك وزير الصحة الدنماركي "كارستن كوش" لانتقاد موضة النساء النحيلات التي تروجها الإعلانات، لأنها تتسبب أحياناً في موت شابات كثيرات.
ودعى "كوش" الرجال للاحتجاج على نموذج المرأة النحيلة، خاصة بعد ظهور أبحاث تؤكد أن واحدة من أصل عشر مريضات مصابات بمرض فقدان الشهية (أنوركسيا) تموت،  لأنها تريد التشبه بعارضات الأزياء.
ورغم عوامل الرفاهية الموجودة في كل مكان، لم أشعر برفاهية المرأة، فالمرأة هنا ليست امرأة مدللة تتسلى طوال النهار في اضطهاد الخادمة كالعربيات، ولكنها امرأة عاملة، تجدها في البنوك والمحلات، ومطاعم الوجبات الجاهزة،  والمكاتب الحكومية،  وخطوط السكك الحديدية، ومكاتب البريد، تجدها شرطية في الميادين، وفي مكاتب الطيران، وفي المطارات، والبارات، وغيرها، تعمل بجد ودأب، تريد أن تنجح وتثبت وجودها وتتكسب، يخيل لك من وجودها اللافت في كل مكان أن النساء أكثر من الرجال بعدة أضعاف.
تبادرك المرأة بابتسامة لا يبتسم فيها الوجه فقط، ولكن تبتسم الروح أيضاً، فتشعر أن هذه الابتسامة لك وحدك، تعمل أحياناً وتدرس أحياناً، وتجمع بين الأثنين في بعض الأحيان، وتحلم بحياة أفضل في مناخ عام يقدر العمل و(يطبطب) على الناجحين.
وبالطبع هي تختلف تماماً عن المرأة الشرقية، فهي ترى أنها يجب أن تكون متساوية مع الرجل في كل شيء، لا قوامة للرجل ولا امتيازات، هو يعمل وهي تعمل، هو يشاركها في أعمال المنزل والجلوس مع الأطفال، ولابد أن الرجال هنا يحسدوننا على "نظام" سي السيد الذي جعل من الرجل أشبه بإله صغير في بيته- استغفر الله-، يشخط ويزعق، بينما المرأة العربية في زاوية المنزل مثل "أمينة" في ثلاثية نجيب محفوظ ترتعد أوصالها وتتمتم "أستر يا رب"
 والفتاة الدنماركية تحب الانطلاق والحرية، تراها في القطارات والميادين، تدخن السجائر، وتمزح مع الصديقات، وتضحك من القلب .. تحب السفر والرياضة، ترتدي الملابس العملية البسيطة، وتحلم بالمستقبل.
ونظراً لأن لكل مجتمع مشكلاته، ما مشكلات المجتمع الدنماركي؟
بدأت عيادة دنماركية متخصصة في علاج مدمني القمار والإنترنت في توسيع نشاطها ليشمل الثرثرة من خلال رسائل الهاتف المحمول، وكشفت صحيفة "يلانس بوستن" اليومية أن أحد مرضى العيادة كان سائقاً عمره 25 عاماً اعتاد أن يقود السيارة ليلاً وهو يقضي ساعات عدة يومياً في الثرثرة الإلكترونية.
وصرح مايكل يورسيل رئيس مركز علاج الإنترنت التابعة له العيادة أنه يتوقع أن يسعى المزيد من مدمني الثرثرة عبر رسائل التليفون المحمول إلى طلب المساعدة، وقد استقبل المركز حتى الآن 60 شخصاً لعلاجهم منذ بداية نشاطه عام 1998.
وفي المجتمع الكثير من النساء الناجحات المميزات على جميع الأصعدة، مما يؤكد أن المرأة ليست كماً مهملاً ، أو كائناً موجوداً حسب قانون الطبيعة، ولكنها شريك قوي، بل رئيسي في الحياة العملية.
وعلى الرغم من بعد الدنمارك عن الأحداث العالمية، خرجت المرأة خارج الحدود، وتفاعلت بالقضايا العالمية، ولعل من النماذج المشرفة لذلك آني غسان كنفاني أرملة الكاتب والصحفي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني الذي اغتيل في بيروت على أيدي العملاء الإسرائيليين، وآني دنماركية تزوجت غسان كنفاني منذ حوالي ثلاثين سنة، وهي الآن في العقد السادس من عمرها، وتدير في لبنان مؤسسة ثقافية خيرية تحمل اسم "غسان كنفاني"، وتزور المخيمات الفلسطينية،  وتساعد المهجرين والفقراء، وتعمل المؤسسة على دعم المجتمع الفلسطيني المهاجر.
الابتسامة تطالعك في كل مكان، تطالعني السيدة "تورا" العاملة بمحل التصوير الذي أطبع فيه الصور بابتسامتها الجميلة، وإنجليزيتها المشذبة، وهي تبدي إعجابها بالصور، والسيدة "تورا" سيدة جميلة مائلة إلى السمنة، خفيفة الظل، تتحدث بسرعة،  وتتبع كل كلمة من كلماتها بكلمة "يه" YH، أي أن عبارة "يَهْ" هذه لازمة لها، إذا طلبت منها شيئاً أومأت برأسها بخفة،  وقالت "يَهْ"، في أحد المرات قلت لها مداعباً (YH) I love فضحكت من القلب.
لاحظت أن الشعب الدنماركي يحب السياح،  ويحرص على تقديم صورة جميلة لهم، فما إن يلاحظ محدثك أنك تتحدث الإنجليزية، ويعلم بذلك أنك سائح حتى يبادر بالاهتمام بك، وتقديم كل التسهيلات، أحد المصريين المقيمين بالدنمارك قال لي إنه رغم إجادته للغة الدنماركية يتحدث بالإنجليزية حتى يحظى على هذه الميزة.
والجميل أن معظم الناس هنا يتحدثون الإنجليزية أيضاً،  إضافة إلى تحدثهم باللغة الدنماركية، ويبدو أن الإنجليزية هي اللغة الثانية لديهم، الشباب، الشابات، المسنون، معظمهم يتحدثون بالإنجليزية، ونادراً ما تجد شخصاً دنماركيا (يبلِّم) عندما تحدثه بالإنجليزية، وهذا ما يؤكد انفتاح الدنماركيين على اللغات، وتواصلهم مع العالم.
طلبت مني ماريا أثناء حديثي عدم التوقف،  وسؤال محدثي بعبارة "هل تفهمني"، والسبب في رأيها أنني أتحدث الإنجليزية بشكل جيد، وأكدت لي أنها وجدت خطأ في أي تعبير لي سوف تصححه على الفور.
لعبت ماريا دوراً كبيراً في تطوير المحادثة عندي، وذلك من خلال الحوارات الطويلة بيننا،  والتي كانت فيها تقوم بدور المعلمة الطيبة، حيث كانت تستوقفني عندما تجد كلمة غير مناسبة، وتقوم بتصحيحها، ولا يقتصر الأمر على ذلك، ولكن كانت تذكر لي الكلمات الشبيهة بها، مثلاً هذه الكلمات الثلاث المتقاربة في النطق Mayor عمدة، Liar كاذب Lawyer محامي.
وهذه يؤكد أن المحادثة والممارسة اللغوية الفعلية مع أصحاب اللغة هي أسرع وأفضل طرق تعلم اللغة، تذكرت أحد الأصدقاء عندما وجدني أتحدث الإنجليزية مع أحد الأجانب، حيث قال لي مداعباً "لقد تعلمت الإنجليزية بالذراع".
والدنماركيون شعب يقدر الجمال، ويمكنك أن تكتشف ذلك بسهولة، الورود في كل مكان، في البيوت والشرفات والشوارع والميادين، الحدائق جزء أساسي من تكوين المنزل، الشرفات ممتلئة بأواني الورود،  حتى ليتخيل لك أن الشرفة ما هي إلا حديقة صغيرة. شعب يقدر الإنسان، بل يتمادى ويقدر الحيوانات، إذا أردت التأكد من ذلك أدخل أي سوبر ماركت، ستفاجأ أن نصفه مخصص لطعام الكلاب والقطط ،  ومستلزمات الحيوانات واكسسواراتها وألعابها، استوقفني في أحد الشوارع مشهد غريب .. كلب يرتدي إطاراً من البلاستيك، وعندما سألت عن سبب ذلك، قيل لي أن هذا الكلب – بلا مؤاخذة- أنثى،  وهذا الإطار علامة على ذلك، شعب يعرف رفاهية الإنسان ورفاهية الحيوان أيضاً.
معذرة يا  صحبتي .. خبر جديد
نشرت صحف الصباح خبراً طازجاً جديداً من الجزائر بلد الشهداء .. فقد قامت مجموعة من "الإسلاميين" بمحاصرة قرية منعزلة في أطراف البلاد، وأخرجوا جميع سكانها، وقاموا بذبحهم كما تذبح الخراف، ولم ينج من هذه المجزرة الرهيبة حتى الأطفال.
اشتعل الدم في عروقي، أمسكت قلماً ، ووضعت دائرة حول عبارة "الإسلاميين" التي تتصدر العنوان، لعنت في سري سلسفيل جدود المحرر الذي صاغ الخبر، ووصف هؤلاء القراصنة "بالإسلاميين".
تحسرت  وتألمت عندما قارنت بين الغرب الذي يدلل الحيوان،  والعرب الذين يقتلون الإنسان.

قبلة على الخد
الجو شتائي رومانسي، والشوارع هادئة باردة كامرأة هجرها العشاق.. في الصباح تواعدنا أنا و"كاتارينا" وصديقة لها للغداء في "المطعم الإيطالي" الذي يقع في حي "فودوفغا"، في الموعد المحدد ارتديت أفضل ما عندي وانطلقت، الآن وصلت الجميلة الشقراء، أقبلت بابتسامتها العذبة وطلتها الملكية . نهضت لمصافحتها، فانحنت علي، وقامت بطبع قبلة خفيفة على خدي. أعترف أنني فوجئت، ولكني في الوقت نفسه بذلت كل الجهد حتى لا أظهر هذا الاستغراب، وحتى لا أبدو كفلاح يرى المدينة لأول مرة، فذلك من الأشياء العادية هنا.
 القبلة على الخد كالمصافحة باليد، طريقة للتعبير عن التحية، ولكن ذلك بالطبع غير مقبول في الشرق، فلو تعرض أحد الصعايدة لهذا الموقف وعلم أهله بذلك سوف (يطخونه) بالنار حسب التجسيد المسرحي الطريف، وإن كانت هناك فئة من الفنانين المصريين والعرب تعتاد على التحية بتبادل القبلات بين الرجال والنساء، الرجل يكون واقفاً فاغراً فاه بابتسامة عريضة كالعبيط،  بينما رجل آخر يقبل زوجته على خدها، منتهى التحضر ومنتهي التفسخ.
الموسيقى الهادئة تتهادى لتعطي الجو بعداً رومانتيكياً جميلاً، المكان مزدحم بالزبائن، على الحوائط لوحات تشكيلية رقيقة، على كل مائدة شمعدان عليه بعض الشموع المضيئة التي تضفي على الجو رومانسية الستينيات، ينعكس ضوؤها على الوجوه فيعطي لمسة من الشاعرية فريدة.
جلسنا نتجاذب أطراف الحديث .. في الغرب عندما يجتمع ثلاثة أصدقاء فإن كلا منهم يطلب طلباً منفرداً، ويقوم بدفع حسابه، لا توجد ظاهرة الدفع الجماعي المنتشرة لدينا في مصر،  وهي أن يتطوع أحدهم بدفع قيمة المشروبات أو المأكولات للآخرين .. "نظام إنجليزي" كما يطلقون عليه.
اقتربت من كاتارينا وهمست Your eyes are wonderfull أي عيناك رائعتان، فابتسمت،  وتشرب خداها بحمرة الشفق، إذا قابلت فتاة لابد من الغزل، لأن المرأة تفرح وتسعد بعبارات الإطراء والمعاكسة الخفيفة، هذه هي الروشتة السرية للإيقاع بالمرأة، ورغم القاعدة التي تقول (الشقراوات يكذبن كثيراً) تحدثت الجميلة الشقراء، تحدثت كثيراً ، ولمحت في عينيها الصدق، بعد لحظات أصبحت حياتها كتاباً مفتوحاً أقرأ صفحاته كما أشاء.
أقنعتني كاتارينا أن المرأة تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن جنسية إلى جنسية، ومن عمر إلى عمر، فملامحها الشكلية مختلفة، وطموحاتها وأفكارها وثقافتها أيضاً، المرأة كبصمة اليد لا يمكن أن تتشابه مع غيرها، لذلك السبب تزوغ أعين الرجال، ويردد الرجال البصاصون مثلي " امرأة واحدة لا تكفي"، رغم أن الدكتور مصطفى محمود يقول : "كلهن سواء، حاملات الدكتوراه وحاملات الطشوط"..
عندما اقترب الرحيل وحان موعد دفع الحساب، وقعت في حيرة ، فالتقاليد التي تربيت عليها تحتم أن أدفع للصديقتين، ولكن الأمر كما فهمت هنا يختلف، فكل شخص يدفع لنفسه، وحتى أتفادى الحرج الناجم عن ذلك، أبديت رغبتي في دفع الحساب كاملاً، ولكن الفتاتين اعترضا بلطف.
في المنزل قضيت طيلة الليل أؤنب ضميري،  وأشعر بالعار لأنني لم أصر على دفع الحساب كاملاً، وتحطيم هذا النظام الإنجليزي البارد.
خبر حزين..
كاتارينا حصلت على عقد في أمريكا الجنوبية، ويجب أن تسافر خلال أسبوع، هذا أسوأ خبر سمعته، مددت يدي المرتعشة أتحسس وجهها البريء الذي فضل البين، وترك في قلبي جرحاً لن يندمل، قلت في نفسي هي أصلاً بعيدة، لقد بالغت في البعد، أتحسس خدي .. أتلمس قبلتها الباقية على وجهي كسوسنة، عطرها الباقي، تلمع في عيني دمعة مقبلة.

الانتخاب بالعزف
الانتخابات المحلية على أشدها، والبلد كله متأثر بالجو الانتخابي، تقارير تلفزيونية تقدم أبرز المرشحين، ولقاءات مع المواطنين واستطلاعات للآراء، لفت نظري بها وجود اسم عربي هو محمد بسملتي،  وهو مهاجر مغربي دنماركي مقيم بالدنمارك منذ سنوات بعيدة، يرشح نفسه في الانتخابات، ويحطى بتأييد الكثيرين من الجالية العربية، الناس في القطارات يتحدثون عن مزايا هذا، ومساوئ هذا، فتاة تناقشني بحدة،  وتطالبني بالاقتناع بأن مرشحها هو الأفضل، وأن "يونيون" سيء، أمام حدتها ومطالبتها لي بالاقتناع بفكرتها قلت لها "نعم يونيون سيء"، وحتى الآن لا أعرف من هو يونيون Union هذا حزب أم اتحاد أم ماذا ...؟.
ولكن من المظاهر الطريفة في الدنمارك المؤتمرات الانتخابية، حيث تأخذ هذه المؤتمرات الشكل الاحتفالي، فالمؤتمرات هنا ليست مجرد انتخابات، وخطب منبرية وحماسية،  وخناقات، وبلطجية، وسنج  كما يحدث في العالم العربي، ولكنها حفلات موسيقية صاخبة، مزج زكي بين الموسيقى والسياسة، بين الفن والانتخاب.
مسرح كبير يشيد في أحد الميادين، وفرقة موسيقية صاخبة تعزف الجاز، والسياح والمواطنون يرقصون على إيقاع الموسيقى، ومن حين لآخر تتوقف الموسيقى، ويقف المرشح ليلقي بيانه الانتخابي الحماسي، وبعد أن ينتهي تعود الموسيقى من جديد ..
ولا أدري سر استخدام الموسيقى في هذا الموضوع، وإن كنت لا أنكر أنه استخدام ذكي، لأن الموسيقى هنا عنصر هام للجذب، من أجلها تحتشد الجماهير،  وتعطي لك أذنها وروحها، وفي هذه اللحظة يمكن أن تطرح عليها أفكارك، سوف تتلقاها بيسر، أيضاً ربما الشخص في حالة سماعه للموسيقى يكون في مستعدا لاستقبال أي شيء، بوابات عقله ووجدانه مفتوحة على مصراعيها، يمكن لأي شخص دخولها دون رقابة أو تصريح.
أقترح على أحزابنا السياسية البدء من الآن في احتكار فرق الفنون الشعبية، وفرقة حسب الله الشهيرة لاستخدامها في الموسم الانتخابي المقبل، سوف تكون الصورة مدهشة، سياسة، أجدع سلام، ودقي يا مزيكا ..
أعلى المسرح عبارة ببنط كبير هي KOBNHAVN STEMMER NEJ  ، وأسفل المسرح عبارة NEJ TIL EURO STATEN  ، على المسرح منصة صغيرة يلقي عليها المتحدث خطابه، مكتوب عليها FOLKE FEST MOD EEROEN KOBNHAVN STEMMER JEJ  ، وفي جوانب الميدان يافطات جانبية تقول RAV Kvinder mod union  ، وهذه اليافطة التي تقول   Der Folger mere union med  ، على جانبي الميدان طاولات عليها ملصقات Stop union انتخابية ومطبوعات متنوعة تشرف على توزيعها بالمجان سيدات مبتسمات، في وسط الميدان يقف شخص بملابس كرنفالية وقبعة طويلة يحمل في يده يافطة كبيرة صفراء مكتوب عليها JuniBevae gelse, Stem imod euro, 25% kursfald  ويافطة وحيدة هناك عليها عبارة EUROFORIEN .
وبين الزحام تتداخل الصور .. شاب يعلق في أذنيه السماعات،  ويتحرك بسرعة وهو يدير أمامه اسطوانات الموسيقى،  فيغير بأصابعه الموسيقى ببراعة، رجل متواضع الهندام بلحية كبيرة يرقص على إيقاع الموسيقى وفتاته متواضعة الهندام، مجموعة من الشباب يرقصون رقصات جماعية ومعهم طفل صغير، أحد هؤلاء الشبان يرتدي زي راهبة،  ويحمل في يده صليباً خشبياً يحركه فوق رأس الطفل، ويحركه حسب حركة الطفل وكأنه محرك عرائس .
الموسيقى الصاخبة تعلو والجميلة "ثن" ترقص،  وتلوح بيديها من بعيد، اقتربت مني بفرح قائلة You Come back again أي "ها أنت تعود مرة ثانية"، صافحتها مرة أخرى مرحباً، فتاة في التاسعة عشر من العمر، كنت قد تعرفت عليها في صباح ذلك اليوم في هذا الجو الصاخب، ورحبت بي خاصةً عندما علمت بمهمتي الصحفية، تحدثت بفرحة غامرة عن مصر التي زارتها منذ سنوات، وركبت الجمل، سألتني بروحها الحلوة عن رأيي في الدنمارك، ونظراً لأن الموسيقى عالية كنت أقترب منها لأرد عليها، وعندما تتكلم كانت تقترب مني لكي أسمع، واستمر الحديث بيننا على هذه الصورة.
الآن عطرها يتسلل إلى شراييني،  وأنا أتمنى أن لا تنتهي الموسيقى أبداً. سألتها عن موعد انتهائها من عملها، فقالت: "بعد انتهاء الحفل"، سألتها أن تلبي دعوتي لتناول فنجان شاي في الكوفي شوب المجاور، ابتسمت وأعلنت موافقتها ، ولكن "بعد انتهاء الحفل"، أثناء حديثي معها فوجئت بأحد عازفي الفرقة الموسيقية واقفاً أمامي متجهما وهو يسأل عن الأمر، ارتبكنا معاً، فقامت بتقديمه لي وقالت: "البوي فريند الخاص بي"، وأخبرته بموضوع الحوار بيننا، بعد أن هدأ الأمر قليلاً غادر الشاب المتجهم.
عندها تدخل صديقي محمد الذي كان يتابع الحوار من بعيد، ودعاني إلى الذهاب، أخبرته أنني قمت بدعوة هذه الجميلة على فنجان شاي، وأنها لبت الدعوة، فحذرني من ذلك، وقال لي بحزم: "إذا تعرفت على فتاه هنا ، واكتشفت أن معها البوي فريند الخاص بها يجب أن تتركها فوراً".
رفضت هذا المنطق، وصممت على إتمام اللقاء، لحظات وفوجئت بالجميلة "ثن" آتية لتلبية الدعوة، فابتهجت، ولكن صديقي المتزمت تدخل مرة أخرى، وتوجه للفتاه مخاطباً: "من الأفضل تأجيل اللقاء إلى الغد"، مد يده لمصافحتها، فصافحته وهي مندهشة، وأخذني من ذراعي ودفعني للرحيل، مددت يدي وصافحتها لأخفي حرج الموقف، مشيت وأنا في قمة الغيظ، وأنا مصرّ على مقاطعة هذا الصديق نهائياً ..
خفف الصديق من غضبي، وعلل ذلك بأنه من الممكن أن تحدث مشكلات، وأكد على نصيحته وهي "إذا قابلت فتاة في الدنمارك ووجدت معها البوي فريند الخاص بها اتركها فوراً" ..!، ثم أردف موضحاً "أنت بذلك كمن يعاكس سيدة وهي بصحبة زوجها ..!" ..!
.................
مازالت المليحة الواقفة عند شاطيء البحر تمد يديها لي، تدعوني ، تغريني بالآس والعنبر، تعدني بصناديق من الذهب والفضة، تبشرني بالإمارة على الشمس، مملكة النور والنار ...، أرفع يدي المثقلة بالقيد المكسور، أتحسس جراحي وأحاول النهوض، ولكن هيهات، ففي صدري تنغرس الشظايا، وقلبي جريح كالعصفور الذي مزقته طلقة الصياد.

الرفاهية والثمن
الشعب الدنماركي شعب مرفه بطبيعته، لديه كل سبل الحياة الحديثة، ولديه سبل الرفاهية، وتزيد الرفاهية لدرجة أنها تصل إلى الحيوان، والأمثلة على ذلك كثيرة، مركز كبير في قلب العاصمة يتخصص في بيع مستلزمات القطط والكلاب والزواحف وغيرها من الحيوانات الأليفة والمتوحشة، في هذا المركز ترى العجائب، تصور .. سجادة طويلة تعلق بطريقة معينة لماذا؟، لكي تنظف القطة المدللة أظافرها بها، جاروف صغير لإزالة – لا مؤاخذة- فضلات القطط والكلاب، زواحف ودلافين وببغاوات، ألعاب للحيوانات،  وأنواع كثيرة من الأطعمة الخاصة بها، إنها رفاهية الحيوان، فأين إذن رفاهية الإنسان في هذا العالم الموبوء.
ولكن رغم ذلك للرفاهية ثمنها، فلم يعد غريباً أن تشاهد عائلة تعيش في الشارع، تأكل وتشرب، وتلعب الورق، وتنام غير عابئة بالناس، سألت لماذا؟ ، فقيل لي أن هذه العائلة لا تملك بيتاً، تحصل على إعانة من الدولة،  ولكن تنفقها على المخدرات، ولا تجد غير الشارع..
أخبرني صديق أنه في أحد المرات شاهد رب هذه الأسرة يمارس الجنس مع المرأة .. أين ؟ .. في الشارع ..!
شاب آخر يجلس القرفصاء أمام أرقى معالم المدينة (التيفولي) يضع أمامه حقيبة يشحذ فيها، وأمامه لوحة مكتوب عليها (أنا مدمن مخدرات وإعانة الحكومة لا تكفيني من فضلك ساعدني)، شابة أخرى تجلس أمام إحدى دور السينما بين الدراجات تحني رأسها، ولا يظهر إلا شعرها، أمامها قطعة خشبية مكتوب عليها: (لا أجد ثمن الطعام) وبجوارها زجاجة خمر وكيس فارغ.
شاب أنيق الهندام،  يوقف المارة في الشارع،  ويطلب منهم أموالاً ، والناس يعرضون عنه، فتاه أخرى جميلة تمشي في محطة القطار، تبكي وتصرخ بأعلى صوتها كمن مات لها ميت، والناس يتجنبونها لأنها واقعة تحت تأثير المخدر ..، المهندس جون جنس مهندس الكترونيات الذي تعرفت عليه حذرني من هذه المحطة، وطالبني أن أحتاط جيداً ، لأن مدمني المخدرات قد يسرقون بالإكراه ..!
نحن لا نحقد على هؤلاء الذين يتمتعون بالرفاهية، ولا نريد منازعة الحيوانات في أرزاقهم، فقد طالبنا ديننا بالرحمة بالحيوان، وهناك أدلة كثيرة على ذلك، وليس أدل على ذلك من المرأة التي دخلت النار في هرّه، لأنها حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تبحث عن رزقها.
لا نطالب برفع الرفاهية عن الحيوان، ولا حتى نطلب الرفاهية للإنسان، فقط نطلب الحياة الكريمة للبشر، نطالب بإطعام الجوعى، وإيواء المشردين في مناطق كثيرة من العالم، نطالب بإنقاذ المسلمين والمسيحيين في فلسطين الذين يقتّلون ويشردون، نطالب بإنقاذ أطفال العراق الذين يموتون كل لحظة بسبب نقص الدواء.
ويصبح شر البلية مضحكاً عندما نطالب بهذه الأمور البسيطة، ونرى "الرفاهية" تلك تبلغ حدود الشطط، وتصل حدود اللامعقول.
ففي بريطانيا مثلا تزدهر تجارة جديدة هدفها إكرام الحيوانات الأليفة بعد موتها، هذه الصناعة يمكن تسميتها بـ(صناعة موت الحيوانات الأليفة) حيث تصنع لهذه الحيوانات أكفان ومدافن وبطاقات عزاء، وتخصص خطوط هاتف لتقديم النصح والمواساة.
لقد وصل عدد محارق الحيوانات الأليفة في بريطانيا إلى 320 محرقة، وتبيع المحارق جرارا لحفظ الرماد، وتوابيت، ومدافن وسط مروج خضر، وشلالات المياه ..!!
الغريب أن ذلك يحدث في بريطانيا، بريطانيا التي تتبع الولايات المتحدة الأميركية كظلها، وتغض الطرف عما يحدث في فلسطين من مذابح للأبرياء، وتساهم في ضرب العراق ..!
مدينة شنغهاي أيضاً أعلنت عن اعتزامها تشييد مدفن خاص لحيوانات الأليفة، وإكرام الميت دفنه، عقبال محافظة الغربية.

إعلام أمريكي
تتمتع المملكة هنا بإعلام متطور، ففي مجال الصحافة توجد عشرات الصحف والمجلات التي تصدر يومية وأسبوعية وشهرية، وتتعدد مجالات هذه المطبوعات بين العامة والمتخصصة، كما يوجد نوع جديد من الصحافة هو (صحافة الأحياء)، حيث يصدر كل حي جريدة صغيرة بحجم التابلويد ترسل بالبريد دورياً لسكان الحي، وهي ذات هدف إخباري وتسويقي، وتتميز هذه المطبوعات بالطرح الجيد والإخراج المتميز.
وفي مجال الإعلام المرئي يوجد عدد من القنوات التلفزيونية التي تبث برامجها على مدار الساعة، والمواد التي تقدمها هذه القنوات معظمها أميركية، أفلام ومسلسلات وبرامج، من هذه البرامج برنامج المذيعة الأميركية السمراء الشهيرة أوبرا وينفري، حيث يحقق برنامجها أعلى نسبة مشاهدة في الولايات المتحدة الأميركية، ويقدر عدد مشاهدوه بالملايين، وتعتبر هذه المذيعة الأكثر دخلاً في العالم، حيث يصل دخلها السنوي إلى 150 مليون دولار، ويصدّر برنامجها إلى 120 دولة في العالم، هذا بخلاف عدد من البرامج المحلية التي تدور في فلك البرامج الترفيهية والمنوعات.
وبما أن الإعلام في الأساس مرآة للمجتمع، فإن الإعلام الدنماركي عموماً إعلام متحرر، يقدم المشاهد العارية، والآراء الصريحة بلا أي تحفظ، مثال هذا البرنامج الذي شاهدته والذي يدور حول "الجنس" ، ويستطلع آراء شباب وفتيات عن هذا الموضوع، ويقدم اعترافاتهم الجريئة والفاضحة، أحدهم تحدث وقال إنه يفضل أن يمارس الجنس مع فتاتين دفعة واحدة!، برنامج آخر يدور حول كيفية تنفيذ تقاليع الشباب مثل وضع حلق في الجفن،  أو الوجه،  أو في "الصرة"، ووشم أماكن معينة في الجسم برسومات غريبة، تستلقي الفتاه بينما الخبير بمثل هذه الأمور يقوم بغرس الحلقة المعدنية في جلدها بلا ألم، المشكلة أنني اكتشفت أن من بين التقاليع أيضاً وضع حلقة معدنية في أدق منطقة من جسد الفتاه ..!.
ومن البرامج التي يتكرر بثها هنا هذا البرنامج الإعلاني الذي تذيعه القناة الثانية، والذي يدور حول (جاميكا)، والبرنامج يهدف إلى الترويج السياحي لهذا البلد، وفيه يقدمون للمشاهد الكثير من اللقطات والمشاهد الفاضحة، والتعليقات المثيرة بصورة تؤكد أن هذه الجزر هي جزر الإباحية المطلقة.
قالت لي ماريا "لا تشاهد هذه القناة فهي قناة سيئة"، وهذا يؤكد أن فئة من الدنماركيين يرفضون هذا اللون من الإعلام، ويؤمنون بخطره على الأسرة.
ولكن إذا جنبنا المحتوى من التقييم، سنلاحظ أن الإعلام التليفزيوني متطور فنياً، ولعل الدليل على ذلك البرنامج الخاص الذي قدمته إحدى القنوات عن استعدادات نيجيريا لمباريات كأس العالم التي تقام على أراضيها، وكيفية الاستعدادات، مثل مكافحة الحشرات، وإعداد الملاعب والتجهيزات الفندقية رغم تواضع ا لإمكانيات.
أيضاً هذا البرنامج الذي يتضمن مسابقة يشارك بها عدد من الشباب من الجنسين، تتخذ المسابقة شكل الرحلة إلى إحدى الأماكن السياحية، وتتابع الكاميرا المتسابقين خطوة خطوة، في غرفهم، أثناء تناول الطعام، في رحلاتهم الخارجية، ويطرح على المجموعة عدة أسئلة، وباستمرار الأسئلة هناك من يتقدم، وهناك من يتراجع، أما الفائز فيحصل على جائزة مالية كبيرة، لفت نظري في هذه المجموعة من المتسابقين وجود شاب أسمر اللون اسمه طاهر ، مما يوحي أنه عربي الأصل، وهذا يؤكد مجدداً انخراط الأعراق المختلفة داخل المجتمع الدنماركي، واستيعاب المجتمع ذلك.
أيضاً من الشواهد على التطور التقني في هذا المجال، الإعلانات التليفزيونية التي تقدم على الشاشة،  والتي تكشف لنا تطور صناعة الإعلان هناك من حيث الفكرة والتصوير والجرافيك،  وغيرها من مقومات الإعلان، ولعلنا نذكر الإعلان الشهير الذي يبث في التليفزيونات العربية عن أحد أنواع الزبد الدنماركي اسمه لورباك LURPAK، والذي يدور حول فكرة تدليل البقرة حتى تعطي أجود الألبان، والتدليل هنا يأخذ شكلاُ كوميدياً مثل مساعدة البقرة على لعب الكرة، وإحراز الأهداف، وذلك بأن يقوم بعض الرجال بتحريك الشباك هنا وهناك حتى تدخل الكرة فيها التي ضربتها البقرة، أو يجعلها تقرأ كتاباً في السرير، وبجوارها شخص يشير لك لكي تخفض صورتك حتى لا تزعجها ..!
وفي الوقت التي تفرد القناة الثانية فيه مساحة كبيرة للمواد الإباحية، تلمح تحفظاً واضحاً في القنوات الأخرى،  وعددها ثلاث قنوات.
في أحد الأيام استرعى انتباهي وجود إذاعة عربية تبث برامجها في الدنمارك باللغة العربية، إذاعة راقية نقية الصوت تقدم على مدار الساعة أغنيات لهاني شاكر، ومحمد عبدالوهاب،  وفريد الأطرش،  وغيرهم من المطربين العرب، وتتلقى مكالمات المستمعين التي تعبر عن الفرح لوجود هذه الإذاعة العربية التي تبث الدفء في جليد الغربة.

Healthy Food
الأكل ظاهرة طبيعية مستمرة لابد منها لكي يعيش الإنسان، ويكون قادراً على القيام بوظائفه الحيوية الكاملة، ولكن الطعام كما أن له فوائده، له أيضاً أضراره، وقد يؤدي إلى الهلاك، تماماً كالسم البطيء عندما يوضع داخل العسل، والأدلة على ذلك كثيرة، هناك أطعمة تسبب الكثير من الأمراض مثل تصلب الشرايين، وزيادة السكر، فضلاً عن السمنة التي هي بيئة خصبة لكثير من الأمراض.
لذلك فإنه من المهم جداً التدقيق في نوعية الغذاء الذي نتناوله، وأن نتقن جميعاً "فن إدارة الطعام" –إن صح التعبير-، وقد أمرنا ديننا الإسلامي بذلك في عدد من الآيات والأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما ملأ ابن آدم وعاء أشر من بطنه)، وقال أيضاً (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع).
ولكن تظل المشكلة قائمة يعاني منها الكثيرون، ولعل أحد المؤشرات على ذلك مرض السمنة المنتشر في العالم العربي، واستغلالاً واستثماراً لأوجاع الناس ظهرت على الساحة "مافيا التخسيس" ، وأصبحت لها تجارتها الرائجة، والمتمثلة في مراكز التخسيس المنتشرة في كل شارع وكل زاوية، تقدم لك كل يوم فكرة جديدة لإنقاص وزنك، وتحويل (الفيل أبو زلومة) إلى غزال، فيتسارع إليها البدناء، وبعد أن يعلقوا الآمال،  وينفقوا الكثير من الأموال، يكتشفون أن الأمر مجرد خدعة، وإذا تصدينا لرصد المبالغ المنصرفة على العلاج من السمنة سنوياً سنكتشف أنها مليارات.
حتى أن السمنة أبرزت نوعاً من التجارة، وهو تجارة أدوات التخسيس، وهي عبارة عن أدوات رياضية متنوعة الأحجام والأشكال تتنافس على إنتاجها عدد كبير من الشركات، وتقدم الفضائيات عنها الإعلانات الموسعة، والعروض التي تتضمن النقد والتقسيط والإيصال للمنزل، كلها تستثمر أوجاع الناس،  وأحلامهم في الرشاقة.
والشعوب الأوربية عموماً تتميز في أغلبها بالوعي بقضية الطعام وعلاقته بالجسد، لذلك نرى في عاداتهم الغذائية الكثير من الملامح التي تؤكد ذلك، ويكثر لديهم تداول مصطلح Healthy Food الغذاء الصحي، وهو الغذاء المتوازن الذي يمد الإنسان باحتياجاته الأساسية، ولا يسبب له الأضرار.
وفي الدنمارك يكتسب مصطلح Healthy Food أهمية كبيرة ، حيث يبرز الوعي بالصحة العامة، والوعي بالعناصر التي يتكون منها الغذاء السليم.
ماريا ربة الأسرة التي أقيم معها طباخة ماهرة، تعد أشهى المأكولات، ولكنها تعرف جيداً مقومات الأكل الصحي، كيف تقدم أطباقاً شهية وصحية في آن واحد، معادلة صعبة، ولكنها تتحقق بالثقافة الغذائية.
حدثتني ماريا عن الأكل الصحي وعناصره، وكيف يمكن إعداد الأكل الشهي الذي ينفع،  ولا يضر،  ولا يسبب السمنة، إنها تفضل السمك وغيره من الأصناف الذي تحتوي على سعرات حرارية  أقل، والخبز أيضاً هو الخبز الأسمر الخالي من السعرات العالية.
عندما علمت ماريا رغبتي في إنقاص وزني، قالت "لا تقلق دع لي هذه المهمة"، وأخذت تتابع معي وجباتي يومياً، في أحد الأيام قررت التسوق وحدي، وذهبت إلى السوبر ماركت القريب، وأحضرت كمية من المأكولات، فجعت ماريا عندما جاءت من الخارج،  ووجدتني منهمكاً في تناول قطعة كيك شهية أحضرتها، وأطلقت صيحة اعتراض، وعندما سألت عن السبب قالت: لي "هذا الكيك أفسد كل شيء، قلت "لماذا؟"، أردفت قائلة: "هذه القطعة من الكيك تعادل أكل ثلاثة أيام"..
تعجبت في سري للعادات الغذائية الخاطئة التي تربينا عليها، والتي تربي عليها المجتمع العربي كله، والتي تتلخص في تشكيلة (سمك، لبن، تمر هندي)، في العالم العربي الطعام وسيلة للقتل بدلاً من أن يكون وسيلة للحياة،  تماما كما قال جورج سيدهم في مسرحية (المتزوجون) لزوجته (سكينة) في المشهد الشهير عندما أخذت تدفع البيضات في فمه واحدة وراء الأخرى، في الأفراح أكل، وفي المآتم أكل.
الطعام لدينا وسيلة للتعبير عن الكرم، عن الحب، طريقة للتحية، ولا يمكن أن ترد تحية الضيف في الموروث العربي، حتى ولو أدى هذا الطعام إلى انفجارك.
نحتاج إلى تنظيم عاداتنا الغذائية، ونشر وتعليم ما يمكن أن نسميه "الثقافة الغذائية"، حتى نرحم بطوننا من العناء، وننقذ أنفسنا من الهلاك.

ممنوع التصوير
الصورة ذاكرة التاريخ التي لا تكذب أبداً، ليست للذكرى فقط، ولكنها موثق هام لتاريخ وحضارة وعادات وتقاليد، الصورة خطوة ضد الزمن والنسيان، تذكرك بأصلك وفصلك، جزء حيوي من ماضيك ومستقبلك.
أما بالنسبة للصحفي،  فللصورة أهمية خاصة جدا،  لأنها التعبير الصادق عما يكتبه، فالصورة أصدق من الخيال، الصورة حقيقة، والكتابة خيال، ولكن الخيال عندما يدعم بالحقيقة تكون النتيجة رائعة، وهي أيضاً الدليل والمستند في حالة اتهامك بالكذب، تماماً كالأدلة التي تبني عليها القضية كلها، إذا اختفت انهارت القضية، بعض الصور يختصر الكثير من الكلام،  والكثير من ركام الصفحات، لذلك فقد كان اهتمامي بالصور، وكان حصاد الرحلة صور كثيرة ترصد مختلف الجوانب في هذه البلاد التي لا يعرفها الكثيرون.
وعندما يقوم الصحفي باستخدام الكاميرا، فهو يختلف بالطبع عن المصور العادي، لأن الرؤية الصحفية تتحكم في الصورة الملتقطة، فالصحفي عندما يلتقط الصورة، تتكون في ذهنه مسبقاً الموضوع الذي سيكتبه عنها، لذلك يتخذ قرار التقاط الصورة، لذلك كان أنجح الصحفيين الذين يقومون بالتقاط الصور بأنفسهم.
ولكن رغم الحرية المطلقة التي نراها في هذا البلد،  والتي اخترقت كل الحدود، وأسقطت ورقة التوت الأخيرة، إلا أنهم  وياللغرابة يتحفظون في هذا الموضوع، ويرفض الكثيرون التقاط الصور، ولا أدري السبب، يحدث هذا رغم أن الأمكنة المراد تصويرها أمكنة عامة، سوبر ماركت مثلاً، مكتب بريد، البعض يعتذر،  ويخبرك بلطف أن التصوير ممنوع، أو على الأقل يطلب منك استئذان الإدارة، عبارة No Photos "ممنوع التصوير" شاهدتها في أكثر من مكان، في القصر الملكي، وفي "كرستيانيا" ..
في مصر لا توضع هذه العبارة إلا على المناطق العسكرية، من الممكن أن نتفهم ذلك في محلات الصرافة والبنوك، حيث يحدث ذلك ربما خوفاً من سرقتها، ولكن الأماكن العامة لماذا يمنعون التصوير بها؟. بالطبع هذه ليست قاعدة، ولكنها مشكلة واجهتها في أكثر من مكان، ولكن بالطبع تغلبت عليها، كيف؟، إذا قال أحدهم "ممنوع التصوير"، أتظاهر بالموافقة، ثم ألتقط الصورة وأمضي ..
لا أحد يمنعك من الوصول للحقيقة إلا الموت ..

ضريبة على التلفزيون
الناس هنا يتمتعون بكل أنواع الرعاية، رعاية اجتماعية متميزة، والدولة تقدم خدمات غير عادية للمواطن منذ ولادته، فالطفل منذ ولادته يحظى على رعاية شاملة تشمل تقديم كل التجهيزات لولادة صحية في أحدث المستشفيات، يعقبها متابعة طبية دقيقة، فلكل مولود ممرضة خاصة تتابعه يومياً بعد الولادة، وعندما ينتقل إلى بيته تزوره أسبوعياً، وتقوم بإجراء الاختبارات اللازمة له، اختبارات السمع، والنظر، ووزن الطفل، وغيرها من الاختبارات،  وتدون كل هذه المعلومات في كتيب خاص.
 وتأمر الممرضة الأبوين بالذهاب بالطفل إلى الطبيب إذا شكّت لاحظت أعراضاَ معينة، وبالطبع العلاج مجاني في جميع مراحله على نفقة الدولة، وتستجوب الممرضة الأم والأب عن الطفل، وغذائه، وطريقة نومه، وأطواره، وترشدهما لطرق رعاية الطفل الصحيحة، ويمكنها إدخالهما السجن إذا لاحظت إهمالاً من الأبوين في هذا الجانب.
شهدت بنفسي ذلك عندما حضرت الممرضة إلى الأسرة التي أقيم معها لكي تطمئن على طفلة العائلة الوليدة، تابعت كل ما قامت به، وما طرحته من أسئلة للأم والأب، وما أجرته للطفلة من فحوصات، وتساءلت .. متى نرى هذه الخدمة الطبية الرفيعة في عالمنا العربي؟
الطلبة أيضاً يحظون برعاية خاصة تتمثل في حصولهم على مكافأة شهرية مناسبة أثناء الدراسة، كما يحصلون على الكمبيوتر الشخصي "اللاب توب" مجاناً أو بأسعار مخفضة، أيضاً يتوفر لهم العلاج المجاني في أرقى المستشفيات، وغيرها من المميزات التي تكفل لهم التنشئة العلمية والنفسية الصحيحة.
المسنون أيضاً يحظون برعاية فائقة، فيحصلون على منحة شهرية مناسبة من الحكومة، والعلاج المجاني، ومن مظاهر هذه الرعاية التي شاهدتها أنهم يمكنهم الحصول على كرسي كهربي متحرك يمكّنهم من الحركة بسهولة في الشوارع والأسواق ..، خدمات كثيرة متنوعة لا نحلم بنصفها في العالم العربي، ولكن في المقابل الحكومة تستقطع ضرائب من المواطنين قد تصل إلى 40%.
عبّر لي المهندس جون جنس عن استيائه لكثرة الضرائب التي تقتطعها الحكومة من رواتب المواطنين، وصارحني أنه يتمنى لو أتيحت له الفرصة للتعاقد للعمل في بلد آخر، سألت عن موضوع الضرائب هذا، فأكد لي بعضهم أن الضرائب بالفعل كبيرة، عدا المبلغ الذي يقتطع لنقابة العمال، حتى أن هناك ضريبة على التلفزيون، فإذا اشتريت جهاز تلفزيون أو أكثر يجب أن تبلغ السلطات بذلك،  وتسدد الضريبة المقررة عليه.
وقعت في يدي صدفة نشرة حصلت عليها من مكتب البريد، لفت نظري أولاً أن النشرة مكتوبة بعدة لغات منها العربية، وهذا يؤكد استيعاب الدولة لقضية وجود الأعراق المختلفة على أراضيها،  واستعدادها لتفهم ذلك،  وتفهم حتمية انخراطهم في المجتمع الدنماركي، ولعل طباعة التعليمات بلغاتهم مختلفة دليل على ذلك.
تقول النشرة :
(على كل من بحوزته تلفزيون أو راديو دفع رسوم رخصة التلفزيون أو الراديو، سواء إن كان الجهاز ممتلكاً، مستأجراً أو مستعاراً.
عند شراؤك لجهاز تلفزيون فأنت تدفع ثمن الجهاز فقط وليس الرسوم المتطلبة لاستعمال شبكة التلفزيون أو شبكة الراديو، لهذا يجب عليك دفع الرسوم سواء إن كنت تستعمل الجهاز كل يوم أو كنت لا تستعمله إلا نادراً، أو حتى إن كنت لا تستعمله إطلاقاً. وهذا يشمل طبعاً استعمالك لتلفزيون الدنمارك الرسمي أو الـ TV2
من الجانب الآخر فأنت لا يتوجب عليك دفع رسوم أكثر من رخصة واحدة للمنزل الواحد، حتى ولو كان عنك أكثر من جهاز تلفزيون واحد في البيت، أو حتى إن كان عندك جهاز تلفزيون في السيارة، أو إن كنت تمتلك مركباً وفيه جهاز تلفاز.
المنزل الواحد يشمل :
- دافع الرخصة.
- زوج دافع الرخصة.
- الأبناء الذين لا تتجاوز أعمارهم الرابعة والعشرين عاماً.
وعلى الجميع أن يكونوا مسجلين على العنوان ذاته.
عند حصولك على جهاز التلفزيون يجب عليك إخطارنا خلال مدة أقصاها أربعة عشر يوماً، عندما يصلنا خبر حصولك على الجهاز نرسل لك كرت الجيرو لدفع الرسوم.
تدفع رسوم الرخصة مقدماً مرة كل ستة شهور، تستطيع أن ترى على بطاقة الجيرو الفترة التي يشملها الدفع وقدر تكلفتها.
تذكر: إن كنت تملك جهاز تلفزيون وجهاز راديو معاً فأنت تدفع رخصة جهاز التلفزيون فقط.
توقيف دفع الرخصة:
توقف الرخصة:
- إن عدت لا تملك أجهزة يتوجب عليها دفع الرخصة.
تستطيع الحصول على استمارة توقيف الرخصة في مكاتب البريد.
- يتم توقيف الرخصة خطياً وبأسرع وقت ممكن.
- توقيف الرخصة يتم من تاريخ اليوم الذي نستلم فيه رسالتك، ولا تستطيع أن توقف الرخصة بموجب تاريخ سابق.
في حالة الانتقال:
يجب أن تعلمنا بانتقالك في حالتين:
- الأولى إذا عزمت مغادرة البلاد.
- الثانية إذا تزوجت بمن يدفع رخصة، ولهذا يجب إيقاف إحدى الرخصتين – حتى لا تدفعا كلاكما – أي رخصتين بدلاً من واحدة.)
قرأت التعليمات ثانية، وتعجبت،  وحمدت الله في سري،  لأنه لا توجد لدينا في مصر هذه الضريبة العجيبة، هناك الكثير من المزايا والنعم التي يحصل عليها المواطن في بلادنا، ولكنه لا يشعر بها، بينما تدفع عنها الشعوب الأخرى الضرائب، لذلك الحمد لله، نعم الحمد لله ..!

هتفت .. "الله أكبر"
بمجرد أن دخلت غرفتي التي أقيم بها، أردت الصلاة، ولكني وقعت في حيرة شديدة، وذلك بسبب عدم معرفتي بالقبلة،  أو مواقيت الصلاة، والسؤال هنا غير وارد، فلا أحد هنا يتحدث العربية، أو يعرف شيئاً عن الإسلام، لذلك قررت الصلاة بالنية، أما مواقيت الصلاة فقد اعتمدت أيضاً النية في تحديدها، فقمت بالصلاة بالتقريب مع توقيتات مصر، وابتهل إلى الله أن يغفر لي،  ويتقبل عذري.
في اليوم الثالث،  وبينما كنت أتجول في الحي الذي أقطن به، طالعتني فجأة لافتة مكتوب عليها (NUSRAT DJAHAN MOSKEEN) وتحتها بحروف عربية عبارة (مسجد نصرت جهان) ففرحت،  وتتبعت اللافتة من شارع لآخر حتى رأيت مشهداً مهيباً رائعاً، مسجد كبير، المسجد مبني على الطريقة الغربية، فالقبة كبيرة تحيط بكامل السقف، انشرح صدري، وهتفت "الله أكبر".
اقتربت من المسجد، كانت هناك عبارة غالية مكتوبة بالخط الكوفي أعلى الباب هي "لا إله إلا الله .. محمد رسول الله"، كانت فرحتي لا توصف، فقد قادني الله إلى ما كنت أتمناه، توجهت ببطء إلى باب المسجد، وكان مغلقاً، مددت يدي وطرقت الباب، بعد لحظات خرج لي شخص على وجهه وملابسه آثار طلاء، عرفته بنفسي فرحب بي ودعاني للدخول.
لقد كان عبدالمقصود أحمد إمام المسجد يقوم ببعض الإصلاحات والدهانات في بعض أجزاء المسجد، وهو شاب باكستاني في العقد الثالث، يتحدث الإنجليزية بطلاقة بالإضافة إلى الأوردو لغة بلاده، ولكنه لا يتحدث العربية مطلقاً، دخلت إلى المسجد وصليت ركعتين تحية للمسجد وأنا في قمة السعادة، فها هو الإسلام العظيم يصل بنوره إلى هذه القبة البعيدة، وفي قلب الغرب ترتفع راية "الله أكبر" ..!
سألت عبدالمقصود عن المسلمين هنا، ولماذا لم يأتوا للصلاة رغم أن الوقت الآن هو وقت صلاة الظهر، فأخبرني أن عدداً منهم يأتي للصلاة يوم الجمعة فقط، استغربت لذلك، الصلاة يوم الجمعة فقط!، وأردف عبدالمقصود: "يمكنك لقاؤهم ومحاورتهم في ذلك التوقيت"، أخبرني عبدالمقصود باتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.
تذكرت وصية إبراهيم عليه السلام لبنيه حيث قال: "يا بني إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، فهمست في سري "اللهم توفني مسلماً وألحقني بالصالحين".

أووووه كاتارينا
"كاتارينا" .. صديقة العائلة، فتاة في العشرين من عمرها، أنيقة ذات شعر ناعم يميل إلى الصفرة، رشيقة، خفيفة الظل، تتمتع بعيون ملونة ينطبق عليها قول بشار بن برد:
حواراء إن نظرت إليـ
ـك سقتكَ بالعينينِ خمرا
ترتدي كاتارينا ملابس عادية عملية، حيث ترتدي في الغالب بلوزة وبنطلون استرتش –كما يسمونه-، وأحياناً ترتدي بالطو رمادياً أنيقاً، وتقود سيارة ذات موديل قديم، تضع ماكياجاً خفيفاً، هاهي ترافقنا في إحدى السهرات، ترفع كاتارينا ساقيها وتضم فخداها إلى صدرها وهي جالسة على الكنبة فتصير أكثر أناقة. تحمل في يدها موبايل صغير توشوشه من حين لآخر.
 كاتارينا تدخن السجائر باعتدال، وتحب "الشيشة" أي النرجيلة، أو الآرجيلة، أو الآركيلة كما يكتبها البعض الآخر، وتشرب الكحول ولكن ليس بإفراط، وتدخن الماريجوانا أحياناً، تفتح السيجارة بمهارة،  وتمزج الماريجوانا بالتبغ، ثم تضع المزيج مرة أخرى باحتراف داخل اللفافة، وتشعل السيجارة وتدخن بانسجام، ولكاتارينا مواهب في هذا المجال، فهي تسحب الدخان،  وتخرجه من أنفها كما تفعل فيفي عبده، كما أنها تستطيع نفث الدخان من فمها بطريقة معينة بحيث يكتب الهواء الطالع كلمة Hallow، هل تصدق ذلك؟.
جلست وقتاً لكي أشرح لها الطقوس الشعبية المصرية في تدخين الشيشة، حاولت أن أشرح لها عبارة (مساء الخير) التي يقولها الشخص للآخر ، وهو ينقل الشيشة له، تأكدت من استيعابها الأمر عندما ناولتني "الشيشة" مبتسمة قائلة Good After Non، لا أدري لماذا توقفت عندها، ربما لأنها نموذج للشباب الدنماركي الآن، بواقعه وأحلامه وطموحاته..
"كاتارينا)" تدرس الآن في إحدى المدارس العليا في كوبنهاجن، تسكن لوحدها في شقة في منزل كبير عتيق، شقتها صغيرة مثل شقق معظم الطلبة، تتكون من حجرتين وصالة صغيرة ومطبخ وحمام، ورغم صغر الشقة إلا أنها أنيقة مرتبة، حجرة المعيشة تحتوي على مكتبة بسيطة مزدحمة بأشكال وأنواع من الكتب التي يغلب عليها الطابع الدراسي، البراويز الصغيرة الأنيقة تملأ الجدران كعادة أهل الغرب، قدمت "كاتارينا" لنا القهوة المعدة على الطريقة الأسبانية،  وجلست تتحدث معنا في أمور شتى.
"كاتارينا" مثلها مثل معظم بنات جيلها زارت دولاً شتى، فالشباب الدنماركي محب للسفر بطبعه، فمعظمه سافر للسياحة إلى بلدان أوروبية وإفريقية،  مثلاً زارت دهب في مصر، وجنوب إفريقيا، والسنغال،  وإسرائيل،  وغيرها من البلدان ..، السفر بالنسبة لشباب الغرب ضرورة، ليس كعندنا في الشرق وفي مصر تحديداً، حيث يوجد ملايين من المصريين لم يزوروا الأقصر وأسوان ولو مرة في حياتهم.
في رحلة العودة لاحظت أن نصف الطائرة من الشباب الدنماركي المسافر للقاهرة للسياحة، في يد معظمهم كتب سياحية عن مصر، منهمكين في قراءتها، شعوب مثقفة تعي جيداً أهمية السياحة، والتعرف على الشعوب وحضاراتها المختلفة.
سألت "كاتارينا" عن انطباعها عن مصر، فأخبرتني أنها لم تزر إلا (دهب) وقضت بها خمسة أيام فقط، ولم تزر القاهرة أو أي مدينة مصرية أخرى، وأبدت إعجابها بدهب، ولكنها عبرت عن استيائها من بعض الشباب المصري هناك الذي كان يطاردها، ويريد أن يقيم علاقة معها، أجبتها إجابة مازحة علّي أستطيع التخفيف من غضبها: "Beauty moves heart" أي "الجمال يحرك القلب" بمعنى أنها لو لم تكن جميلة لما طاردها أحد، فابتسمت ..
زارت "كاتارينا" إسرائيل عن طريق المنفذ البري في رفح، فاضطرت إلى سؤالها عن رأيها في الإسرائيليين، فقالت أنه شعب يفتقد الذوق، وحدثتني عن الشاب الإسرائيلي الذي دعاها للبقاء في إسرائيل، ووعدها بأن يكون البوي فريند الخاص بها إن هي فعلت ذلك.
ومادمنا نتحدث عن "كاتارينا" فلابد أن نتحدث عن الحب في حياة الفتاة الدنماركية، لنصل إلى أخطر نقطة في الحياة الاجتماعية لهذا الشعب، فعلى الرغم من الرفاهية التي يعيش فيها، إلا أنه يعاني من خلل اجتماعي خطير، فالترابط الأسري مفقود، والالتزام الأخلاقي قليل، والزواج غير مقدس، أي نعم توجد أسر كثيرة ملتزمة بالإطار الأسري المعروف، ولكن الانطباع العام الذي يصلك هو طغيان الفردية، وعدم تقديس الكيان الأسري ككيان اجتماعي عظيم.
الفتاة مثلاً هنا بمجرد أن تشب عن الطوق تستقل عن العائلة، ويصبح لها "بوي فرند" يصادقها ويرافقها ويعاشرها معاشرة الأزواج، تعيش معه لفترة تقصر وقد تطول، قد يقتنع الأثنان،  ويكملان هذه المرحلة بالزواج، وقد لا يقتنعان،  ويمضي كل منهما إلى حال سبيله..
خلل اجتماعي خطير، والمؤسف أنهم يدافعون عنه ويعتبرونه – وياللغرابة- النظام الاجتماعي الصحيح، على سبيل المثال "كاتارينا" هذه التي أحدثكم عنها كان لها منذ فترة "بوي فرند" من جنوب إفريقيا، تعرفت عليه أثناء قيامها برحلة سياحية هناك، ومن وقتها وهو البوي فرند الخاص بها، وعندما زار الدنمارك عاش معها في نفس الشقة.
حكت لنا عنه،  وذكرت أنه كان يجيد الطبخ،  وترتيب المنزل، لقد جلس فترةً طويلة بدون عمل، وكانت تعود من مدرستها فتجده قد رتب المنزل وأعد الطعام، وعندما سألتها أين هو الآن ..؟ قالت : "سافر إلى بلاده"، وأردفت لأصل إلى نتيجة ما وقلت مازحاً : (Is your heart busy now) أي "هل قلبك مشغول الآن" فأجابت بالنفي، فأردفت: (Would you let me take a place in your heart) أي "أنا أحب أن يكون لي مكان بقلبك" فابتسمت وابتسمنا معاً.
 بعد ذلك أخبرتها أنني أداعبها فقط،  وأختبر إنجليزيتي ليس إلا حتى لا تصدق الموضوع، والنتيجة التي كنت أرمي لها من هذا السؤال هو النتيجة الحتمية لمثل هذه العلاقات وهي الفشل الذريع.
وعندما يقابل رجل شرقي مسلم يعتز بدينه وتقاليده هذه الأفكار الشاذة الغريبة فلابد أن يتحول اللقاء إلى صدام وهذا ما حدث فعلاً.
نقاش عاصف حدثت بيني وبين عدد الشباب الدنماركي ومن بينهم "كاتارينا" و"ماريا" ، و "سارة" حول هذا الموضوع، ورغم إنجليزيتي غير المحترفة حاولت قدر الإمكان أن أشرح لهن رأي الإسلام،  والأساس الذي وضعه لبناء مجتمع سعيد، وأوضحت لهم الخلل الرهيب الذي يعانون منه، فهذه الفتاة بعد أن صادقها البوي فرند وعاشرها وقضى معها وقتاً، تركها وانتهى الأمر، مثلها في ذلك مثل أي غانية في سوق البغاء، وتساءلت: "أين السعادة في ذلك؟ .. أين الأمان الأسري، أين المستقبل، أين الإطار الصحيح لبناء أسرة سليمة؟".
وكان التيار المقابل شديداً، احتج الحاضرون بأن عقد الزواج لا يجب أن يكون معياراً لأن يعيش رجل مع امرأة، فالحب هو المعيار الهم، وقالوا وقتها أشياء كثيرة، لعل أخطرها وجود نظام لديهم يدعى (السابو) يقنن هذه العلاقات المنفلتة البعيدة عن الزواج، يذهب الرجل والمرأة إلى المسئولين عن هذا النظام، يخبرونهم أنهم يريدون أن يعيشوا معاً، فينظمون لهم هذه العلاقة، قلت: "إذن لماذا لا يكون "الزواج" نفسه هو الذي يقنن هذه العلاقة، أم أنها مجرد الرغبة في الشذوذ عن الركب والناموس الطبيعي للبشر ، والتمرد على القيم والمبادئ؟"، وكلما استمر النقاش كلما لمحت في حديثهم اقتناعاً بما أقول، ولكن .. بصراحة تمنيت لو كنت متعمقاً في الإنجليزية لكي أجعلهم يرفعون الرايات البيضاء.

الأسرة المفقودة
وإذا كان المجتمع في الدنمارك يشجع ويرحب بإقامة العلاقة غير المشروعة بين الجنسين،  والمتجسدة في وجود "البوي فرند" و "الجيرل فريند"، فإنه من البديهي أن الزواج كفعل اجتماعي مهم سينحسر ويقل، لقد تأملت العلاقة بين الشاب والفتاة بهذا الشكل، وحاولت أن أجد تبريراً منطقياً لها، فلم أجد، ولكني استخلصت أن مثل هذه العلاقة نتاج للشتات الأسري، وعدم وجود كيان الأسرة بمفهومها الصحيح، أب وأم وأبناء، يعيشون في مكان واحد، مترابطين ارتباطاً وثيقاً طوال العمر، الأب والأم عليهما واجبات تربوية تجاه الأبناء، والأبناء عليهم واجبات إنسانية وعاطفية تجاه الآباء، لذلك كانت هذه العلاقة الشاذة "البوي فريند والجيرل فريند" تعويضاً لافتقادهم روح الأسرة.
جمعتني الظروف هناك للحديث مع امرأة دنماركية لم تر أباها منذ أحد عشر عاماً، والمقصود هنا أباها الحقيقي، لأن هناك أب آخر، وهو أب بالتربية، وهو زوج الأم مثلاً، أحد عشر عاماً ولم تر والدها منذ أن انفصل عن أمها، وقتها سافر الأب إلى أيرلندا،  وتزوج هناك وأصبحت له أسرة، وانقطعت السبل بينه وبين ابنته حتى الاتصالات التليفونية انقطعت بينهما، حدث هذا رغم علم الابنة بمكان والدها، وبرقم هاتفه، ورغم عدم وجود خلافات اجتماعية.
تعجبت من هذا الوضع الشاذ، وناقشتها كثيراً حوله، أخبرتها أننا في مصر لا يمكن أن يحدث هذا مطلقاً، لأن الترابط بين أعضاء الأسرة قوي، وسألتها: "لماذا لا تتصلين به الآن؟"، وأكدت لها أن ردة فعله ستكون رائعة، أحمر وجه الفتاة وتوترت وقالت : "لديك حق، أنا ابنة سيئة"، وبالفعل تناولت سماعة الهاتف وحدثت والدها أمامي، وكانت مكالمة مؤثرة أعادت إلى وجهها الحياة، بعد انتهاء المكالمة، التفتت إلى وقالت بامتنان بالغ : "شكراً لك".
بذلك نقترب جداً من صلب المشكلة، ونقول إن العلاقة بين الشاب والفتاة التي تندرج تحت مسمى "البوي فريند والجيرل فريند" ليست فقط علاقة عاطفية أو جسدية، إنها علاقة أسرية (صناعية) يحاول فيها الاثنان تعويض ما افتقداه من حطام الأسرة، ويكشف عن روح قلقة ونفس ضائعة.
فالفتاة الصغيرة التي تنفصل عن الأسرة لأسباب اجتماعية مختلفة، وتدخل في مثل هذه العلاقة التي يرحب بها ويشجع عليها المجتمع، تحتاج إلى شخص يعوض غياب الأب والأم والأخوة، فلا تجد ذلك إلا في "البوي فريند"، كذلك الشاب لا يجد ما افتقده من أب وأم وأخوة وعلاقات أسرية مترابطة إلا في "الجيرل فريند"،  فتنشأ هذه العلاقة السهلة البسيطة.
الإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمفرده، لذلك يلجأ إلى اختراع الأسرة بعد أن فقدها، وكما يقول الشاعر نزار قباني:
الحب بعض من تخيلنا
إن لم نجده لاخترعناه
ورغم قاعدة "إذا بليتم فاستتروا"، يجهر المجتمع بهذه العلاقة، ويعلنها بدافع نفسي قوي، يحدث هذا رغم أن المملكة الدنماركية بلد مسيحي، ولا أعتقد أن المسيحية وأي من مذاهبها الصحيحة تبيح هذه العلاقة غير الشرعية، يعتقد البعض من المسيحيين أن المسيح عليه السلام صلب على  الصليب، فكان بذلك فداءً لقومه، وأنهم مهما ارتكبوا من ذنوب في الدنيا لن يحاسبوا عليها، وذلك بالطبع لا تقره المسيحية الحقيقية التي لا يعرفها أحد.
قال لي أحد الأصدقاء العرب المقيمين هنا: "أن "الزواج" كحدث قرار لا يتخذ بسهولة، لأنه يعني المسئولية، ولا يقدم عليه إلا القادرون على تحمل هذه المسئولية، كذلك قرار الإنجاب، فهو من القرارات التي لا تتخذ بنفس السهولة، لأن ذلك يمثل مسئولية مضاعفة".
وإذا كان الزواج نفسه قليل،  فإن الطلاق والانفصال كثير، ففي ظل عدم وجود الروابط الوثيقة التي تربط عناصر المجتمع يصبح الانفصال سهلاً، وإذا حدث الطلاق أو الانفصال، لا مشكلة، تظل علاقة الأب بأطفاله علاقة جيدة، في كل أسبوع يأتي لمنزل مطلقته، ويأخذ أطفاله في نزهة، وتمضي الحياة بلا مشاكل.
في الطابق الأعلى من البناية التي كنت أقطن بها تقيم سيدة مطلقة لها ولدان، تعيش حياتها بهدوء، الابتسامة لا تفارق وجهها، زوجها السابق يأتي كل أسبوع بسيارته، ويأخذ أطفاله في نزهة أسبوعية في ضواحي المدينة، ثم يعيدهما في آخر اليوم.
ولكني لاحظت في الشعب الدنماركي حباً غير عادياً للأطفال، فإذا دفعت عربة بها طفل،  وتجولت في أحد الأسواق سوف تلاحظ –بشكل لا تجده في المجتمعات الأخرى- أن الجميع الفتيات والشبان وكبار السن يبتسمون له ويداعبونه، بل يستأذن بعضهم ويحمله ويداعبه،  ثم يعيده إليك مصحوباً بنظرة حنان غريبة، مما يؤكد الشوق الجارف للأمومة والأبوة، وربما يحدث هذا لأن سبل تحقيق هذه الأحلام ليست ميسرة وطبيعية، ولكن الغريب أنني لم أشاهد طوال إقامتي هناك حاملاً .. لماذا .. لست أدري ..؟

حكاية الشيخ مرزا
في تمام الساعة الواحدة والنصف ظهر يوم الجمعة وصلت إلى (مسجد الجماعة الأحمدية)، كانت فرصة كبيرة للتعرف على المسلمين هنا في كوبنهاجن، والصلاة معهم، والتعرف على أحوالهم، دخلت المسجد وكان الإمام عبدالمقصود يلقي خطبته باللغة الأردية.
صحن المسجد الدائري به عدد من المصلين لا يزيد عن الأربعين، بعضهم يجلس على كراسي داخل المسجد، والبعض الآخر يجلس على الأرض، استغربت ظاهرة الكراسي هذه، خاصة وأن الجالسين عليها ليسوا كلهم من كبار السن أو المقعدين ..!
بعد أن انتهى الإمام من خطبته أقيمت الصلاة، وكانت الصلاة غريبة، فهي أيضاً بالأوردو، الإمام يتلو ما يتلوه بترانيم غريبة تشبه ترانيم المسيحية، لم أسمع في الصلاة جملة عربية سوى آية قرآنية واحدة نطقها الإمام بلهجة عربية مكسرة.
بعد انتهاء الصلاة تلا الإمام عبدالمقصود بعض الأخبار بالإنجليزية، فهمت منها أنها إعلانات عن بعض أنشطة المسجد، بعد ذلك جلست مع المصلين وتعرفت عليهم، معظمهم من الباكستانيين المقيمين، بعد ذلك دعاني الإمام عبدالمقصود إلى مكتبه، المكتب أنيق يحتوي على صالون أسود اللون وجهاز تليفزيون وفيديو، على الجدار علقت لوحة بها عبارة (بسم الله الرحمن الرحيم) باللغة العربية بخط الثلث الذي يوحي بالعظمة وكبرياء الحروف، تجاورها لوحة تشكيلية سريالية لا تعني شيئاً، تتصدر الحجرة صور ثلاث كبيرة بالأبيض والأسود لأشخاص لا أعرفهم.
وبعد عدد من الأسئلة التي رد عليها عبدالمقصود بالتفصيل، علمت أن هؤلاء أتباع شخص اسمه ميرزا الواقيداني،  وهو هندي الجنسية مات في الخمسينات، ويلقب نفسه بالمسيح الموعود والمهدي المنتظر، يزعم الحاج مرزا الكثير من المزاعم الغريبة والخطيرة في الوقت نفسه، منها أن الوحي لم ينقطع بوفاة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وأن الوحي نزل عليه وطلب منه دعوة المسلمين للعودة إلى الطريق القويم، .. وغيرها من التخاريف.
المهم أن هذا الشيخ المزعوم مات منذ سنوات بعيدة، وله خليفته، والخليفة له نائب أول،  ونائب ثان، وحسب ما فهمت أن معظمهم قتلوا، ماعدا الأخير الذي فر إلى لندن، صورهم في المعلقة في صدر المكان،  أما التلفزيون فيعرض للمصلين بعد كل صلاة خطب منبرية مسجلة للإمام المزعوم،  أو أحد خلفائه.
قدم لي الإمام عبدالمقصود عدداً كبيراً من كتبهم باللغة العربية واللغة الدنماركية، وكلها تدور حول الجماعة "الأحمدية". وإمامها الضال الذي يدعي النبوة، وكتبه الضعيفة التي يحكي فيها نبوءاته ومزاعمه الكاذبة وهي :
1- معتقدات الجماعة الأحمدية الإسلامية ـ الجماعة الإسلامية الأحمدية
2- من أمجاد المسلمين ـ قصص قصيرة من صدر الإسلام ـ إعداد رشيد أحمد شودري ـ نقله عن الإنجليزية عبدالله أسعد عودة ـ الشركة الإسلامية
3- دعوة الأحمدية وغرضها    ـ لحضرة الإمام الفقيد الحاج ميرزا بشير الدين محمود أحمد
4- الإسراء والمعراج .. حقيقتهما ومغزاهما بقلم الأستاذ بشير الدين محمود أحمد
5- نظام الاقتصاد في الإسلام ـ لحضرة الإمام الفقيد الحاج بشير الدين محمود رضي الله عنه أحد مطبوعات التبشير "الأحمدية" –ربوة- باكستان ـ تعريب مبارك أحمد ملك
6- القول الصريح في ظهور المهدي المسيح ـ نذير أحمد ـ المبشر الإسلامي الأحمدي وأمين الجماعة الأحمدية في غانا – أفريقية العربية سابقاً.
7- نبذة من حياة أحمد مؤسس الجماعة الأحمدية والمسيح الموعود عليه وعلى مطاعه محمد الصلاة والسلام    بقلم الميرزا بشير أحمد ـ تعريب مبارك أحمد ملك     ـ الناشر وكالة التبشير للتحريك الجديد – بروة- باكستان الغربية.
8- حب العرب إيمان    الحديث (حمامتنا تطير بريش شوق    وفي منقارها تحف السلام) – مؤسس الجماعة الأحمدية ـ خطبة الجمعة لسيدنا حضرة أمير المؤمنين خليفة المسيح الرابع وإمام الجماعة الأحمدية أيده الله تعالى بنصره العزيز.
9- تفسير القرآن المجيد ـ سورة البروج والطارق والقارعة ـ الناشر الجماعة الإسلامية الأحمدية من تفسير القرآن المجيد الذي نشرته الجماعة الإسلامية الأحمدية تحت إشراف إمام الجماعة بشير الدين محمود رضي الله عنه الخليفة الثاني للمسيح الموعود والمهدي الموعود عليه السلام.
10- نبوءات لسيدنا أحمد عليه السلام يشكك فيها المعارضون ـ دراسة نقدية بقلم نعيم عثمان ميمن ـ ترجمة المرحوم محمد حلمي الشافعي ـ الشركة الإسلامية المحدودة.
11- معجزة فلكية ـ النبوءة المحمدية العظمى التي تحققت عام 1894 ـ الشركة الإسلامية المحدودة – الجماعة الإسلامية الأحمدية.
12- أليست الأحمدية جماعة مسلمة بقلم أ. س. موسى ـ الشركة الإسلامية الدولية .
13- فلسفة تعاليم الإسلام ـ سيدنا ميرزا غلام أحمد القادياني ـ الإمام المهدي والمسيح الموعود عليه السلام ـ الشركة الإسلامية المحدودة.
14- الإسلام والتحديات المعاصرة ـ حضرة ميرزا طاهر أحمد ـ ترجمة الحاج محمد حلمي الشافعي ـ الناشر الشركة الإسلامية
15- القتل باسم الدين    ـ حضرة ميرزا طاهر أحمد
16- تحليل وتفنيد اتهامات وافتراءات صبور وعلمائه ضد حضرة الإمام المهدي والمسيح الموعود مؤسس الجماعة الإسلامية الأحمدية.
ولننظر معاً ماذا يقول الشيخ ميرزا – عاقبة الله – في كتبه ونتعجب ..
(في كتاب (حياة أحمد) يتحدث المؤلف عنه فيقول:
(ولما حانت وفاته عليه السلام! توالت عليه الأخبار السماوية بقرب وفاته، وكانت هذه الأخبار بكثرة لو تلقاها أحد من الناس لاختل كيانه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت لكنه عليه السلام بما كان على اتصال وثيق مع الله وإيمان قوي بالحياة والآخر كأنه يراها عيانا، وظل عاكفاً على خدمة الإسلام)
وفي فقرة أخرى يقول:
(فقدّر الله هذه الصلة "المقدسة" وهذا الحب السامي بما يليق برحمته الواسعة وتقديره الذي ليس له مثيل وخاطبه قائلاً:
"أنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي، أنت مني بمنزلة ولدي، إني معك يا ابن رسول الله"
أي أنت – الكلام للكاتب – حامل لواء التوحيد ومسترد مجده ومؤصله في العالم، لأجل ذلك أيها المسيح المحمدي أنا أحبك كما أحب توحيدي وتفريدي)
وفي موضع آخر يقول:
(وكان المؤسس عليه السلام أيضاً حسب الطبيعة البشرية يفكر في مستقبله بعد وفاة أبيه، لكن إله الإسلام هو الصادق الوفي المقدر لمساعي عباده شرف هذا الموظف الإلهي قبيل وفاة أبيه بوحي عظيم وطمأنه قائلاً:
"أليس الله بكاف عبده"
وكان المؤسس عليه السلام كثيراً ما يذكر هذا الوحي، ويحلف أحياناً أن هذا الوحي كان من القوة والجلال بمكان
"وكان وقعه في أعماق قلبي أشد وأرسخ من وقع الفولاذ، وبعد ذلك كلفني الله كفالة لم تكن بإمكان أب أو قريب أو أحد الأصدقاء، وتوالت على النعم ما يستحيل أن أعده أو أحصيه" ..)
وفي موضع آخر يقول الكتاب:
(وزد على ذلك ما حدث عندما هلك عدو الإسلام رقم 1 باندت ليكرام الهندوكي حسب ما أنبأه الله من قبل، فعندئذ كما سر حضرته بأن نبأ الله عز وجل قد تحقق وظهرت آية عظمى لصدق الإسلام كذلك نأسف على أنه هلك محروماً من الإيمان بالحق كما قال حضرته.
"إن قلبنا اليوم بحالة غريبة خليطة بعواطف التألم والسرور لأن ليكرام لو تاب على الأقل امتنع عن كلامه المقذع –فوالله- لعاش بدعائي حتى ولو كان مقطعاً إرباً إرباً"
وعند حديثه عن زوجة هذا المسيح المذعوم يقول:
"إن زوج حضرة المسيح الموعود عليه السلام كانت تمتاز بأن زواجها تم حسب مشيئة الله وإرادته، والميزة الثانية لهذا الزواج المبارك أنه حصل في 1881م السنة التي ادعى فيها المسيح الموعود عليه السلام بالمجددية، ثم هذه الزوج المطهرة ظلت رفيقة حياته طوال فترة النبوة)
وفي نهاية الكتاب يقول:
(وآخر دعوانا أن الحمد لله)
وفي كتاب (دعوة الأحمدية وغرضها) نقرأ الآتي
(دعوة أحمد المسيح الموعود وغرضها الأسمى:
وإن تلك الغاية المثلى التي جاء أحمد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام لينفذها في الأرض ويجعل بأهل الأرض أن يسيروا بمقتضاها لكي يتدينوا بدين واحد وتخضع قلوبهم لأحكام الإسلام، فيتبوأ رسولهم الكريم محمد صلى الله على عرشه الروحاني مرة ثانية، ذلك العرش الذي انقض عليه الشيطان بجميع قواته وهاجمه من داخله وخارجه لينزله عنه، وينتزعه من يده، وقد بعث الله حضرته للذود عنه وللمحافظة على كيانه)
وفي مكان آخر نقرأ هذا الكلام الخطير:
( فيا أحبائي لقد كان قيام الجماعة الأحمدية حسب سنة الله مستمرة،  وطبقاً لما أنبأ به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبل زمننا هذا، فإذا كان انتخاب أحمد المسيح الموعود لا يناسب هذا الأمر فتبعته على الله سبحانه، إذ ما ذنبه هو بان انتدب لذلك)
وفي مكان آخر يقول:
(عقيدة الأحمدية في عدم انقطاع الوحي والمكالمة الإلهية:
ولكن الفتنة نزلت بالمسلمين منذ قرن،  وأصيبوا بعاهة في اعتقادهم ذلك، إذ أنكروا الوحي بتاتاً، وزعموا انقطاعه، حتى أن بعض المشايخ قد أفرطوا في هذا الإنكار، حيث أفتوا بتكفير من اعتقد باستمرار الوحي، ولقد كان القوم على هذه الحال، وإذا بالمسيح الموعود عليه الصلاة والسلام يفاجئهم بدعواه ويقول: "إن الله يوحي إليه ويكلمه" ..).
وفي كتاب (معجزة فلكية ..) هذه النبذة عن المسيح المزعوم ..
(في منتصف العقد الثامن من القرن التاسع عشر، أعلن حضرة ميرزا غلام أحمد أن الله تعالى قد اختاره مجدداً للدين الإسلامي، ثم أخبره تعالى بأنه الإمام المهدي الذي حدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بأنه المسيح الموعود به للأمة الإسلامية،  وأخبره كذلك أنه هو المقصود من نبوءات الهندوس عن ظهور كرشنا، كما أنه أيضاً بوذا البوذيين وميسيو للزرادشتيين، أي أن كل تلك النبوءات المختلفة التي جاءت معرفة في أديان الأرض جميعاً قد تحققت في فرد واحد جاء من بين المسلمين)
وفي نهاية كتابه يقول:
(وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين، واللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وعلى عبدك المسيح الموعود وبارك وسلم)
وفي معظم الكتب التي أصدرتها هذه الجماعة، يوجد في نهاية كل كتاب "شروط الانضمام إلى الجماعة، وهي:
(شروط المبايعة للانضمام إلى الجماعة
معرباً من كلام أحمد المسيح الموعود عليه الصلاة والسلام
أن يتعهد كل مبايع من صميم فؤاده:
1- أنه يتجنب الشرك حتى يدخل القبر ويواريه الثرى.
2- أنه لا يقرب الزنى، ويتجنب قول الزور، وخيانة الأعين، ويحترز من جميع أنواع الفسق والفجور والظلم والخيانة، ويتنكب عن طرق البغي والفساد، ولا يدع الثوائر النفسانية تتغلب عليه مهما كان الداعي إليها قوياً وهاماً.
3- إنه يواظب على الصلوات الخمس بالالتزام تبعاً لأوامر الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، ويداوم جهد المستطاع على إقامة التهجد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب العفو من ربه على ذنوبه والاستغفار، ويذكر كل يوم نعمه ومننه بخلوص قلبه، ثم يشكره عليها ويتخذ حمده والثناء عليه ورداً له.
4- أنه لا يؤذي أحداً من خلق الله عموماً والمسلمين خصوصاً بثوائره النفسانية لا بيده ولا بلسانه،  ولا عن طريق آخر.
5- أنه يكون مخلصاً لله تعالى وراضياً بقضائه في جميع الأحوال، حالة الترح والفرح والعسر واليسر والضنك والنعم، ويكون مستعداً لقبول كل ذلة وهوان وتحمل كل مشقة وعناء في سبيله ولا يعرض عنه عند حلول مصيبة أو نزول بلية، بل يمشي إليه قدماً.
6- إنه ينتهي عن ابتاع الرسوم والعادات والأهواء والأماني الكاذبة، ويقبل حكومة القرآن المجيد على نفسه بكل معنى الكلمة، ويتخذ قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم دستورا لعمله في جميع مناهج حياته.
7- إنه يطلق الكبر والزهو طلاقاً باتاً، ويقضي أيام حياته بالتواضع والخضوع ويقابل الناس بالبشر ويعاملهم بالحلم وحسن الخلق.
8- إنه يكون الدين وعزه ومواساة الإسلام أعز عنده من نفسه وماله وأولاده ومن كل ما هو عزيز لديه.
9- إنه يواسي جميع خلق الله تعالى،  ويعطف عليهم ابتغاء لمرضاته، وينفق بقدر الإمكان كل ما رزقه الله من القوى والنعم في خير أبناء جنسه ونفعهم.
10- أنه يعقد مع هذا العبد (المسيح الموعود عليه السلام) عهد الأخوة خالصا لوجه الله تعالى على أن يطيعني في كل مرة ما أمره به في المعروف، ثم لا يحيد عنه ولا ينكثه حتى الممات، ويكون هذا العقد بصورة لا تعدلها العلائق الدنيوية سواء كانت علائق قرابة أو صداقة أو عمل)

ومن ضمن الكتب التي تسلمتها من عبد المقصود جزءان من مجموعة مجلدات تضم تفسير الشيخ ميرزا للقرآن الكريم، وعندما سألت عن البقية قال لي عبدالمقصود: "إنه سوف يرسلها لي بالبريد لأنها ترسل من لندن".
كتبت له عنواني في السعودية،  فأخبرني أن الكتب لن تصل في هذه الحالة، فتذكرت أن هذه الكتب لابد وأن تكون ممنوعة في السعودية، فكتبت له عنواني في القاهرة، وكتب عبدالمقصود عنواني باهتمام، عرضت عليه أن أرسل له كتباً عن الإسلام من السعودية بلغات مختلفة، ولكنه اعتذر،  وعلل ذلك بأنه لا ينقصهم أي كتب.
على مر التاريخ ظهر العديد من الأشخاص ادعوا النبوة، وزعموا أن الوحي اصطفاهم لكي يهدوا البشرية وينقذوها من الضلال، أيضاً ادعى أكثر من شخص أنه المهدي المنتظر، من أيام مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن الردة بعد وفاته، وانتهاءً بالشيخ بريقع الذي ادعى النبوة في مصر منذ سنوات.
وفي كل الأحوال تقوم الشرطة بواجبها فتقبض على هؤلاء وتزج بهم في السجن وتشبعهم ضرباً حتى يظهر لهم صاحب،  ويعود لهم رشدهم وعقولهم.

أين العقيدة ..؟
تحتوي كوبنهاجن على عدد قليل من المساجد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، ولكن المشكلة أنني لاحظت أن عدداً من هذه المساجد لا تمارس الدين الصحيح، فبعضها واقع تحت سيطرة مذاهب ونحل غريبة مثل المركز الإسلامي الذي تسيطر عليه جماعة الأحمدية، والغريب أيضاً أنني وجدت مسجداً في حي فودوفغا على بابه كتبت بالإنجليزية عبارة Al Tareka Alborhania Alshazlya (الطريقة البرهانية الشاذلية)، فقلت في نفسي .. حتى الطرق الصوفية وصلت هنا ..!!
بالتأكيد ما دامت هذه اللافتة هنا،  فلابد أن هناك تصريح من الجهات المسئولة بوجود هذه الجماعة الصوفية المسلمة، من الواضح أن الحكومات الغربية تتعامل مع هذه القضية من منظور خاص، حيث تعتبر حرية العبادة من أبجديات حقوق الإنسان، هذا يفسر كون "لندن" مثلاً أصبحت مأوى لكل الفرق والجماعات الدينية والسياسية والمعارضة من جميع أنحاء العالم، حتى يخيل لي أحياناً أنه إذا تقدم شخص للأجهزة هناك يخبرهم فيها أنه يعبد "النملة" ، ويطلب منهم الموافقة على افتتاح مقر لذلك سيوافقون على الفور ..!
وعلى الرغم من عدم توفر معلومات دقيقة عن عدد المسلمين هنا إلا أنك ستلمس بسهولة أن هذا العدد غير قليل، يتضح ذلك من نشاط المسلمين،  ومنهم جماعة الوقف الإسلامي التي تقيم الأنشطة على مدار العام، أيضاً محلات البقالة والجزارة الإسلامية، فكثيراً ما تطالعك عبارة (حلال) بالعربية والإنجليزية ضمن عناوين المحلات مثل Mustafa, S Halal, Anadolu Halal Slagter، تحت هذه العناوين عناوين باللغة العربية مثل (لحم حلال، لحم بقر، لحم خراف، لحم عجل، لحم دجاج، مرتديلا)، وليس غريباً أيضاً أن تفاجأ بلوحه كبيرة بالعربية تقول (بقالة الأمانة الإسلامية) في قلب كوبنهاجن، أيضاً معظم صالونات الحلاقة يديرها عرب وخاصة الأتراك مثال هذا المحل وعنوانه – Frisor Ankara.
عندما تدخل صالون الحلاقة ستشعر أنك داخل محل حلاقة عربي 100%، على المرايات عبارة عربية مثل (أهلاً وسهلاً)، وعلى الحوائط رسومات وآيات إسلامية، ولكن الجديد هنا أنهم يقدمون لك أقداح القهوة مجاناً، أيضاً تطالعك وجوه المحجبات في الأسواق والمحلات.
وفي التليفزيون أيضاً لفت نظري في أحد البرامج التليفزيونية في القناة الثانية وجود فتاة محجبة، وبمتابعة البرنامج التلفزيوني اكتشفت أن هذه الفتاة المحجبة مسلمة، وتعمل ممرضة أو طبيبة في أحد المستشفيات، أخبرني صديق عن رجل دنماركي مسلم كرَّس حياته لخدمة الإسلام، افتتح مكتبة إسلامية في قلب العاصمة لا يبيع فيها إلا الكتب الدينية والإسلامية.
ورغبة مني في معرفة معلومات أكثر عن المسلمين هنا سألت عن أحد الشخصيات المسلمة التي تعرف العربية، فأرشدوني عن شخص يدعى عبدالسلام ميدسن، وهو الشخص الذي قام بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الدنماركية، وبعد جهد جهيد حصلت على رقم هاتفه، وعندما اتصلت به ردت علي سيدة عجوز،  وأخبرتني أنه ليس موجوداً ، وأخذت رقم هاتفي وأخبرتني أنه سيتصل بي، بعد دقائق رن جرس الهاتف في منزلي،  وكان المتحدث السيد ميدسن شخصياً، عرفته بنفسي ورغبتي في معرفة معلومات عن المسلمين هنا.
 في بداية المكالمة أخبرني أنه يتحدث العربية كما أنزلت، ولكني تعجبت عندما انتهت المكالمة باعتذاره عن الحديث لأنه لا يجيد العربية ..!، ولا أدري هل خاف الرجل من الحديث مع صحفي شرق أوسطي مجهول؟، أم ماذا؟، أعطاني عبدالسلام رقم تليفون أحد المساجد في كوبنهاجن علّني أجد من يتحدث العربية، وبالفعل اتصلت بالمسجد،  ولكن فشلت كل محاولاتي في إيجاد شخص يتحدث اللغة العربية.
أما الكنائس فهي كثيرة، منها ما هو تاريخي قديم، ومنها ما هو حديث، الكنائس القديمة تعرفها من طرازها المعماري الذي يميل إلى القدم، ترى في حدائقها المقابر محاطة بالورود والزروع، والشواهد الرخامية العالمية، أما الحديثة فلا توجد بها مقابر، ولكن المشكلة لم تكن في دور العبادة، ولكنها كانت في العقيدة نفسها، فقد لاحظت أن عدداً كبيراً من الدنماركيين بلا دين، بمعنى أنهم لا يعتقدون بوجود الأديان، حتى أن بعض المواليد يدونون في شهادات الميلاد بصفة "بلا دين"، وهذه قضية خطيرة أزعجتني،  وأرقت مضجعي طوال هذه الرحلة.
في كل نقاش كنت أتحين الفرصة لأفجر هذه القضية، وأبذل قصارى جهدي لإثبات خطأ معتقديها، وأوضح لهم أن الإسلام هو رسالة الله إلى البشر، وأنه الدين الوحيد الذي أجاب على أسئلة النفس الإنسانية،  وأنهي حيرتها إلى الأبد، وأيضاً رغم إنجليزيتي العادية،  حاولت أن أثير في أذهانهم الأسئلة من جديد،  وأقنعهم أن إجاباتهم السابقة ليس مسلماً بها، وأن أوضح لهم أن الأمر يحتاج إلى تفكير جديد.
ومن الشخصيات التي استهدفتها بهذا الحوار "كاتارينا"  الفتاة الدنماركية الصديقة، وفي خضم المناقشة سألت كاتارينا أسئلة غريبة منها .. لماذا خلقنا الله؟ ..، وما هي الحكمة في ذلك؟، وبعد نقاش طويل ومداخلات عدة استعنت فيها ببعض الكتب التي تتحدث عن الإسلام بالإنجليزية،  ونسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم بالإنجليزية، اكتشفت أن هؤلاء تنقصهم المعرفة، نعم المعرفة، ولو وجدت هنا الدعوة الإسلامية الصحيحة سيقتنعون بها ، ويسارعون إلى الإسلام، لذا تبرز أهمية تضافر الدول الإسلامية لإرسال الدعاة إلى هذه المجتمعات البعيدة التي تريد أن تعرف الله ..!
إن الإسلام لو يوجد وينتشر إلا بالدعوة، ولو كان الله تعالى أرادنا أن نكون مسلمين فوراً لخلقنا كذلك، ولقال تعالى "كن فيكون"، ولكنه تعالى أنزل كتابه الكريم على رسوله الأمين وأمره بالدعوة، ولكن "الدعوة" كعمل وفعل الآن بمعنى دعوة الغير إلى الإسلام توقفت، وهي أمر إلهي يجب أن يستمر.
الدعوة الإسلامية يجب أن تستمر، ويخصص لها المال والرجال، من المؤسف أن نرى الدول الغربية تنفق سنوياً مئات المليارات من الدولارات على التبشير في جميع أنحاء العالم،  بينما نحن قابعون في بيوتنا نكتفي بالخطب والمواعظ، إن الغرب ينفق على التنصير مبالغ طائلة كل عام ويجمع التبرعات بالملايين، ويرسل رحلات التبشير المدعمة بالمال والإمكانات إلى إفريقية ومعظم دول العالم، ومن الأمثلة القليلة على ذلك أنهم قاموا ببناء الكنيسة الكاثوليكية في ساحل العاج وهي Notredame De Lapia والتي تكلف بناؤها أربعمائة مليون دولار أمريكي.
ومن المؤسسات التنصيرية الشهيرة في أوروبا مؤسسة تدعى (جيش الخلاص المريمي) أسسه قس وزوجته عام 1878، ومقره الرئيسي لندن، وتعمل المؤسسة في 103 دولة في العالم، وتتلقى تبرعات هائلة من جميع أنحاء العالم، وقد بلغ دخل فرعها في أمريكا وحدها عام 1998م 1.9 مليار دولار.
يجب أن تتحمل الأمة الإسلامية مسئولياتها ، وأن يتحمل حكام المسلمين خلافتهم لله في أرضه،  وأن يقودوا الدعوة الإسلامية في كل مكان، يجب أن تتسلح "الدعوة" بمستحدثات العصر من تقنيات وفضائيات وانترنت، وأن نتبنى مصطلح "الدعوة المثقفة" ، أي الدعوة التي تحيط بالعلوم والثقافات والسياسات والظواهر العالمية، دعوة قادرة على محاورة إنسان العصر المقبل، حتى يتم الله نوره ولو كره الكافرون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يهدي الله بك رجلاً إلى الإسلام خير لك من الدنيا وما فيها)

ليلة في العراء
في شارع (Stroget) استوقفني مشهد غريب .. خمسة من الفتيات والشباب يفترشون الأرض أمام خيام صغيرة، يلتحفون الشراشف، ومنامات مثل المنامات التي كنا نستخدمها أيام التجنيد، شاب يقرأ كتاباً ، وفتاة تأكل المكرونة من وعاء موجود أمامها، وآخرون يتحدثون، أمام الخيمة لوحة صفراء اللون عليها كتبت العبارة التالية  Over 6000 stude rende mangler bolig 1 Kobnhavn  ومعناها (هناك أكثر من 600 طالب وطالبة يعيشون في مساكن ضيقة غير مناسبة .. يا حكومة .. انتبهوا ..)، وعلى الخيمة هناك لوحة صغيرة مكتبو عليها GIVOSet STedat BO .
إذن هؤلاء الطلبة يبيتون في العراء بهذه الصورة تضامنا مع زملائهم الطلبة الذين يعيشون ظروفاً صعبة في شقق ضيقة غير مناسبة، تذكرت شقة كاتارينا الصغيرة الأنيقة وتساءلت في نفسي: "كم من المسلمين في أنحاء العالم لا يجدون كسرة الخبز،  ولا القماش الذي يستر أجسادهم، كم من المسلمين يفترشون العراء،  ويسكنون المقابر بلا أدنى شعور بالرحمة والتعاطف"، هؤلاء الطلبة بادروا بهذا الاحتجاج السلمي الطريف،  ليلفتوا نظر الحكومة الدنماركية للمشكلة التي يعيشها زملاؤهم، أما نحن فماذا فعلنا؟
صافحت الطلبة الجالسين على الأرض،  وتعرفت عليهم واحداً وواحداً، وعرفت أهدافهم،  وعبرت لهم عن تقديري لهذه المبادرة الإنسانية الجميلة، ووعدتهم بالكتابة عنها ليعرف القارئ العربي أن الشباب الدنماركي يملك رأيه،  وموقفه،  وقادر على أن يعلن عنه بشتى الصور.
دعتني المجموعة للجلوس فجلست معهم في قلب الشارع نتبادل أطراف الحديث، ورفعت بنفسي اللافتة التي تذكر الحكومة بمشكلة الطلبة الدنماركيين،  وأنا أحلم بأن يأتي اليوم الذي أرفع فيه مثل هذه اللافتة في كل مدينة عربية دون مطاردة من الشرطة،  أو مباحث أمن الدولة،  لأذكر حكومتنا بمأساة الفقراء والمشردين وذوي العاهات الذين يفترشون العراء في الكثير من مدننا العربية ..

الشحاذة بالموسيقى والبانتومايم
إذا مشيت في شوارع كوبنهاجن سترى أشياء غريبة، ففيها لا يوجد شحاذون بالمعنى المعروف، ولكن يوجد شحاذون من نوع آخر، ربما لا يتفق معي البعض في تعبير "الشحاذة" هنا، كما لا يتفق ضميري، ولكن صدقوني لا أجد تسمية أخرى لها.
والشحاذون هنا ليسوا كما نظن فقراء ومساكين، أعمى يتلمس طريقه، أو ذا رجل مقطوعة،  أو سيدة عجوز تعترض طريقك وتقول "لله يا محسنين .. حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة" .. لا الوضع هنا مختلف تماماً، فالشحاذون هنا يرتدون الملابس الأنيقة، ويدخنون أفخم أنواع السجائر، شباب أو فتيات تجدهم أمامك في الشارع يطلبون "الحسنة" .. ولكن بطرق أخرى ..
في شارع  (Stroget) وهو شارع الفن، أحد الشوارع الرئيسية تجد شاباً ذو ملامح أسيوية يجلس على كرسي على جانب الطريق،  وفي يده آلة تشبه الربابة، يعزف عليها في هدوء معزوفات جميلة، وأمامه حقيبة مفتوحة، يقف المارة حوله يستمعون إلى عزفه،  ومن يستحسن منهم العزف يضع له في حقيبته المفتوحة عملات معدنية من الكرونا، ولك الحرية في أن تقف لتستمع،  وتمضي دون أن تدفع شيئاً..
مشهد آخر لسيدة جميلة ممتلئة، شقراء، ذات ملامح رومانية، تجلس على مقعد في الشارع جلسة لا تخلو من الأرستقراطية، في يدها آلة الأبوا تعزف عليها معزوفات حزينة، وأمامها أيضاً الحقيبة التي تتلقى بها "الحسنة" من المارة المستمعين ..
مشهد آخر لرجل ستيني يفترش الأرض على سجادة طويلة فارداً قدمه اليمنى أمام المارة، وفي يده آلة موسيقية خشبية عجيبة الشكل يسندها بقدمه، يعزف عليها بطريقة النفخ، وعن طريق النفخ المتواصل تصدر الآلة صوتاً غريباً أشبة بالمؤثرات الصوتية السينمائية، ولا شك أن مثل هذه الآلة وشكلها غير التقليدي قادران على جذب عدد لا بأس به من المارة ليقفوا ويستمعوا إلى العزف الغريب،  ويضعوا في حقيبة الرجل العملات المعدنية.
وليس شرطاً أن يكون العازف شخصاً، ربما تكون فرقة كاملة تقف في أحد الشوارع أو الميادين، بها عازف للأورج وعازف للكمان وعازفة عود، فهذه مثلاً فرقة يرتدي أعضاؤها عباءات ذات لون متحد مميز، ملامحهم وأزياؤهم تدل على أنهم من المكسيك، يعزفون في الشارع معزوفات جماعية جميلة، والمارة يقفون في دائرة كبيرة حولهم يستمعون، ويعبرون عن إعجابهم بالتصفيق والنقود، والحقيبة الموجودة أمام الفرقة على الأرض والتي يتلقون فيها "الحسنة" يوجد بها عدد من الـ CD)) مسجل عليها بعض أعمال الفرقة، سعر الـ (CD) الواحد 100 كرونه.
وهكذا وأنت تمشي تقابلك الوجوه ..، هذه فرقة أخرى ملامحها إيطالية تقدم أعمالها في أحد الشوارع، قائدها منعكف على العزف على الأورج باهتمام شديد كأنه في مهمة وطنية، بينما تجلس فتاة جميلة على كرسي ممتلئة القد، تحتضن في صدرها بحب آلة موسيقية تشبه القيثارة، تطلق بها عزفاً ذا رنين مميز، أما زميلهم الثالث فيعزف على آلة كبيرة غريبة الشكل تشبه الجيتار، وأمامهم الحقيبة التي تحتوي عدداً من السيديهات الغنائية.
ومن الواضح أن أغلب هؤلاء العازفين من الأجانب، يظهر ذلك من ملامحهم وأزيائهم أيضاً موسيقاهم، لذلك لا تندهش عندما تجد شاباً أسود ذو ملامح أفريقية يقف وحده في الشارع،  ويقرع بيديه على طلبة معلقة في  رقبته،  ويغني بصوت عال، وأمامه الحقيبة التي يجمع فيها "الحسنات".
وفي نفس الاتجاه تجد عجوزاً يرتدي ملابس تراثية مميزة يقف في منتصف الشارع يعزف بأصابعه وفمه على آله تشبه الناي.
وليس الأمر مقتصراً على العزف،  ولكنه يمتد ليشمل مظاهر فنية أخرى، مثلاً يقابلك شاب يطلي وجهه بطلاء أبيض وأحمر كالبلياتشو ، وفي يده كرات يلعب بها، ويؤدي حركات مثل حركات البانتومايم التي اشتهر بها الفنان المصري أحمد نبيل، وهذا شاب آخر يقف في منتصف الميدان،  ويتجمع حوله عدد كبير من المارة في دائرة كبيرة، يؤدي هذا الشاب حركات كوميدية تدفع الناس إلى الضحك، ويقهقه الناس أكثر عندما يقوم الشاب بتقليد المارة سواء أكان رجلاً أم سيدة في مشيهم وحركاتهم ببراعة فائقة.
وهذا شاب يبيع البالونات، ولكنه ابتكر طريقة طريفة لجذب الزبائن، يحمل منفاخاً في يده ويقوم في ثوان بنفخ عدد من البالونات الملونة، ويصنع منها بيديه وبمهارة عالية قلوب وميكي ماوس وأشكال أخرى طريفة، هو لا يبيعها بالمعنى المعروف، ولكنه يصنع لك شكلاً بالبالونات من بينها شكل قبعة،  وتقدم إليه أنت ما تستطيع من نقود.
بالطبع هذا نوع من الشحاذة، ولكن يمكن القول أنها الشحاذة الراقية، شحاذة بمقابل، تمنح هؤلاء نقودك مقابل الفن الذي يقدمونه، فن تقف بكامل إرادتك لتستمع إليه ..
ربما يرى البعض في هذا الموضوع تفسيراً آخر، كأن يقول أن هؤلاء فنانون مغمورون يريدون تقديم فنهم للناس، ولا ضير أن يكون ذلك بمقابل، ولكن مع ترحيبي بنزول الفن للشارع والالتحام بالناس، ومع أن مجتمعاتنا العربية توجد بها مظاهر شبيهة كالحاوي والسيرك مثلاً، إلا أنني وللحق لم أستسغ أن يقف الفنانون ليقدموا الفن بهذه الطريقة التي لا تخلو مهما تحلينا بالدبلوماسية من الاستجداء، عموماً هذا رأيي..
ولكن الجميل أن هؤلاء الفنانون الشحاذون لا يتعرضون لأي مضايقات، فلا الشرطة تمنعهم وتجمعهم في "البوكس"، ولا الأطفال يلاحقونهم بالطوب، جميع المارة يرحبون بهم ويبتسمون،  ويقفون احتراماً لما يقدمونه، ويعبرون عن إعجابهم بالتصفيق والنقود المعدنية.
وإن كنت قد صادفت حالة واحدة اقترب فيها شرطيان من أعضاء الفرقة، وهمسا إليهما بأدب ببعض الكلمات، فهمت منها أنهما يطلبان منهم التوقف عن العزف، وبدا أن الشرطيين ينظران إلى ساعتيهما، ففهمت أن هناك وقت مخصص للعزف، وأن الشرطيين ينبهان الفرقة لذلك.
في نفس الاتجاه تقابلك في شوارع كوبنهاجن مظاهر فنية أخرى، مثلاً رجل ذو ملامح عربية يجلس على كرسي في الشارع، وأمامه فتاة تجلس على كرسي مقابله، الرجل يرسم بالقلم وجه الفتاة رسماً كاريكاتورياً، ويقوم بإنهاء الرسم في مدة لا تزيد عن 5 دقائق، وسعر اللوحة كما هو معلق على لافتة 50 كرونا.
شاب آخر ذو ملامح عربية أيضاً يفترش الأرض بمجموعة من اللوحات الطريفة، وعلى كل لوحة سعرها الذي يتراوح بين 50 : 100 كرونا، والصور إما لمهرج ضاحك، أو لأطفال يلعبون ، وغيرها من الصور التعبيرية الطريفة التي يمكن أن تعلق في منزلك لتضفي لمسة من الفن والجمال، شاب آخر يحمل في يديه باقات جميلة من الورود ، ويعرض على الجمهور باقاته، والباقة بـ 30 كرونا ..
شاب آخر يفرش لوحاته على الأرض، يرتدي على وجهه قناعاً غريباً يشبه الأقنعة التي يتم ارتداؤها في الحرب الكيماوية، اخترع هذا الشاب وسيلة جديدة للرسم، حيث يستطيع في دقائق قليلة رسم لوحة باستخدام مادة تشبه "الدوكو"، ويستخدم في ذلك رشاشاً صغيراً كالذي يستخدم في دهان السيارات، ويقبل على هذا الشاب ولوحاته عدد لا بأس به من المارة لغرابة الطريقة التي يرسم بها، ويتراوح سعر اللوحة بين 50 ، 100 كرونا،.
 وكما أشرت من الواضح أن معظم هؤلاء من الأجانب غير المقيمين في الدنمارك، ولو كانوا من المقيمين بها لعملوا في مهن أخرى أفضل،  لأن الإقامة الرسمية تتيح للمقيم ذلك.

مافيا روسية
وكما يوجد الفنانون الطيبون الذين يبحثون عن رزقهم بالطرق المشروعة يوجد أيضاَ النصابون، في أحد الأيام استوقفني شاب أسود قال لي بالإنجليزية : "I'am hangry" فقلت له: "وماذا تريد؟"، قال: "أريد مالاً"، فأجبته: "وأنا أيضاً جوعان .. انتظر حتى يأتي أحد ليعطيا مالاً"، فتراجع الشاب بعد أن فهم أنني كشفته، فقلت : "له من أين؟"، فأخبرني أنه من جنوب إفريقيا.
في مكان آخر وفي وسط الشارع فوجئت بشاب ذو ملامح روسية يجلس القرفصاء على الأرض، يتجمع حوله المارة وقوفاً، ماذا يفعل الشاب؟، إنه يلعب الورق على الأرض، والورق يعني عندنا الثلاث ورقات، وهي لعبة شعبية تكثر في موالد أولياء الله الصالحين، رغم أنها مقامرة،  والمقامرة حرمها الإسلام.
المهم أخونا الفهلوي يلعب الثلاث ورقات على الأرض،  ويشير إلى الواقفين،  ويسألهم .. أين البصرة ..؟، فيشير أحدهم،  ويضع مبلغاً على ورقة معينة، فإن كانت هي فاز وحصل على مثلها، وإن لم تكن هي خسر وفقد المبلغ، وبعد دقائق تشتعل المنافسة،  ويزداد حماس المتابعين الواقفين فيتداخلون للمقامرة، أما الفائز فأحياناً يكون من المارة الواقفين، وفي أحيان كثيرة يكون الرجل الروسي نصابا، والمبالغ المقامر بها تتراوح ما بين 200 كرونا: 500 كرونا في المرة الواحدة.
في زحام التجمع اقتربت صبية باسمة لتسأل النصاب أحد الأسئلة،  فنهرها بصفاقة بإنجليزية مدرسية قائلاً: "Children do not play" أي "الأطفال لا يلعبون)، لاحظت وجه الصبية الذي أحمر خجلاً ..
عندما لاحظ الروسي المقامر أنني أهم بتصويره رفع يده قائلاً: "No photing" أي "لا تصوير"، فتظاهرت بتلبية طلبه، ولكن رغبتي في التقاط الصورة كان أقوى، فغافلته وانتقلت إلى زاوية أخرى لا يراها والتقطت الصورة، وعندها لاحظت أن أحد الواقفين استشاط غضباً وأشار لزميله علي، عندها أدركت أن هذا الرجل يمكن أن يكون أحد مساعدي المقامر، فسارعت بالاختفاء في الزحام، وانتقلت إلى مكان آخر بسرعة، ثم دخلت فجأة أحد المحلات، وذلك هرباً من مواجهة هذا الشخص الذي ربما يكون عضواً في المافيا الروسية، ويطلق النار على جبهتي كما يحدث في الأفلام الأجنبية، ونجحت في الهرب، والجري نصف الجدعنة كما يقول المثل المصري الطريف.
أحد الأصدقاء عندما رويت له القصة أخبرني أنني أحسنت بالهرب، لأن هذا المقامر النصاب عادةً ما يكون حوله مجموعة من المساعدين الذين يساعدونه في النصب على السياح والمواطنين، وذلك بتمثيل دور السياح المقامرين الفائزين، وأن معظم الذين يكسبون هم هؤلاء المساعدون الذين يغرون الآخرين بالمقامرة، أخبرني صديقي أن حصيلة هؤلاء تصل إلى آلاف الكرونات في اليوم الواحد.
مثال آخر للنصب رأيته عندما استوقفتني فتاة جميلة، وعرضت على قائمة لمتبرعين والمبالغ التي تبرعوا بها، والغرض مساعدة الفقراء في نيجيريا، وكل متبرع يكتب المبلغ الذي تبرع به في خزانة واسمه في الخانة الأخرى، هكذا بكل بساطة، لا إيصال رسمي ولا أوراق معتمدة، أمام إلحاحها تبرعت بـ 20 كرونا وكتبت اسمي وأنا صادق النية والصدقة لله.
يا لها من طريقة سهلة للتكسب، ترى كم من الناس في عالمنا العربي يمارسون هذه الطريقة؟، بالمناسبة هل تعلمون شيئا عن فقراء نيجيريا ..؟

الدرجة الثالثة
ووسائل المواصلات في الدنمارك كثيرة متنوعة، فهناك القطارات التي تقطع البلاد شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، وتصل بين أحياء المدينة المتجاورة، وهي تعتبر الوسيلة الرئيسية للانتقال، وتعتبر هيئة المواصلات الدنماركية DSB)) من أنجح الهيئات وأكثرها تميزاً حيث تقدم الخدمة العالية للجمهور، فالقطارات فخمة، عرباتها أشبه بمقاعد الدرجة الأولى في الطائرات، الكراسي الكبيرة المريحة، الأبواب التي تفتح أتوماتيكياً بمجرد الوصول للمحطة وتغلق بعد ثوان، وإن كان يمكنك فتحها يدوياً بزر خاص، في كل محطة وكل رصيف لوحات ألكترونية متغيرة توضح الخط،  واسم القطار، وتوضح عدد الدقائق المتبقية على وصول القطار، سائق القطار يعلن عن المحطة التالية قبل قليل من وصولها، في كل عربة توجد لافتة كبيرة توضح المحطات الكثيرة التي يمر بها القطار.
عند دخولك عربة القطار ستجد أمامك مباشرة حاملاً يحتوي على المطبوعات المجانية التي يمكنك اقتنائها والاطلاع عليها من ضمنها مجلة DSB Magazen التي تصدرها هيئة المواصلات نفسها، على يسارك ستجد حاملاً علقت عليه مجموعة من الأكياس يمكن استخدامها في تجميع النفايات.
العربات جميعها مخصصة للركاب، ولكن بعض العربات ستجد على أبوابها الحمراء رسم كبير لدراجة باللون الأبيض، وهذا يعني أن هذه العربات مخصصة للدراجات، ويمكن للراكب أن يصطحب دراجته معه.
وفي القطارات لا يوجد كمسارية أو مفتشون، ولكن يمكنك شراء بطاقة ركوب من أي سوبر ماركت، تحتوي هذه البطاقة على عدد من المراحل Zoner، 2 زون أو 4 زون وهكذا ..، والبطاقة التي سعرها 80 كراون تكون صالحة لعشر سفرات بالقطار،  وفي محطات القطار توجد آله صغيرة تدخل التذكرة بها فتقطع الآلة منها جزءاً صغيراً وتختم بجانبه تاريخ اليوم، وبذلك تكون قد قطعت التذكرة،  وأصبح بإمكانك ركوب القطار للمنطقة التي تريدها، وإذا كانت المسافة التي ستقطعها أكبر يمكنك إدخال التذكرة في الجهاز مرتين أو ثلاثة حسب المسافة التي ستقطعها بالقطار.
هناك وسيلة أخرى للحصول على التذكرة حيث توجد في المحطات الرئيسية أجهزة الكترونية كبيرة، تضغط على الزر الخاص بالمحطة التي تريد الوصول لها، فيظهر على الشاشة المبلغ المطلوب، فتضع المبلغ في مكان معين في الآلة، فتخرج لك التذكرة، ويسقط باقي المبلغ في مكان خاص.
أما في حالة ركوبك القطار وعدم قيامك بقطع التذكرة، فإنه في حالة اكتشافك من قبل المفتشين الذين لا تراهم إلا نادراً فإنك ستدفع غرامة فورية قدرها 500 كرونا.
عندما رأيت القطارات الفخمة لا أدري لماذا تذكرت عربات الدرجة الثالثة لدينا، وكيف أن الناس ينامون على أرفف الحقائب، وأحياناً على أسطح القطارات، تذكرت السيدة المسكينة التي دخلت دورة المياة في أحد القطارات، فسقطت بها الأرضية إلى تحت القطار ..!، تذكرت حادثة قطار الصعيد التي راح ضحيتها المئات محترقين في مأساة درامية تضاهي مآسي سوفكليس.
ولكن للحق لم أجد في بلدي شيئاً يضاهي ذلك بل ويتفوق عليه إلا مشروع مترو الأنفاق الذي يعتبر الأفضل من جميع النواحي، فأحسست للمرة الأولى في خضم أيام القهر في الدنمارك بلحظة واحدة من الفخر والارتياح..
"الباص" أو "الأتوبيس" وباللغة العربية "الحافلة" أيضاً من الوسائل الشائعة هنا للانتقال، وهي وسيلة ذات تكلفة معقولة، وهي أيضاً لا تقل عن مستوى القطارات فخامة وأناقة، والباص أيضاً به مكان مخصص للدرجات وعربات الأطفال، يمكن للركاب ركنها بها ، ومن ثم الجلوس في المكان المخصص للركاب.
 والباص يأخذ الشكل العادي المعروف لدينا دور واحد، ولكن هناك نوع من الباصات بدورين، دورين مغلقين، وأحياناً يكون الدور العلوي بلا سقف، يجلس الركاب فيه ويتفرجون على معالم المدينة منه، ولكن لا أدري ماذا يحدث لهؤلاء إذا سقط المطر.
والباص أيضاً لا يوجد به عامل تذاكر أو كمساري، فقط هناك آلة في مقدمة الباص تدخل فيها التذكرة المشتراة سابقاً فتقطع الآلة جزءاً من التذكرة وتختمها بتاريخ اليوم، أثناء هذه العملية يراقبك السائق، وإذا حدث وأن نسيت القيام بذلك يشير لك السائق بلطف.
أما إذا حدث وركبت الأتوبيس ولم تختم التذكرة فإنه في حالة ضبطك فإنك ستدفع غرامة فورية قدرها 500 كروناً كما يحدث في القطارات.
وللأتوبيس محطات كثيرة أنيقة تحتوي كل محطة على لافتة رأسية، بها لوحات توضح أرقام القطارات التي تقف في المحطة واتجاهاتها ومواعيد وصولها، كما تحتوي على خريطة للخط والمنطقة يمكن بواسطتها الاستدلال على الجهة التي يريد الراكب الوصول لها.

نزهة على دراجة
تعتبر الدراجة وسيلة الانتقال الأكثر شيوعاً في الدنمارك، وفضلاً عن كونها وسيلة ذات تكلفة بسيطة، فإنها أيضاً وسيلة اقتصادية تساهم في توفير الوقود، هي أيضاً وسيلة صحية تساعد على تكوين الجسم الصحيح،  لأن استخدامها في الأصل رياضة، أيضاً تحافظ على البيئة،  فلا تلفظ كغيرها من المركبات بالعوادم والأدخنة الضارة في الهواء على مدار الساعة.
ولأن الدراجات من وسائل المواصلات الأساسية هنا ، فإن الطرق مجهزة لها، لذلك لا تندهش عندما تجد الطريق مقسماً إلى ثلاثة أقسام، حارة رئيسية كبيرة،  وهي حارة السيارات، تجاورها حارة صغيرة للدراجات، وتمييزاً لها ستجد رسما كبيراً عليها لدراجة باللون الأبيض، أما الحارة الثالثة فهي الحارة المخصصة للمشاة.
وإذا حدث ومشيت بالخطأ في حارة الدراجات،  ستفاجأ برنين الدراجات خلفك ينبهك إلى ذلك، ونظرات سائقي الدراجات الغاضبة، ولهم الحق في ذلك،  فأنت تمشي في الطريق المخصص لهم، وتغتصب حقهم، فإذا سافرت إلى الدنمارك احذر المشي في الطريق المخصص للدراجات، لأنها من الممكن أن تدهسك،  لأن بعضها يسير بسرعة عالية.
والدراجات يركبها الشباب والفتيات والأطفال وكبار السن، يتنقلون بها من منازلهم إلى أعمالهم والعكس، يتنزهون بها، ويتسوقون، وكما أن الطرق مجهزة للتعامل مع الدراجات، وسائل المواصلات والأسواق التجارية أيضاً مجهزة لذلك.
ونظراً للشعبية الكبيرة للدراجات،  فإن المحلات التي تبيعها كثيرة، والدراجات فيها من كل شكل ولون، وبها إمكانيات متنوعة مثل الكراسي والسرعات الإضافية، وأسعارها مناسبة إلى حد ما.
والدراجة عادةً ما تكون مجهزة ومزودة بمقعد أمامي لطفل، ومقعد خلفي لطفل آخر، وفي بعض الأحيان تجد أماً تقود دراجة يجلس على مقعدها الأمامي طفل، وعلى مقعدها الخلفي طفل آخر، ولكن الجميع الأم وأطفالها يرتدون خوذة خاصة على الرأس، حيث يلزم القانون سائقي الدراجات وركابها بارتداء هذه الخوذة التي تحمي مرتديها في حالات الحوادث أو الارتطام.
وهناك نوع آخر من الدراجات،  وفيه تجر الدراجة ما يمكن نسميه (بالمقطورة) الصغيرة التي يجلس فيها الأطفال، وأحيانا تجد الدراجة ذات العجلة الواحدة، ألا تذكرها إنها تلك التي تستخدم في السيرك، عجلة واحدة يعلوها مقعد،  وهي تحتاج إلى مهارة خاصة في القيادة، في أحد الشوارع شاهدت فتاة تركب واحدة منها وتقودها بمهارة، عندما رأتني أهم بتصويرها ابتسمت،  وطلبت منى الانتظار لكي تتهيأ للصورة، وقادت الدراجة هناك،  وعادت لتبتسم،  وتشير لي وكانت صورة طريفة ..!
ونظراً لأنني راكب دراجات قديم منذ أيام المدرسة الابتدائية، عندما كنا نؤجر الدراجات،  وننطلق بها لنعاكس الزميلات التلميذات، فإن هذا الجو الدراجاتي أغراني بركوب الدراجة، فما كان مني إلا أن استعرت دراجة أحد الجيران، وانطلقت ..، عندها أدركت لماذا يتمسك هؤلاء بهذه الآلة الصغيرة الرشيقة التي تتحرك على عجلتين، ولماذا يستخدمها معظم سكان الصين في التنقل، تذكرت "حمبوط" مؤجر الدراجات وأيام الطفولة، تذكرت الفرامل التي كثيراً ما تتلف وطريقة إصلاحها، و(السريسيون) الذي يستخدمونه في لحام الإطار عندما يثقب، تذكرت "القمحاوي" أشهر مصلح دراجات في المدينة، وكيف تخرج الدراجة من تحت يديه ولا الزلمكة، تذكرت وتنهدت وقلت .. كانت أيام ..!

تاكسي الغرام
ويعتبر التاكسي أيضاً إحدى وسائل التنقل الشهيرة هنا، ولكن المشكلة أنها أغلى وسائل الانتقال، فأقل مشوار بالتاكسي يكلفك 50 كرونا، لذلك تجنبت التاكسي طوال فترة إقامتي في الدنمارك، وإذا كان التاكسي في شوارع القاهرة قديم كالحذاء الذي تم تدعيمه بألف لوزة، فإن التاكسي في الدنمارك مرسيدس فاخرة من النوع الذي يطلقون عليه عندنا "أبو عيون"، وبين تاكسي الغرام المصري وأبو العيون الدنماركي مسافة شاسعة.
ومادمنا نتحدث عن المواصلات فلا يمكن أن ننسى مطار كوبنهاجن الذي يعد تحفة هندسية وحضارية رائعة، تبهرك بمجرد نزولك سلم الطائرة، النظافة والنظام والجمال، .. المحلات الراقية، الخدمات الممتازة، والمطاعم والأزياء، زالعطور والمطاعم، الاستعلامات على مدار الساعة، مضيفات أنيقات يبادرن بخدمتك وعلى شفاهن ابتسامة، لا رسوم ولا بقشيش أو وساطة، لوحات ألكترونية أنيقة توضح الرحلات ومواعيدها، مداخل وبوابات أنيقة، تحفة معمارية وحضارية بكل المقاييس، وربما يكون المطار الوحيد في العالم الذي يمكنك المشي داخله لمدة ساعة كاملة دون أن ينتهي، ودون أن تتعب.
متى نرى مطار القاهرة ومطاراتنا العربية بمثل هذا التطور الخلاق؟، ترى ماذا ينقصنا. .. قدم أم ذراع عن هؤلاء الذين شيدوا الحضارات، ونحن أصلاً أصحاب الحضارات ..؟
وللسياقة أو للسواقة أصول يتقيد بها الجميع، واحترام قواعد المرور شيء مقدس، حتى ولو كان الشارع خالياً يلتزم الجميع بالإشارة، والغريب أنه لا يوجد عساكر أو دوريات للمرور، فقط إشارات في الشوارع يحترمها الجميع.

شارع الحب
وفي قلب كوبنهاجن وبالقرب من محطة السكك الحديدية الرئيسية "السنتر" يوجد "شارع الحب"، والتسمية من عندي، وربما تكون كلمة "الحب" هنا غير دقيقة، لأنه المفروض أن يسمى "شارع الجنس"، وحتى لا نظلم الجنس نفسه كظاهرة طبيعية حللها الله، فإنه من المفروض في رأيي أن نسميه "شارع الجنس غير المشروع"، أو "شارع الدعارة"، كما أن عبارات "بيع الحب"، أو "ممارسة الحب" أصبحت مألوفة في كتاباتنا وهي بالطبع تعني "الجنس".
وشارع الجنس اسمه Istedgade ، في نقاش مع زميلة دنماركية استغربت وصفي لهذا الشارع بالشارع السيئ، وربما يتفق البعض معها في ذلك، لأنه ليس معنى وجود محلات بيع الجنس به أن يوصم بالسوء إلى الأبد، فضلاً عن ذلك هو شارع رئيسي به العديد من المنشآت الحيوية والمعالم الحضارية، ففيه شركات ومدارس،  وبه أيضاً مقر للصليب الأحمر الدنماركي Dansh Rode Kors الذي يجمع التبرعات المالية والعينية للمشردين وضحايا الكوارث في العالم.
 إذا تتبعت الفترينات في الشارع ستجد فترينات لعروض مسرحية، وفساتين زفاف وتمثال بوذي ذهبي، ومطاعم،  وصالونات حلاقة وغيرها ..، كما أننا بالطبع لا يمكن أن نستبعد وجود شرفاء يقطنون به.
توجد في الشارع مجموعة من محلات بيع الجنس، في فتارينها كل ما تفتق عنه الذهن الغربي من خلاعة ومجون، إذا تجرأت ونظرت في الفاترينة سترى عجباً.. أدوات للجنس والشذوذ والأفلام والصور الفاضحة، كل ذلك معروض مثلما تعرض أي سلعة في أي محل قطاع عام، من هذه المحلات EXCITING SEX SHOP, DELTA LOVE SHOP.
أثناء تجوالي في هذا الشارع انتبهت على صوت امرأة جميلة واقفة على أحد هذه الحملات تبتسم،  وتدعوني بإلحاح للدخول، فوجئت بها، واحترت ماذا أقول ؟، بعد لحظات قلت لها: "أنا في انتظار صديقة سوف ندخل معاً"، وانطلقت بسرعة دون أن أنظر خلفي،  وأنا أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..
بالمناسبة احذر في حديثك مع هذه النوعية من النساء، لأن العهر وصل بهن إلى أبعد مدى، ربما إلى الحد الذي قد تمد المرأة يدها، وتأتي بحركة تخدش حياءك، وأنت تمشي ضع يديك على أسفل البطن .. أسلم ..!
أيضاً توجد محلات لممارسة الدعارة اجتهد أصحابها في جذب الزبائن بالفترينات المثيرة والعناوين والرسوم البراقة، مثال هذا المحل الذي يعلق لافتة محاطة بالقلوب مكتوب عليها (ASIAN BEAUTY) أي (الجمال الآسيوي)، ومن العنوان نفهم أنه يقدم للجمهور الدعارة الآسيوية!، ومما يزيد الطين بله كما يقولون أن هذا الشارع يوجد به مركز للشواذ اسمه (COPNHAGEN CENTER GAY). يضم أعضاء من الشواذ،  والعياذ بالله ..!
وفي أحد الشوارع المتفرعة من شارع ISTEDGADE توجد شقق صغيرة أرضية عليها عبارة MASSAGE وعبارة "المساج" معناها المستتر هو الجنس، وهي شقق يرتادها راغبو المتعة الرخيصة، بعض هذه الشقق تعلق لافتة Bussy وهي كلمة تقدم المعنى نفسه.
ولكن الملاحظة التي لاحظتها أن مثل هذه الأماكن تعاني من الكساد الحاد، ولا تتمتع بالإقبال كما يظن البعض، فهذه الفترينات الفاضحة شيء عادي جداً هناك، ولا يلتفت إليها أحد، ونادراً ما تجد شخصاً يقف أمامها، وإذا حدث ورأيت من يقف أمامها، سوف تكشف أنه لا يتعدى كونه سائحاً منبهراً بهذه الأشياء،  وليس من قاطني البلاد.
من ذلك يتضح أن إباحة الجنس لم تؤد إلى انتشاره، بل أدت إلى تحجيمه وكساده، وكل ممنوع مرغوب كما نعلم، أتذكر أن هناك مدرسة في الرسم تتبنى هذا الاتجاه، وهو اتجاه تهذيب النفس بالرسوم العارية، في الماضي كتب الكاتب الراحل موسى صبري مقالاً شهيراً نشر بجريدة (أخبار اليوم) طالب فيه بإعادة البغاء متعللاً بأن إباحة الشيء أقصر الطرق لتقليله، وفي أحد السنوات وقف عضو مجلس الشعب في البرلمان مطالباً بإباحة الحشيش،  وذلك للقضاء عليه، المهم ليس لنا دعوة ..!.
ووصل الشطط في الدنمارك إلى اعتزامهم إقامة مهرجان دولي للجنس، يتطوع فيه شباب وفتيات إلى ممارسة "الحب" علنا أمام الناس ..!، استعراض مفتوح للحب والجنس، للثقافة الجنسية أم الإثارة .. لا أدري ..!!
ذهبت إلى شارع الحب،  وصورت بيوت الدعارة، وتجرأت وطرقت أحد هذه البيوت،  وسألت عن الأسعار، قالت الغانية "15 دقيقة جنس بـ 400 كرونا"، عندما رأتني الغانية الجميلة على وشك الانصراف قالت لي : "لن تجد أرخص مني في المنطقة" ..!
عندما انصرفت ظللت أفكر في العبارة الأخيرة التي قالتها الغانية، وتساءلت في نفسي .. ربما الغانيات في هذه المنطقة اجتمعن، وقررن توحيد سعر السوق حفاظاً على الصنعة من الزوال ..؟!.
 صحيفة دنماركية نشرت أن لجنة المراجعات في قسم الضرائب في الدنمارك اعتبرت أن بائعات الهوى من حقهن أن يستفدن من خفض تكلفة عمليات التجميل لتكبير صدورهن، وذلك باعتبار أن ذلك يدخل ضمن النفقات المهنية ، واعتبرت اللجنة أن امتلاك صدر كبير يعتبر عاملاً مساعداً على الصعيد المهني ..!
عندما تبيع المرأة جسدها ... تموت الحضارة ..!

لاجئون .. وراء الشمس
أثناء رحلتي في الدنمارك التقيت بوجوه عربية عديدة، عراقيين ولبنانيين ومصريين وغيرهم ..، دفعتهم الأقدار إلى هذه البقعة البعيدة من العالم، منهم من جاء للعمل، والسعي إلى وضع معيشي أفضل، ومنهم من جاء سائحاً ليرى بلاد الله، بعضهم حصل على الإقامة بالبلاد عن طريق الزواج من دنماركية، وفي هذه الحالة يمنح القانون للزوج الأجنبي حق الإقامة لمدة عام تجدد مرتين بموافقة الزوجة، وفي المرة الثالثة يحصل الزوج على الإقامة الدائمة.
ومع وجود عدد كبير من الزيجات الناجحة بين عرب ودنماركيات،  إلا أنه في بعض الأحيان يكون الزواج صورياً، حيث يتفق العربي مع فتاة دنماركية على الزواج الشكلي،  والحصول بموجب هذا الزواج على الأوراق اللازمة التي تمكنه من الإقامة مقابل مبلغ سنوي معين تحصل عليه هذه الفتاه، تجارة إقامات مثل التي نراها في بعض الدول الخليجية، حدثني أحدهم عن أحد الهنود الذي يعمل في وظيفتين، راتب يقدمه لسيدة دنماركية مقابل توقيعها له على أوراق الإقامة، أما راتب المهنة الأخرى فهو له.
ومع تقبل المجتمع الدنماركي لوجود جنسيات مختلفة على أرضه، ورغبته في التواصل مع الشعوب الأخرى، حيث أصبح يتعامل مع زواج الدنماركية من عربي بمرونة، إلا أن النظرة قد تختلف من حالة إلى أخرى.
 روى  لي شاب مصري متزوج من دنماركية معاناته، لقد أخبرني أن والدة زوجته وقفت أما ابنتها وعارضت زواجها منه دون أن تراه، إنها تعترض على زواج ابنتها من عربي مسلم غريب عن واقعها وبيئتها، ولكن الابنة أصرت على موقفها، وقالت لأسرتها  "هذا الشاب هو الذي أحبه وهو الذي سأتزوجه"، وسافرت الفتاة إلى مصر والتقت حبيبها وتزوجا، وعندما حاولت الزوجة الحصول على تأشيرة دخول لزوجها لكي يحضر معها إلى الدنمارك، حاولت أم الزوجة عرقلة ذلك لدرجة أنها اتصلت بالسفير الدنماركي بالقاهرة،  وطلبت منه عدم منح الزوج التأشيرة، ولكن السفير لم يرضخ لرغبات الأم،  ومنح الشاب المصري التأشيرة،  وقابله، وشد على يده متمنياً له التوفيق في حياته الجديدة.
وعندما سافر الزوج استقبلته الأم بفتور، كذلك فعلت عمة الزوجة السيدة البدينة العجوز، هذا بعكس باقي الأسرة التي رحبت بهذا المصري الآتي من الشرق، روى لي الشاب كيف كانت العمة العجوز تتحدث وتلمح في حديثها عن كراهيتها للعرب، في أحد الأيام قالت له مستنكرة "إن هناك جيل من الدنماركيين الذين تسري فيهم دماء عربية"، فرد عليها المصري بدهاء مصراً على رد الإهانة "إذن عليكم أن تستعدوا للقفز في البحر في لحظة ما من المستقبل"، صدمت العمة بهذا التعليق، فما كان منه إلا أن أردف عبارته بالضحك،  حتى يخفف من حدة الموقف، بينما وجه العمة العجوز يتلون من الغيظ ..!
ولكن هذا الموقف ـ كما قال لي المصري ـ  تغير بمرور الوقت بعدما لمست الأم من الشاب جديته وأخلاقه، وفي يوم ما اعتذرت الأم لزوج ابنتها،  وهي تهدهد حفيدتها الجميلة عن معارضتها لهذا الزواج في البداية، لأنها لم تكن تعرفه جيداً، وقالت له "اعتبرني مثل أمك،  لأنك من الآن مثل ابني تماماً".
وفي أحيان أخرى يقيم العربي بالدنمارك بسبب الدراسة،  ولذلك شروط يجب توفرها، وأوراق يجب تقديمها للجهات المختصة، وعلى مدار الرحلة قابلت عدداً كبيراً من العرب المقيمين حاصلين على الإقامة الدائمة، وبعضهم يحمل الجنسية الدنماركية، مثال ذلك الشاب الذي كان يجلس في المقعد المجاور لي في الطائرة، وهو شاب مصري من الأسكندرية، حاصل على الجنسية الدنماركية،  ويدرس الزراعة هناك، وقد قام طوال رحلة الذهاب بإمدادي بالكثير من المعلومات عن المجتمع والدراسة،  وواقع العرب هناك.
بعض العرب جاء لاجئاً .. لاجئون سياسيون يسكنون على نفقة الحكومة في مخيم اللاجئين الذي يقع في أطراف المدينة،  والذي يضم لاجئين من دول العالم،  معظمهم للأسف عرب، في "السنتر" قابلت أحد اللاجئين العراقيين، وأحد اللاجئين اللبنانيين، العراقي كان هارباً من الوضع السياسي العراقي، أما اللبناني فلم يوضح سبب لجوئه إلى الدنمارك،  واكتفى بقوله: "هناك مشكلات"، لست أدري لماذا معظم اللاجئين عرب؟، ومعظم مراكز اللجوء في العالم تقع في بلاد أجنبية ..؟
الغريب أننا نتشدق،  ونكرر دائماً أننا أهل الكرم والوفادة، فكيف إذا نترك بنو جلدتنا حتى ولو اختلفت الآراء معهم مشردين في بلاد الله الواسعة،  ليقدموا للعالم عملياً أسوأ صورة للعرب، ولماذا تسجل حالات اللجوء السياسي العربية أرقاماً عالية في الغرب؟
 إن الصورة التي يختزنها الغربي عن العرب الآن صورة رهيبة .. عالم عربي متخلف، والشخصية العربية شخصية متأخرة، لا تسعى إلا للجنس والمال،.. الإرهاب والقتل، والنظم العربية نظم سياسية غير ديمقراطية تحكم بالقوة، وشعوب لا تعرف إلا القمع والبطش والهمجية.
المشكلة فينا نحن العرب، فعلى الرغم أن الإسلام العظيم وضع منذ بزوغه أسس المجتمع المسلم الصحيح، إلا أننا انحرفنا عن الطريق، ولم نطبق تعاليم الإسلام، اتخذنا الإسلام رداء وعباءة نرتديها ونتباهى بها فقط، ولم ندرك أن الدين هو المعاملة، والنتيجة هي ما نراه الآن من تشتت وخلافات وضعف ومذلة، عالم عربي مفكك مليء بالخلافات، غارق في جحيم من الهزائم والانكسارات.
يا خلق هوه..  الإسلام ليس اسماً وشكلاً، ولكنه جوهر جميل ينعكس على روح الإنسان وسلوكه وأعماله، والعبادات ليست حركات شكلية كالحركات الرياضية، ولكنها تجسيد وتعليم وتربية للنفس الإنسانية، ويجب أن يرافقها الفعل والعمل، قال  تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) ..، لكننا لا نطبق ذلك، لذلك تجد المسلم يهرع إلى الصلاة في وقتها ، ويصلي في الصف الأول، ولكن بعد أن يخرج من المسجد يسبب هذا،  ويظلم هذا، وإذا جاء عريس لابنته يتعسف ويطلب مطالبات خرافية..
في لقاء مع الفنان دريد لحام سألته .. بعد كل هذه السنوات الطويلة التي مرت على تقديمك لفيلم (الحدود) ألا تشعر بالأسى لأننا كعرب لم نتقدم خطوة واحدة حتى الآن، نظر إلى بأسي وقال: نعم كل الأسى، تذكرت "نوري" الفتى التونسي وهو يحكي لي حكايته وهو يضحك، ففي أحد السنوات كان في ليبيا هو وأحد أصدقائه، ونظراً لقلة مواردهم اتخذوا طريق البر في طريقهم لمصر، ولكن العربة التي كانت تقلهم ضلت طريقها على الحدود، فامسك بهم حرس الحدود الليبية، واقتادوهم إلى المركز الحدودي، وهناك حكم عليهم رئيس المركز بالجلد، كل منهم خمسون جلده، وكان موقفاً مضحكاً ومؤلماً في آن واحد عندما أخذ يصف لنا كيف ربطوه في شيء يشبه (الفلكة) ، وكيف تلقى الضربات الساخنة على قدميه حتى تورمتا ..
تأملت اللاجئين العربيين في كوبنهاجن، العراقي واللبناني اللذين يعيشان في مركز اللاجئين في معيشة مناسبة، الاثنان يختلفان بالطبع في الشخصية وأسباب اللجوء إلى هنا، ولكن القاسم المشترك بينهما للأسف كان محاولتهما الفجة لمعاكسة فتاتين دنماركيتين صغيرتين جالستين في أحد الميادين، والغريب أن الأخ العراقي متواضع الهيئة طلب من الفتاه الصغيرة بإنجليزية مكسرة أن يكون الـ "بوي فريند" الخاص بها، فأشاحت الفتاة الصغيرة عنه، تذكرت عبارة قالها أوسكار وايلد تقول : "إن الوطنية يمكن أن تكون ستاراً للقتلة والأشرار"!، همست في سري : .. "أمجاد يا عرب أمجاد" ..!
والشباب العربي هنا يعمل في المطار أو المطاعم،  أو البقالات،  أو محلات بيع الآيس كريم ، أو شركات الصيانة،  أو المكتبات .. وغيرها ..، يعملون ويكدحون، ويصلون الليل بالنهار، ولكن البعاد لم يقطع جذورهم العربية، ولأن الدم يحن كان بعضهم يعرف أنني عربي بالملامح، فينادي علي في الشارع بعبارة "مرحباً يا عربي"، هذا يقدم لي المرطبات، ويرجوني أن أتحدث له عن مصر، وهذا يتحدث عن أحوال العراق،  ويرجوني عدم نشر اسمه لأنه هارب من جحيم صدام، وهذا يقدم لي ساندوتشات الشاورما وزوجته العربية المحجبة ترحب بي، وتقود عربة ينام بها طفلها الصغير.
ولكن الملاحظة التي استرعت انتباهي هي افتقاد العرب هنا لروابط التقارب فيما بينهم، فالعربي هنا يخاف من مثيله، والعكس هو المفروض، ولكنك إذا دققت ستلاحظ أن العربي إذا قابل عربياً آخر يتحدث معه بحساب، ويمضي في حال سبيله، الحذر والتوجس من الشخصية العربية ظاهرة غريبة لم أجد تفسيراً لها.
روى لي شاب مصري مقيم بالسويد، متزوج من سويدية، أنه في أحد السنوات زار الدنمارك، وفي الفندق علم شاب جزائري أنه لا يحمل إقامة بالدنمارك، فأبلغ عنه الشرطة، وجاءت الشرطة لتلقي القبض على الشاب المسكين الذي أسقط في يده، وصدر قرار بترحيله إلى مصر، حدث هذا رغم أن الشاب حاصل على إقامة في السويد وزوجته سويدية، وطفلته كذلك، وبعد أن تظلم من القرار، تم تعديل القرار ليتم ترحيله إلى السويد.
ولكن المشكلة لم تنته بذلك،  حيث ينص القانون على أن المقيم في أي من الدول الاسكندنافية الثلاث له الحق في التنقل في هذه الدول، وبعد أخذ ورد، تم ترحيل الشاب إلى السويد ومعه زوجته،  وهي تحمل على يدها طفلتها تؤازره، وتتوعد باتخاذ الإجراءات اللازمة، بعد ذلك بفترة اعترفت الشرطة بخطئها، واعتذرت للشاب عما حدث، وتمت مجازاة الضابط الذي أصدر قرار الترحيل إدارياً.
روى لي شاب عربي متزوج من دنماركية تفاصيل الخلاف القائم حالياً بينه وبين زوجته، والسبب هو إصرار الشاب على إقرار الزوجة بتقسيم ثروتها معه في حالة الطلاق، وذلك حسب القانون الدنماركي، أما الزوجة فلا تمانع في ذلك،  ولكنها تصر على احتساب ثروتها منذ بداية زواجهما، أما ما تملكه قبل ذلك فلا شأن له به.
 سألت الشاب : "ولماذا إصرارك على ذلك مادامت لا توجد مشاكل بينكما"، أوضح لي الشاب أنه يجب أن يحافظ على حقوقه، لأن هذا المجتمع مجتمع صارم، إذا لم يحافظ المرء على حقوقه سيضيع، وضرب لي مثلاً بأكثر من شاب قبض عليهم ورُحِّلوا إلى بلدانهم، والسبب أنهم لم يحافظوا على حقوقهم، وعندما أوضحت أن ذلك قد يؤثر على مشاعر زوجته، التفت لي قائلاً: "إذا أردت أن تعيش في هذا المجتمع يجب أن تضع مشاعرك جانباً، مصلحتك أولاً".!
ومع وجود نماذج ناجحة للعرب هنا ، إلا أن هناك قصص دامية نسمعها من حين لآخر، سمعت بعضها في السفارات العربية، وسمعت بعضها الآخر في أحاديث المقيمين ، مثال هذه القصة الدامية التي حدثت عندما اختلف أحد المقيمين العرب مع زوجته التي هي من نفس جنسيته،  وحدث بينهما الطلاق، ولما كان الزوجان حاصلان على الإقامة بالدنمارك، فقد أعطت الدولة حق الإقامة للزوجة وأولادها وألزمت الزوج بعدم التعرض لهم أو الاقتراب منهم، فما كان من الزوج المختل إلا أن قام بدهس زوجته وأبنائهما بالسيارة فقتلهم جميعاً، وقبض على الشاب وحوكم ودفع إلى السجن، وكانت جريمة مروعة تناولتها الصحف ووسائل الإعلام طويلاً.
وتتناقل الأنباء من حين لآخر أخبار خلافات ومشاجرات تحدث بين أبناء الجاليات العربية هنا أو هناك، مثال هذه المشاجرة الكبيرة التي وقعت بين لبنانيين وعراقيين عام 2001 في أحد الأحياء المنعزلة التي تقع في السويد على حدود الدنمارك، ووصلت إلى استخدام السكاكين والأعيرة النارية، وسببها "صفعة" ..!.
 بدأت المشاجرة عندما صفع رجل طفلا، والسبب أنه قال له : "إخرس"، وعندما تدخلت الأم لتشرح له أن الصفع ممنوع في السويد، صفعها هي الأخرى، وامتدت المشاجرة بين العائلتين، وشاركت فيها أطراف عربية أخرى، وأظهر التحقيق وجود الكثير من الخلافات التي تحدث بين الجاليات العربية، والمشاجرات اليومية التي تحدث على أشياء تافهة مثل الشجار على مواعيد الغسيل في المغاسل العامة.
ومع وجود نماذج ناجحة للزواج بين عرب ودنماركيات،  إلا أنه تحدث أيضاً العديد من النزاعات في بعض الحالات، حيث تؤدي الأنظمة بالدنمارك إلى حرمان الأب من أبنائه في حالات الخلاف والطلاق، مشكلات كثيرة تحدث بسبب اختلاف البيئات والتقاليد والعادات، قد تنشأ بسبب اختلاف الديانة بين الزوجين، حول الطفل، ونسبه، ففي القانون الدنماركي يجوز نسب الطفل إلى أمه، كما يجيز وضع عبارة "بلا دين" في شهادة ميلاد الطفل،.
وقد لا يستطيع الزوج في بعض الحالات الحصول على أطفاله إذا كان الزواج قد تم حسب القانون الدنماركي،  لأنه يعطي حق الحضانة للأم، لذلك يجب على كل عربي يشرع في الزواج من أجنبية أن يحتاط لكل هذه المشكلات،  ويلجأ للسفارات المختصة بالسؤال، ويتبع القوانين المصرية في كافة الإجراءات،  حتى يستطيع الحفاظ على حقوقه، وحقوق أبنائه عند الخلاف.
ومازالت في الأذهان قصة خطف الطفلتين المصريتين،  وتهريبهما من الكويت إلى إيطاليا،  والتي تواطأ فيها وزير الدفاع الكويتي مع القنصل الإيطالي بالكويت، ونائبة في البرلمان الإيطالي، وتم بذلك تهريب الطفلتين إلى إيطاليا، رغم وجود أحكام من القضاء الكويتي بضم حضانة الأطفال إلى الأب.
فيا ليتنا نقوم بإعداد دليل إرشادي شامل يقدم لكل مغترب نوضح فيه كافة الإجراءات والنظم التي يتبعها المغترب في السفر والعمل والإقامة والزواج والطلاق وتسمية الأبناء وتسجيلهم والشراكة والمتاجرة،  وغيرها من المعاملات التي قد يمارسها المغترب خارج الوطن، ربما نستطيع الحد من حجم المشكلات التي تحدث نتيجة سبب بسيط،  وهو الجهل بالإجراءات الصحيحة.

الأوزة المختالة
قلنا أن الدنماركيون مولعون بالجمال، ومن البديهي أن هذا الاهتمام سوف يستتبعه بالتالي اهتمام بعناصر ومقومات هذا الجمال، من هذه العناصر البيئة، والبيئة تحافظ على الصحة،  وتصنع الجمال،  وتعطي القدرة النفسية على الحب والعمل والحياة.
 وجمال البيئة تحققه النظافة التي توليها الدولة اهتماماً كبيراً، فالشوارع نظيفة على مدار الساعة، عربات القمامة الحديثة تمر على البنايات في وقت مبكر كل يوم لتأخذ بطريقة آلية محتويات الصناديق الموجودة أمام كل مبنى، ربما تندهشون إذا قلت لكم أن عربة جمع القمامة هي الشيء الوحيد الذي لم استطع التقاط صورة له، والسبب أنها تأتي مبكراً في السادسة صباحاً، تقوم بمهمتها،  وتنصرف فوراً، أسمع صوتها وأنا نائم فانهض، وانظر من الشرفة فأجدها غادرت.
عدا ذلك توجد عربات أصغر لجمع القمامة تدور على مدار اليوم في الشارع والميادين تجمع النفايات، أعادتني الذاكرة قسراً إلى شوارع مصر المحروسة الملأى بالنفايات، ووزيرة البيئة التي صرحت "إن الوزارة بدأت خطة لإزالة نفايات من عدة محافظات عمرها أكثر من عشر سنوات"!، وفي تصريح آخر قالت الوزيرة "إن 40% فقط من القمامة ترفع يومياً"، مما حدا بالإعلامي حمدي قنديل للسخرية من هذه المعلومة في برنامجه (رئيس التحرير) متمنياً لقاء مشاهديه في الحلقة القادمة قبل أن تخفيه القمامة.
تذكرت قريتي كمثال للقرى المصرية المنكوبة الملأى بالقمامة والقاذورات، في إحدى زياراتي لها سألت : "أين ترمى القمامة؟"، قالوا لي "في التُرعة"، تصور ...!، "التُرعة" –بضم التاء- فحدث ولا حرج .. فهي مقلب قمامة رهيب يحفل بكل ما تتصوره من قاذورات، ونفايات، وفئران ..
في أحد الأيام كنت أتجول في العاصمة، وأحمل كيساً أنيقاً يحتوي على مجموعة من البطاقات السياحية التي اشتريتها، وكان سعرها 160كرونا، وأثناء تجولي في أحد الميادين تعرفت على صحفي إيطالي كان يعمل في بني غازي بليبيا، أثناء حديثي معه وضعت الكيس الخاص بي على الأرض، وبعد قليل وجدت عربة قمامة صغيرة تدور في المكان،  فقمت بتصويرها، فوقف عامل جمع القمامة وابتسم في الصورة، وبعد أقل من دقيقة التفت بجواري فلم أجد الكيس، نظرت حولي لأجد عربة القمامة –التي قمت بتصويرها- تتحرك مبتعدة، الذي حدث أن العربة –التي صورتها- أخذت الكيس بسرعة إلى مصيره المحتوم.
 الطريف أنني عندما طبعت الصور دققت في صورة عربة القمامة جيداً فلاحظت الكيس الأحمر الخاص بي موضوعاً في العربة، ضغطت على أسناني بغيظ،  وقررت أن لا أخبر أحداً بهذه القصة أبداً.
لاحظ معي .. في دقائق أزيلت القمامة، أما عندنا فقد أزيلت بعد عشر سنوات ..، لذلك نصيحتي إذا ذهبت إلى الدنمارك، لا تضع أي شيء على الأرض، .. ستأخذه عربة القمامة فوراً ..!.
حفاظاً على البيئة ونشراً للجمال أنشأت الحكومة بحيرات صناعية كبيرة، مهدت حولها مضاميراً للمشي والجري، يقوم المواطنون بممارسة رياضة المشي والجري عليها على مدار اليوم، على شاطئ إحدى البحيرات أقيمت محمية للأوز البيض الأنيق، المئات من الأوز تسكن شاطئ البحيرة، لافتة كبيرة معلقة على الشاطئ توضح أن هذه المنطقة محمية للطيور، اللوحة امتدت إليها يد الإهمال، فقام أحد الأشخاص بطمسها بطلاء أسود، يبدو أن الإهمال موجود في كل مكان، حتى العالم المتقدم.
كل أوزة تتمشى مختالة، "من قدها؟"،  وتنعم بكل أشكال الرعاية، فهناك من يحضر لها الطعام، وإذا حدث وخرجت أوزة لتتمشى على مضمار الجري،  فإن المارة وقائدي الدراجات يتوقفون احتراماً لها، وينتظرون حتى تمر الأوزة بسلام ..!
كل أوزة معلق في أحد قدميها شريط جلدي أخضر اللون، على الشريط يوجد رقم متكرر باللون الأبيض، مما يوضح أن الأوز مسجل بالواحدة، وأن المنطقة محمية طبيعية تخضع لقوة القانون.
إذا زرت هذه المنطقة يجب أن تمشي على أطراف أصابعك،  لأنك إذا تورطت وصدمت أوزة،  أو أرقت مضجعها،  فالويل لك، تذكرت شخصية سارق الأوز التي أبدعتها السينما المصرية وتساءلت .. لماذا لا يسرق أحدهم هذا الأوز ..؟.
 رحم الله جدتي رحمها الله التي كانت تجلس جلستها الشهيرة،  وتقوم "بتزغيط البط" أي تأكيله، وذلك بفتح منقاره باليد،  ودفع عدد من حبات الفول بالقوة داخل فمه، وتمريرها باليد من عنقه حتى تستقر في معدته، لا أدري حقيقةً من اخترع هذه الطريقة الغريبة لتأكيل البط والأوز، بط لا يعرف مصلحته ..!، تذكروا جيداً .. نحن ندلل البط كما يدللون الأوز، ولكن الغاية تختلف،  فنحن ندلل البط حتى نذبحه، وهم يدللون الأوز حتى يستمتعون بمنظره ..!

الركض حول البحيرة
لهذه البحيرات الثلاث التي شاهدتها في قلب العاصمة على المنطقة سحر خاص، الشباب والشابات، كبار السن، حتى الأطفال، كلهم يركضون حول البحيرة، الآن عرفت السر في رشاقة الدنماركيين، وعدم معاناتهم من السمنة.
على شاطئ بحيرة البجع، عفواً بحيرة الأوز توجد مقاعد للجلوس، وداخل البحيرة يوجد لسان خشبي يمتد داخل الماء، وبه مقاعد أخرى للجلوس، إذا جلست على هذه المقاعد ستشعر أنك في قلب البحيرة، بجوار اللسان يوجد قارب كبير يستخدم في التنزه في البحيرة، القارب مقيد في العامود الخشبي، يهتز القارب في الماء بفعل الهواء، وكأنه كائن يود التحرر من قيوده.
محيط البحيرة الواحدة قد يصل إلى ثماني كيلو مترات، فإذا أردت إنقاص وزنك عليك بلفة واحدة حول البحيرة، في اليوم التالي ارتديت الملابس الرياضية، وانطلقت مع الراكضين، وكانت أطول مسافة ركضتها في حياتي، ليس ركضاً بالمعنى المعروف،  وإنما ركض ومشي وراحة، الغريب أن وزني انخفض انخفاضاً كبيراً بعد هذه التجربة .. الركض حول البحيرة ..

طير يا حمام
والناس هنا لا يهتمون بالأوز فقط، ولكنهم يهتمون بالطيور والحيوانات الأليفة، ليس ذلك فقط، ولكن هذه الحيوانات الأليفة تعيش الرفاهية المطلقة، عندما كنا صغاراً كنا نركض خلف الكلاب بالطوب، ونستمتع بشد القطة من ذيلها،  بينما القطة تنتقض من الذعر، ويقوم "السماوي" المعين من قبل البلدية بمطاردة الكلاب في الشوارع وقتلها بالرصاص بطريقة وحشية، والغريب أنه كان يترك جثتها ملقاة في الشارع أياماً وشهوراً، والمارة يتابعون كل يوم التحلل البطيء للكلب التعيس، حتى يصبح كومة من العظم على قارعة الطريق ..
أما القطة فتجربتنا معها أكثر دموية، ففي الغرب القطة ترتدي البابيون الغالي، وتتثاءب كعروس في خيلاء بين يدي ربيبتها، تنعم بالحمام الساخن كل صباح، والنزهة اليومية على ضفاف النهر، أما عندنا، يذبحها العريس في ليلة الدخلة لزوجته، حتى تمشي على العجين ولا تلخبطه.
في الولايات المتحدة الأميركية أقام أحد الأميركيين فندقاً خاصاً للحيوانات الأليفة، والفندق عبارة عن حجرات أنيقة لإقامة الحيوانات، بها كل ما يحتاجه الحيوان من طعام وفراش وثير من القش، وبها أيضاً عدد من الألعاب لتسلية الحيوانات حتى لا تشعر بالملل، يحدث ذلك بينما توجد كاميرات مراقبة في كل حجرة لكي يتمكن أصحاب هذه الحيوانات من الاطمئنان عليها عن  بعد.
والحيوانات في الدنمارك مدللة، تنعم بكل وسائل الراحة ،والطعام الملعب الذي يشتري من الصيدليات ومراكز التسوق، تعيش في المنازل تماماً كفرد من أفراد العائلة، إذا مرضت يمرض الجميع حزناً عليها، الحيوانات هنا لها إكسسوارتها الخاصة، وطعامها الخاص، بينما يموت الناس كل يوم في العالم العربي من الفقر والعوز.
هل تذكرون الفتاة الجزائرية المقيمة في فرنسا،  والتي ذكرت التقارير أنها ماتت من الجوع؟، وهل تذكرون الأطفال الذين يموتون كل لحظة في العراق والسودان والصومال والبلاد العربية الإسلامية التعيسة ..؟
والحيوانات الأليفة هنا في كل مكان، في مدخل المركز التجاري الرئيسي في "فودوفغا" يوجد قفص ملون كبير كنت أمر عليه يومياً، يحتوي القفص على العصافير الملونة الجميلة التي تزقزق باللغة الدنماركية أكيد.
أمام مقر عمدة كوبنهاجن توجد ساحة كبيرة،  تنتشر على أرضها أعداد كبيرة من الحمام الأبيض، كل صباح تأتي سيدة رصينة لترمي للحمام الحَبّ، كالأم التي تطعم أبنائها، منظر بديع، السيدة ترمي الحب، والحمام يتجمع ليلتقط الحب مرفرفاً بجناحيه، لا أدري هل هذه السيدة موظفة في مهنة إطعام الحمام، أم أنها متطوعة لذلك؟، في الحالتين الصورة رائعة، لا أدري لماذا تذكرت محمد الدرة الطفل الفلسطيني الذي قتل،  وهو في أحضان والده بيد القراصنة الإسرائيليين ..، إنها مفارقة الحمام ومن يقتلون الحمام.
طلبت من صديقي السائح الإيطالي التقاط صورة لي مع الحمام، شرحت له كيفية التقاط الصورة، نبهته أن لا يضع إصبعه على الفلاش بالعبارة التي أقولها لكل من يتطوع لالتقاط الصور Do not put your finger on flash ، وما أن انتقلت إلى مكاني ناحية الحمام ، حتى فوجئت بأسراب الحمام تطير فجأة مرة واحدة من الأرض بصورة لفتت نظر الجميع، شعرت بالإحراج، نظرت إلى الحمام الطائر بغيظ، بينما صديقي الإيطالي غارق في الضحك.
في إحدى الصحف المحلية قرأت خبراً مفاده أن قطة خضراء اللون ولدت في مدينة ديبفاد شمال العاصمة الدنماركية أثارت حيرة الأطباء البيطريين وفضولهم، وبعد أن خضعت القطة لفحوصات مخبرية في مستشفى كوبنهاجن الجامعي، اكتشفوا أن اللون الأخضر الذي تتميز به القطة ظاهرة بيولوجية جديدة لم يتوصلوا إلى سببها.
الطريف أن صاحب القطة، ويدعى بيسكوف كان يرغب في بيعها بمبلغ كبير، ولكن خطته فشلت لأن ابنته كريستين تعلقت بها.

الرياضة للجميع
وعندما أقول إن الدنماركيين يحبون الرياضة، فأنا لا أقولها هكذا مجاملة أو تحصيل حاصل، ولكنني أعني ذلك تماماً، فهناك دلائل كثيرة على ذلك، في أحد الأيام خرجت من السوبر ماركت الرئيسي في "فودوفغا" من الباب الخلفي،  فوجدت مساحات كبيرة من الغابات، فمشيت رغبةً في استكشافها، وجدت طريقاً معبداً محاطاً بالأشجار، الطريق يمر تحت محطة القطار الرئيسية "محطة فودوفغا"، مشيت في النفق، جدار النفق عليه شخبطة وكتابات عشوائية، وإن كان معظمها مكتوب بشكل فني، لا أدري هل هي إعلانات مكتوبة بالخط كما يحدث عندنا يتبارى الخطاطون والذين يتعلمون الخط فيكتبون على الجدران الإعلانات؟، أم أنها كتابات مراهقين ..؟
تقابلك في الطريق قنطرة قديمة كتلك التي تقابلك في قرى مصر،  وتفصل بين المزارع، عندما تعبر القنظرة ستجد أمامك على امتداد البصر مساحة كبيرة من الخضرة، عندما تقترب ستكتشف في قلب المساحة الخضراء ثلاثة ملاعب كبيرة لكرة القدم، الملعب الأول به فريقان من الأطفال عمرهم ما بين أربع سنوات وثماني سنوات، ومعهم مدربهم الشاب، يتكون الفريق من ستة عشر لاعباً، على جانب الملعب العديد من الكرات البيضاء، الجميع يتدربون،  والمدرب من حين لآخر يلقي توجيهاته، على جانب الملعب توجد مقاعد عامة غارقة في الأشجار، يمكنك الجلوس عليها،  والتمتع بهذا الجو الفريد أو متابعة المباريات ..
إذا تجاوزت هذا الملعب بقليل ستجد ملعباً آخر وفريقين آخرين، ولكن الاختلاف في أعمار اللاعبين، حيث تتراوح أعمار اللاعبين ما بين ثماني سنوات وخمسة عشر عاماً، والأمر نفسه اللاعبون يلعبون،  والمدرب معهم يلقي توجيهاته.
عندما تتجاوز هذا الملعب أيضاً ستجد ملعباً ثالثاً، وفريقين آخرين، ولكن الاختلاف أيضاً في عمر اللاعبين، فهم جميعاً هنا شباب فوق العشرين، ومعهم أيضاً مدربهم الذي يلقي من حين لآخر توجيهاته.
تعجبت من هذا التنظيم الذي يدل على وعي كبير بأهمية الرياضة، الرياضة هنا ليست كلمة مطلقة ندعو إليها ونتشدق ونتبجح بلا تنفيذ، ولكنها كما يبدو منهج وتنظيم وسلوك يهتم به الجميع.
تمنيت أن أقابل المسئول عن الرياضة في هذه البلاد لأحييه على الاهتمام بالرياضة، وهذا التنظيم العمري الذي قسم اللاعبين إلى أطفال وصبية، وشباب، الملاعب الثلاث متجاورة، وكل ملعب يلعب به لاعبون من سن معين، من المؤكد أن هذا التجاور،  وهذا التصنيف لم يأت اعتباطاً أو صدقةَ، ولكنه جاء تخطيطاً وتنظيماً، إنهم يريدون أن يرسخوا اهتمام الأجيال المختلفة بالرياضة، لم يفعلوا ذلك بالوعظ والتلقين، ولكن بالتجربة والاحتكاك.
الطفل الصغير الذي يشاهد الصبية الذين يكبرونه يمارسون الرياضة في الملعب المجاور، أيضاً يرى الشباب يلعبون في الملعب الذي يليه يترسخ عنده الإيمان بأهمية الرياضة، وبالنظر إلى أن عادات كثيرة نكتسبها بالتقليد، فإن الرياضة ستصبح بذلك عادة جميلة مكتسبة منذ الصغر.
العلماء يقولون أن الأطفال من سن الثامنة إلى الخامسة عشر يتعلمون عاداتهم وسلوكياتهم بالتقليد، وهذه المجاورة ستدفع الأطفال لا شك إلى تقليد الكبار، فتصبح الرياضة عندهم سلوكاً وأسلوباً للحياة.
تعرفت على الفرق التي تلعب،  وبدأت بالأطفال،  ثم الصبية،  ثم الشباب، وتعرفت على مدربيهم،  والتقطت معهم الصور التذكارية، وحاورت بعضهم في أمور شتى، ولا ضير من اللعب معهم لبعض الوقت.
تذكرت الكرة الشراب التي كنا نلعب بها في شوارعنا القديمة، تذكرت ملاعبنا المدرسية التي اختفت الآن تحت زحف الأبنية التعليمية الخرسانية الجديدة، وصوت الكاتب إبراهيم حجازي الذي بُح من كثرة مناداته بعودة الرياضة إلى مدارسنا، تذكرت الشكل البيضاوي لأجسام المصريين رجالاً ونساء والكروش الموقوتة التي تقابلك في كل مكان، أردت التعبير عن غضبي فلم أجد غير الكرة فضربتها بقدمي ضربة قوية أطاحت بها خارج الملعب.
إنني أدعو لتبني مشروع (الرياضة للجميع) على غرار مشروع (القراءة للجميع) والذي يعتبر أهم منجز معرفي تشهده مصر في تاريخها الثقافي، حيث أعاد المشروع للكتاب ريادته،  ووفر الكتاب بأسعار زهيدة للجميع. نريد أن نوفر الرياضة لملايين المصريين.

السمر ولاّ البيض
تتميز المرأة الدنماركية بسمات عامة معينة،  منها بياض البشرة، وصفار الشعر،  وملاحة الوجه،  والعيون المائلة إلى الاخضرار، وهي مواصفات أصبحت ماركة مسجلة للفتاة الأجنبية، تلك التي تختزنها في الذهن، وتجسدها مسلسلاتنا التليفزيونية وترسمها السينما.
 رغم أن مثل هذه المواصفات أحيانا قد تجدها عند فلاحة مصرية، فلاحة بنت فلاح، أيضاً من الممكن أن تجد الأمريكية السوداء، وذات الشعر الأسود، بل أنك في أمريكا نفسها تجد العديد من الأعراق والأشكال، حيث يتفاخرون هناك بأنهم شعب من عدة شعوب، وإن شاء الله تأتي "العولمة" لتقضي عملياً على كل الحواجز النفسية والشكلية والموضوعية بين الشعوب،  ليصبح العالم كله شعب واحد في وطن واحد اسمه العالم.
ومن المعروف أن هذه المواصفات الشكلية للفتاة الأجنبية تحلم بها الفتاة العربية، فتلجأ إلى أحدث مستحضرات التجميل العالمية، فهذه صبغات بكل الألوان تحول شعرك إلى اللون الأشقر في دقائق، وهذه عدسات تجعل العين السوداء خضراء، وهذه كريمات تجعل البشرة السمراء بيضاء بقدرة قادر.
ولكن الأغرب أن الفتاة الدنماركية نفسها تحلم بالمواصفات الشكلية للفتاة العربية، تحلم بالبشرة السمراء الجذابة التي لوحتها الشمس، والعيون السمراء التي تختزن السحر، هل تصدقون ذلك؟، نعم، حلم الفتاة الدنماركية الآن الحصول على بشرة سمراء كتلك التي تتمتع بها الفتاة المصرية، وتنفق في سبيل ذلك الجهد والوقت والمال.
لذلك اخترعوا جهازاً خاصاً يحول البشرة البيضاء إلى برونزية سمراء، تستلقي الفتاة داخل الجهاز لعدة دقائق يومياً ، فتتحول بشرتها بالتدريج إلى اللون الأسمر.
وفي شوارع كوبنهاجن تنتشر المحلات التي تقدم هذه الخدمة، مثلاً هذا محل اسمه – SUN MATIC، وهذا محل آخر اسمه SUN STATION, SOLCENTER، والجهاز المذكور يعتمد على تقنية الحرارة لتغيير لون البشرة إلى اللون البرونزي أو القمحي، جهاز يشبه جهاز تسخين الخبز الكهربائي،  ولكنه كبير الحجم، تنام المرأة داخله عارية على زجاج معين، تحت هذا الزجاج عدد من لمبات النيون المضاءة بقوة، أيضاً الغطاء العلوي للجهاز مبطن بنفس الزجاج، وخلفه عدد من اللمبات القوية، وعندما يقفل الغطاء على الجسد يصبح كل الجسد خاضعاً للإضاءة القوية، وكما هو واضح أن الحرارة القوية الناتجة عن الإضاءة الشديدة المركزة تؤدي إلى تغيير لون الجلد إلى اللون الأسمر البرونزي.
كل مركز من هذه المراكز يحتوي على عدد من الحجرات، كل حجرة تحتوي على جهاز، يمكنك دخول إحداها دون استئذان، وذلك بوضع عدد من العملات المعدنية في جهاز خاص فتفتح الغرفة،  ويعمل الجهاز، تدخل الغرفة وتغلقها عليك، وتخلع ملابسك،  وتعلقها على شماعة خاصة، وتستلقي في الجهاز،  وتغلقه عليك للمدة التي ترغبها، وهكذا تفعل كل يوم لفترة من الوقت، وبالتدريج يتحول لون الجسد من الأبيض إلى الأسمر.
داخل هذه المراكز يعلقون صوراً عدة لفتيات جميلات يرتدين المايوه يتمتعن بالبشرة البرونزية السمراء التي تحلم بها كافة بنات الدنمارك ..
أتذكر أن هناك أغنية مصرية جسدت هذه الحيرة عنوانها (السمر ولاّ البيض) تجسد حيرة العاشق بين السمراوات والبيضاوات
حكمتك يا رب ..!
وحقاً .. لولا تنوع الأذوات لبارت السلع ..

حلم وكابوس
والإقامة في الدنمارك قد تكون حلماً للكثيرين، فهي بلد جميل، المعيشة به تطيل العمر، فكل سبل الحياة الحديثة متوفرة، كل سبل الرفاهية، الدخل المرتفع، الرعاية الاجتماعية المتكاملة، الجمال، النظام، الحرية، الهدوء، حتى أنني لا أذكر أنني سمعت كلاكساً لسيارة أو أتوبيس أو شاحنة،  أو حتى قطار طوال إقامتي هناك، القطار يتحرك بهدوء لدرجة أنك لا تسمعه، تلتفت فجأة فتجده وراءك، فتضطرب، فقط أتذكر رنين الدراجات ..
وقد احتلت الدنمارك عام 2000 المركز الرابع في قائمة أغنى دول العالم، حيث أعلن البنك الدولي أن سويسرا حافظت على مركزها كأغنى دولة في العالم، يليها النرويج، ثم اليابان، ثم الدنمارك، بينما جاءت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز الخامس. وفي استطلاعات أخرى تالية تصدرت الدنمارك دول العالم في مقياس السعادة.
ولكن مخطئ من يظن أن الدنمارك فقط هي هذا الوجه المثالي الجميل، فإلى جانب الجمال توجد أيضاً الجريمة والإدمان والسطو .. وهذه مظاهر موجودة في كل المجتمعات.
سجل أحد الهواة بكاميرته المصورة مشهد هروب بعض المساجين من أحد سجون كوبنهاجن، وأظهر الشريط كيف أنهم لجأوا إلى حيلة غريبة، حيث تسلل أحد المساجين إلى أحد الأوناش الكبيرة داخل السجن،  وقادها،  واقتحم سور السجن الذي انهار ، وأحدث فتحة كبيرة انطلق منها عدد كبير من المساجين، وصادف أن وجد في المكان المصور الهاوي الذي صور الحدث بكل تفاصيله، وساعد هذا الشريط المصور على القبض على المساجين الذين هربوا واحداً تلو الآخر ..
ظلت الدنمارك مطمحاً للكثيرين، يحلمون بالسفر إليها والعمل بها، لذلك تشهد البلاد موجات متتالية من الشباب العربي الباحث عن فرصة في غد أفضل، ولكن المشكلة أن نظام العمل والإقامة حاسم، لا يسمح بوجود الهجرة غير الشرعية، فلا مجال إلا للمقيم نظامياً، أما الآخرون فيصطدمون بالعديد من العوائق، مثلاً أن العمل لا يتم إلا بموافقة مكتب الإقامات، وترفض معظم الجهات توظيف الأشخاص إلا بمعرفة هذا المكتب.
هناك نوع من العمل الغير نظامي يطلقون عليه Black أي أسود ، وفيه يمكن للمقيم غير النظامي أن يجد عملاً، وتجربة العمل بهذه الطريقة سوداء كما يدل اسمها، لأن أصحاب العمل يستغلون عدم شرعية إقامة العامل،  فيمنحون أجوراً ضعيفة قد لا تتعدى 70 كرونا في اليوم الواحد.
لذلك نلاحظ أن أعداداً كبيرة من القادمين إلى الدنمارك بتأشيرة سياحية، ويحملون بالاستمرار ، والحصول على عمل يفشلون في ذلك،  ويعودون إلى بلادهم،  وذلك عندما يصطدمون بالواقع المر.
في مطار كوبنهاجن قبل ر حلة العودة قابلت ثلاثة شباب مصريين حكايتهم مؤلمة، الثلاثة مرحلين بواسطة الشرطة الدنماركية إلى القاهرة، ترى ما هو السبب؟، السبب أن هؤلاء الثلاثة تعرضت حقائبهم للسرقة من محطة كوبنهاجن الرئيسية، حدث ذلك عندما قام الثلاثة بترك الحقائب على الأرض،  وذهبوا للحديث في الهاتف، وعندما التفتوا لم يجدوا الحقائب، بالطبع جن جنونهم،  وأخذوا يتخبطون هنا وهناك بحثاً عن الحقائب دون جدوى، وضاعت الحقائب،  والمشكلة أنها كانت تحتوي على جوازات السفر الخاصة بهم.
فما كان من هؤلاء إلا إبلاغ مركز الشرطة عن سرقة الحقيبة وبها جوازات السفر، الشرطة حولتهم للسفارة المصرية، السفارة المصرية قامت بدورها في مثل هذه الحالات، ومنحتهم وثائق يسافرون بها، وقام عنصران من الشرطة الدنماركية بملابسهم المدنية بمصاحبتهم إلى المطار للتأكد من مغادرتهم البلاد كما يحدث غالباً في مثل هذه الحالات.
علمت منهم أن تذاكر السفر فقط كانت موجودة مع اثنين منهم ولم تفقد، والذي حدث أن ثالثهم الذي ضاعت تذكرة سفره منحته الحكومة الدنماركية تذكرة سفر ليسافر مع زملائه، أعجبني جداً هذا الموقف الإنساني للحكومة الدنماركية، وتساءلت في نفسي ألم يكن الأجدر والأكرم لمواطنينا ولاسم مصر أن تقوم السفارة المصرية بتقديم هذه التذكرة للمواطن المصري المنكوب، خاصةً وأنها قادرة على جزّ ثمنها من المواطن بعد عودته بالطرق الإدارية الصارمة ..؟ ، سؤال ..  من يتصدى للإجابة عليه ..؟
طلبت من هؤلاء المرحَّلين أن يشكروا رجليّ الشرطة الدنماركية والحكومة الدنماركية على هذا الموقف، بل واقترحت عليهم إرسال برقية شكر لملكة البلاد، وأشفقت عليهم في سري لحفاوة الاستقبال التي سيلاقونه في مطار القاهرة، هذه الحفاوة التي يستقبل لها كل من أضاع جواز سفره خارج الوطن.
من ذلك يتضح لنا أن الحلم الدنماركي يتحول أحياناً إلى واقع، وفي أحايين كثيرة يتحول إلى كابوس ..!

الزلزال
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001  التي حدثت في واشنطن ونيويورك بمثابة الزلزال الذي هزّ العالم، وأفرز الكثير من التبعات داخل أمريكا وخارجها، ومن الآثار التي أفرزتها تأثيرها على العلاقات الدولية، وتأثيرها على النظرة للعرب والمسلمين.
تفجرت الأحداث عندما قام عدد من الأشخاص باختطاف عدد من الطائرات، وهاجمت هذه الطائرات في عملية انتحارية غير مسبوقة بعض المنشآت الهامة في نيويورك وواشنطن، في البداية اقتحمت طائرتان في توقيت متتالي برجي مركز التجارة العالمي أحد أهم معالم الولايات المتحدة الأميركية، ورمز القوة والمال والاقتصاد الأميركي، وقامت طائرة باقتحام أحد أجزاء مبنى البنتاجون وزارة الدفاع الأمريكية المبنى الذي تدير منه أمريكا العالم.
بعد ذلك بساعات أسقطت الطائرة الرابعة في بنسلفانيا، وكانت تهدف إلى ضرب مبنى الكونجرس الأميركي ..!
ومنذ اللحظة الأولى للحدث ألصقت الولايات المتحدة الأميركية التهمة بالإسلام والمسلمين، وكان ذلك بداية لسجال حضاري مازال مستمرا حتى الآن حول التطرف والإسلام،  وما قيل عن حرب دينية جديدة ..
لذلك اتجهت الحكومات الأوربية إلى مراجعة قوانين الهجرة،  وتعديلها بما يمنع تدفق المهاجرين العرب، وقد تعرض المقيمون العرب والمسلمون في عدد من هذه البلاد إلى مضايقات واستفزازات، والبعض تعرض إلى الاعتداءات.
وقد كان لهذه الأحداث أثرها أيضاً على الشعب الدنماركي والحكومة الدنماركية، فالشعب الدنماركي غضب جداً مما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، لأنه على علاقة قوية بأميركا، فالحزب الذي كان يحكم قبل الأحداث هو (سوشيال ديمقراط) وهو الحزب الذي كان ينادي بالمساواة بين الأجانب والدنماركيين، وبعد الأحداث بفترة أجريت انتخابات، وفازت ثلاثة أحزاب، لانسفون كبرتي، وكونسر تفز، وحزب اليسار وهو منسترا، وهذه الأحزاب الثلاثة هي التي شكلت الحكومة الدنماركية.
وكان من نتيجة ذلك أن الحكومة أعدت قانوناً جديداً ضد الأجانب، ومن المتوقع أن يوقف هذا القانون حضور الأجانب للدنمارك، فإذا نظرنا إلى معدل الحصول على إقامات للأجانب سنجده يقدر بـ 2000 سنوياً، لذلك يحاولون إيقاف هذه الظاهرة، ولهم الحق في ذلك، مثلاً أسرة مغربية تحصل على إقامات، الإناث في الأسرة تريد الزواج، يسافرن إلى المغرب،  ويتزوجن أولاد عمومتهن، ثم يحضر الأزواج معهن، فيحصل أبناء عمومتهن على إقامات، وينجبن فتذهب بناتهن لإحضار المزيد من الأجانب وهكذا.
كل شخص يقيم في الدنمارك يحضر معا شخصاً أو أكثر، وهذا عبء على الدولة، من هنا جاء تشديد الإجراءات،  وتصعيب الشروط، على سبيل المثال أي شخص دنماركي يريد الزواج من خارج الدنمارك يجب أن يكون له حساب ضمان به خمسون ألف كرونا، يجب أن تكون لديه شقة مساحتها مناسبة، ولا يحصل القادمين إلى الدنمارك الآن على الإقامة الدائمة إلا بعد سبع سنوات، لا يحصلون على إعانة من الدولة خلال هذه السنوات، الجنسية أيضاً أصبحت شبه مستحيلة، فيجب مرور عشر سنوات للحصول عليها دون اقتراف أي خطأ حتى ولو كانت القيادة بسرعة عالية، وغيرها من المخالفات،  فالقوانين تم تشديدها، وتم تنفيذها، وهذه كلها إجراءات من المنتظر أن توقف تدفق المهاجرين إلى الدنمارك.

"غسالة" لكل ثمانية
البيت الدنماركي أنيق ومرتب، وهو غالباً صغير الحجم،  ولكن به استغلال جيد للمساحات، معظم المواطنين يسكنون في بنايات سكنية، كل بناية لا تتجاوز طابقين أو ثلاثة، وفي أحيان أخرى تسكن العائلة في فيلا خاصة من دور أو اثنين، أي أنه لا توجد عمارات عالية أو ناطحات سحاب كما يوجد في أميركا، وذلك طبيعي لأنه لا توجد مشكلة سكنية مزمنة تستدعي التوسع الرأسي.
وطرق البناء في الدول الغربية عموماً تختلف عن طرق البناء في العالم العربي، وذلك لاختلاف البيئة والعادات والظروف الاجتماعية، ولاشك أن أهم اختلاف يكمن في طريقة تشييد السقف، فالسقف في الغرب يتخذ غالباً الشكل الهرمي، وذلك حسب تفسيري حتى لا يتجمع الماء الناتج عن المطر والثلوج المتساقطة عليه.
 الطبيعة غالباً ما تفرض شروطها ليس على طعامنا وشرابنا وملبسنا فقط، وإنما على طريقة البناء أيضاً، أثناء تجوالي في إحدى المناطق صادفت بيتا تحت الإنشاء فاقتربت والتقطت الصور له، وتوضح الصور أنهم يستعينون في تسقيف المنزل بمواد مختلفة منها الخشب والمشمع والطبقات الأسمنتية الجاهزة والمواد العازلة.
ويلاحظ أن كل شيء في الدنمارك مجهز ضد البرد، ومن ضمن ذلك البيوت، فالملابس ثقيلة، أغطية خاصة للرأس، جوارب سميكة، والمنازل لابد وأن تكون مجهزة بدفايات حرارية خاصة، البلدية مجهزة بكاسحات للثلوج، حيث تسقط الثلوج بغزارة عدة شهور من السنة حتى تغطي الشوارع والبيوت، مما يدفع الناس إلى التزلج بدلاً من المشي.
والشقق صغيرة الحجم، ولكن الاستغلال الجيد للمساحات قد يكون سمة عامة للأوروبيين، فرغم صغر الحجم فإن الشقق لا ينقصها شيء، شقق مرتبة، أنيقة، ولكن المشكلة أن أسعار الشقق نار، فالشقق يبدأ سعرها من 600000 كروناً ، وقد يصل إلى المليون، وغالباً ما تلجأ الأسر إلى شراء الشقق بالاستعانة بأحد البنوك مقابل فوائد محدودة.
تحتوي كل بناية على عدد من الشقق يصل عددها إلى ثمانية أو أكثر، والشقق عادةً صغيرة ، حجرتان وصالة ومطبخ وحمام، ولكن مع صغر الشقة تتمتع البناية بحديقة مناسبة تقع خلف المبنى أو دائرية تحيط به، وفي الحديقة غالباً ما تجد مقاعد للجلوس، وألعاب للصغار، وجراج صغير للدراجات وعربات الأطفال.
للبناية بدروم كبير يحتوي على غرفة جماعية للغسيل، يشترك فيها كل السكان، وفيها توجد غسالة أتوماتيكية حديثة بجوارها ملحقاتها وآلة للشطف، على الحائط  ستشاهد لوحة خشبية كتلك التي تعلق في المدارس، معلق عليها جدول يوضح الأيام المخصصة للغسيل لكل عائلة، وغالباً ما يكون لكل شقة يومان محددان للغسيل.
نظام غريب لا نجده عندنا، فالشقق هنا لا تحتوي على غسالات، ولكن غسالة واحدة لكل الشقق يشترك فيها الجميع، يشتركون في سعرها، كما يشتركون في الكهرباء المستخدمة بها..، والجميع مرتاحون مبسوطون ولا مشكلة.
بجوار حجرة الغسيل توجد حجرة أخرى كبيرة لتعليق الملابس حتى تجف، وهي مرادفة للسطوح عندنا، وبالطبع لا يمكن أن يستخدموا الأسطح مثلنا،  لأن الأسطح لديهم هرمية غير مجهزة لذلك، لذلك هم يفتقدون إلى ما يمكن أن نسميه "ثقافة السطوح" ، وهي العلاقات الاجتماعية بين الجيران، وقصص الحب التي تنشأ في جنباته، وجميع السكان معهم مفتاح لحجرتي الغسيل وتجفيفه، عدا ذلك كل شقة لها حجرة صغيرة بقفل خاص مخصصة لها كمخزن تخزن فيها الأسرة الأشياء الزائدة كالمراتب والأواني وغيرها ..
والغسيل بهذه الغسالة أسهل شيء على الإطلاق، فليس عليك إلا أن تضع ملابسك في طاقة الغسيل،  وتضع المؤشر على التوقيت المطلوب، وعندما تعود ستجد ملابسك نظيفة مجففة جاهزة للكي فوراً.
نظام اقتصادي جميل يوفر الوقت والمال والجهد والمساحة، نظام تعاوني يجعل البناية كلها أشبه بعائلة واحدة متعاونة، لماذا لا نطبق هذا النظام في مصر؟، نظام اقتصادي يضرب صناعة الغسالات في مصر،  ويوفر الكثير من المال للأسر، وهذا مؤكد،  لأن البناية التي تتكون من ثماني شقق ستستخدم غسالة واحدة بدلاً من ثماني غسالات، نظام يقلل خناقات الجيران عندما ترمي إحداهن حلة ملوخية من أعلى فتسقط على غسيل الأخرى، ويقلل من عمليات سرقة الملابس وقص حبال الغسيل . أليس كذلك ..؟

ديسكو بالملابس الرسمية
كما أن الرقص البلدي والشرقي صناعة مصرية، الديسكو صناعة غربية، حيث يقدس الأوربيون هذا النوع من الموسيقى، ففي أميركا مثلاً يعتبرون موسيقى الجاز جزءاً من الشخصية الأميركية وأحد عوامل الإلهام بها.
وفي الدنمارك يعتبر الديسكو أحد المظاهر الأساسية في ثقافة هذا الشعب، الموسيقى ليست علماً أو فناً، ولكنها حالة تجري في دمه، مازلت أتذكر الفتاة الصغيرة التي كانت ترقص في الميدان لوحدها على أنغام الفرقة الموسيقية، كانت الفتاة ترقص بجسدها وروحها ومشاعرها، الموسيقى غيبتها تماماً عن الواقع،  فأصبحت عصفورة ترقص في النار.
ونظراً لأن يوم الأحد هو العطلة الرسمية هناك، فإن ليلة السبت هي الليلة الموعودة، ليلة السهر والأنس والفرفشة، بها يخرج الجميع، الأسر والأحبة والأفراد والمجموعات لقضاء السهرة في البارات والمراقص حتى الصباح ، وأحياناً ما بعد الصباح.
الساعة الآن التاسعة من مساء السبت، دعاني صديقان مصريان لقضاء الليلة في الديسكو، الأول "صلاح" شاب ناجح يعمل في إحدى شركات الصيانة متزوج من دنماركية،  وله منها طفل جميل، والآخر "أيمن"  شاب جامعي متزوج، الأول دون جوان حقيقي، له القدرة الكبيرة على اصطياد النساء، عندما يدخل حلبة الديسكو ويرقص لا يمكن أن تصدق أنه مصري، وكان بحق مرشدنا لأسرع الطرق للتعرف على فتاة، وكنا ننصت إليه أحياناً كالتلاميذ، ونراقبه أحياناً أخرى،  ونرى كيف يمكنه الإيقاع بفتاة في دقائق.
أما أيمن فكان من النوع الغشيم، قروي من محافظة المنوفية، وجد نفسه فجأة في عالم الأحلام، لذلك فهو حمار في معاكسة النساء، إذا اقترب من إحداهن ليحادثها يفتح فمه، ويرفع رأسه بطريقة لا إرادية فيثير شكله الضحك، ولكن العجيب أنه كان ينجح في الإيقاع بالفتيات، أرزاق ..!
يقولون عنه أنه ربع مليونير، لا عمل له إلا العمل، فهو يعمل أكثر من 12 ساعة في مطعم درجة أولى يقع في منطقة شهيرة بجوار التيفولي، وهو متزوج هو الآخر من دنماركية ، ولكنها تقطن في مدينة أخرى، وعندما سألته: "لماذا"، علمت أنها تدرس، وكليتها تقع في مدينة مجاورة، ويلتقيان كل أسبوع، عندما سألته عن تجربة الزواج من دنماركية، أجاب بأسى وقال: "لا أنصحك.." ..!، لم أود الاستطراد معه في ذلك، فمن رده تشعر أنه مر بتجربة مريرة.
الآن نتأهب للنزول، صديقي صلاح أشار معترضاً على ملابسي التي كانت عبارة عن بدلة كاملة، واقتراح أن أرتدي زياً مختلفاً حتى أكون على حريتي، واقترح أن ارتدي سويتر حتى أكون مثل مواطن البلاد، وحتى لا يعرف الناس أنني غريب، .. منطق سليم ، فمن زيك سيعرف الناس أنك سائح،  ومن الممكن أن يجعلك ذلك هدفاً للنصب أو السرقة، وافقت وغيرت ملابسي بسرعة فهو الأدرى،  و"أهل كوبنهاجن أدرى بشعابها" ..، خرجنا ثلاثتنا، في الطريق أخذنا نصفر ، ونغني أغنيات مصرية شعبية ..
في القطار المتوجه من "فودوفغا" إلى "السنتر" كانت هناك كثافة غير عادية من الركاب، والسبب معروف، فالجميع متجهون إلى وسط البلد لقضاء ليلة العطلة ..، جاءت جلستي كالآتي .. أنا وبجواري إحدى الفتيات، وأمامي الصديق صلاح وبجواره شخص صامت تبدو عليه ملامح القسوة، أما صديقنا أيمن فكان بجوارنا في المقعد الآخر، وبجواره شاب تركي يتحرك كثيراً ..
الجالسون في القطار من شباب وفتيات لا يتكلمون، لماذا لست أدري، تلك الملاحظة التي استرعت انتباهي دائماً ..، لطالما أبديت هذه الملاحظة في أكثر من نقاش، وتساءلت لماذا هذا الصمت المطبق على الجالسين في القطار ..؟، ربما لأنني تعودت على ضجيج قطارات مصر،  وباعة الكازوزة،  والأمشاط،  والمناديل،  والشحاذون الرواة،  وحكاياتهم التي تقطع القلب..
الشاب التركي الذي يتحرك كثيراً يضع يده في جيبه،  وينتقل إلى شاب يجلس في المقعد الذي ورائي وبجواره فتاته، يحدثه التركي الشاب ويده في جيبه محاولاً إقناعه بشيء ما، التفت لأرى الشاب التركي، كان يحمل في يده قطعة حشيش كبيرة الحجم، إذا ضبطت مع شخص في مصر سوف يأخذ تأبيدة، وراح التركي يحاول إقناع الشاب بشرائها، تابعت المناقشة.
 التركي يعرض قطعة الحشيش بـ 600 كرونا ، ويواصل تشويق الشاب وإغرائه من حين لآخر بشم قطعة الحشيش،  لكي يثبت له جودة الصنف، عندما لم يجد منه قبولاً أنزل السعر إلى 500 كرونا، فلم يتحمس الشاب، وعندما لم يفلح مع هذا الشاب، انتقل التركي إلى صديقي صلاح الجالس أمامي، وراح يعرضها عليه.
أخرج صلاح إحدى يديه من البالطو الأسود الذي يرتديه بهدوء، وتناول قطعة الحشيش وقربها من أنفه،  وشمها كالخبير،  ثم أعادها بهدوء لصاحبها معتذراً متعللاً بأن هذا الصنف لا يحبه، أعاد الشاب محاولاته،  وأنزل سعرها إلى 400 كرونا، ثم 300 كرونا، ثم أنزلها يائساً إلى 200 كرونا، يا بلاش، سعر ضئيل جداً لقطعة من الحشيش تقترب من حجم كف اليد، وعندما رأى صلاح إلحاح التركي أخبره أنه بفضل الكحول، وأكمل حديثه مع الرجل الغامض ذو الملامح القاسية الجالس بجواره محاولاً جره للمناقشة، "ألا تفضل الكحول؟"، فأشار الرجل بإيماءة تعني الجواب.
وانتقل صديقي صلاح للحديث معي مخففاً من انزعاجي من هذا الموقف،  ليخبرني بكل هدوء أن الكحول أفضل من الحشيش، فأشرت له بالإيجاب،  وكأنني خبير في الكحول ومدمن محترف ..
انتقل الشاب التركي عارضاً قطعة الحشيش على آخرين، وبعد دقائق توقف القطار في محطة (السنتر) ونزلنا، سارعت إلى صلاح وسألته عن الأمر، وأنا أتابع الشاب التركي وهو يضرب أحد الشباب على كتفه،  وهو يمشي بعد أن يئس من بيعه البضاعة، قال لي الصديق المقيم بالدنمارك منذ سنوات أن الشخص الغامض ذو الملامح القاسية،  والذي كان جالساً بجواره ما هو إلا تاجر مخدرات، وهو "يسرّح" هذا الشاب التركي ليبيع، أما هو فيراقب من بعيد، وهذا أسلوب معروف في بيع المخدرات.
سألته عن كيفية تعامله مع هؤلاء، قال لي " إذا أقمت في هذه البلاد يجب أن تكون يقظاً وإلا ستضيع، يجب أن يكون لك أربعة عيون، تمشي وعينك تلمح بذكاء ما يحدث بجانبك وخلفك".
سألته عن الطريقة التي كان يتحدث بها، قال لي: "إنني كنت "أقلبهم" لأعرف ماذا يريدون بالضبط" ..!
روى لي صلاح  أنه في أحد المرات قابل مجموعة من المتعصبين الذين لا يحبون العرب، وأرادوا التحرش به والتصادم معه، فما كان منه إلا أن تعامل معهم بثقة كاملة، اقترب منهم،  ووضع إحدى يديه في جيب سترته، فظن المتعصبون أنه يحمل سلاحاً ، فانصرفوا بسرعة كالأرانب عندما تسمع وقع الأقدام ..!
بعد دقائق من المشي وصلنا إلى ملهى (البارون) أشهر ملهى وبار في العاصمة، تتميز واجهته بوجود تمثالين من الحديد لفارسين يرتديان خوذات القتال وفي أيديهما الأسلحة، وهو يقع مقابل "التيلولي"، شاب مفتول العضلات حليق الشعر أشبه بالبودي جارد يقف على الباب يشرف على تنظيم الدخول، سعر الدخول للفرد 30 كرونا، ما أن أخذنا موقعنا في الصف،  وبدأنا نتجاذب الحديث مع فتاة جميلة واقفة معنا حتى فوجئنا بأخونا البودي جارد يخبرنا أن الدخول بالملابس الرسمية، أسقط في أيدينا جميعاً، ونظر كل منا إلى ملابسه، فلا أحد منا يرتدي الملابس الرسمية، وكانت مفاجأة ..
الغريب أنني كنت في البداية مرتدياً البدلة الكاملة، ولكني أذعنت لرأي الصديق صلاح فارتديت السويتر ، وقلنا أن أهل كوبنهاجن أدرى بشعابها، تذكرت الفنان حسين فهمي الذي منع في إحدى دورات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الجمهور من الدخول إلا بالملابس الرسمية، وكيف قامت عليه الدنيا ولم تقعد حتى الآن، تذكرت إدارة دار الأوبرا المصرية التي طبقت هذا النظام لفترة،  وثارت عليها الأقلام ، وتبارى رسامو الكاريكاتير في السخرية منها، الآن أنظروا .. بار ..مجرد بار ، ويشترط الدخول بالملابس الرسمية ..!
التفت إلى الأصدقاء قائلاً .. ما العمل ..؟، اقترح أحدهم أن نعود إلى المنزل لنغير ملابسنا، ولكن الآخر تعلل أن الوقت تأخر والسهرة ستضيــــع، واستــقر الأمر على أن نذهب لملهى آخر ويبعد عن موقعنا بمحطتين، وهو أيضاً ملهى شهير به "إمكانات" عالية.
ركبنا الأتوبيس متوجهين إلى الملهى الآخر، وبعد أقل من عشرة دقائق وقف الأتوبيس أمام الملهى، مظهر الملهى من الخارج لا يوحي أنه يعمل، الشارع غير مضاء والأضواء خافتة، حتى أننا لا نعرف أين الباب الرئيسي المخصص للدخول، لا يوجد أي شخص يمكن سؤاله عدا شاب يقف على الباب، سألناه : هل الملهى يعمل أم لا ..؟، فأجاب بالإيجاب، ولكنه أخبرنا أنه اليوم (Full) أي كامل العدد.
 حاولنا إقناع الشخص بإيجاد تذاكر لنا فاعتذر بأنه لا يستطيع، الإحباط تجسد على وجوه ثلاثتنا، والسهرة ستضيع، قال صلاح موجهاً كلامه إلى الشاب: "سندفع 100 كرونا للتذكرة"، فأشار معتذراً، فأردف بجدية "سندفع 200 كرونا للتذكرة" فأشار الشاب مرة أخرى بإيماءة النفي، أصبنا جميعاً بالخيبة، فانصرفنا يائسين..، بعد أن انصرفنا سألت الصديق: "هل كنت تنوي دفع 200 كرونا في التذكرة"، أجاب: "بالطبع لا ولكن حتى أجعله يتحسر على ضياع مثل هذا المبلغ منه طوال الليل" ..
تذكرت أيام الشباب عندما كنا في مسرح رومانس بالقاهرة، حيث كنا نقطع تذكرة المسرحية فئة الخمسين جنيهاً، وبعد دخولنا المسرح،  وجلوسنا في مقاعدنا الخلفية، نتفاوض مع عامل الصالة الذي يحمل كشافاً في يديه،  ويرشد المتفرجين إلى مقاعدهم، نعطي له خمسة جنيهات، فينقلنا إلى الأماكن المخصصة للتذاكر فئة المائتي جنية، ولكن ذلك يتم بعد المشهد الأول بطريقة التهريب، عندما تظلم الصالة، نتحرك بسرعة إلى المكان الجديد،  ونهز رؤوسنا في براءة وكأن شيئاً لم يحدث.
استقر الأمر على الذهاب إلى ملهى "قرديحي" والسلام حتى لا تضيع السهرة، ركبنا الأتوبيس مرة أخرى عائدين إلى "السنتر" وفي شارع قريب دخلنا ملهى ، وكان الدخول بلا مقابل، ألم أقل لكم ملهى قرديحي.
الملهى في الدنمارك عالم غريب له طقوسه الفريدة، إذا تصدى روائي مثل نجيب محفوظ للكتابة عنه سيكتب رواية كاملة عن شخوصه وأحداثه وأطواره، عند دخولك ستصعد بعض الدرجات لتجد على يسارك طابوراً من الناس شباب وفتيات يقفون أمام شباك صغير يقف به عامل، كل شخص يخلع السويتر أو جاكيت البدلة التي يرتديها،  ويعطيها للعامل،  فيحفظها لديه في دواليب خاصة ، ويعطيك رقماً معينا، وذلك مقابل عشرة كرونات، عند الخروج تقدم له الرقم لتحصل على السويتر أو جاكيت البدلة الخاصة بك.
بعد ذلك تدخل صالة الديسكو، الصالة مزدحمة عن آخرها بالرواد، لا مكان لقدم، الناس يتحركون بصعوبة في الزحام، وموسيقى الجاز الصاخبة تصم الآذان، والجميع يرقصون، ومن لا يستطيع الرقص لعدم وجود المساحة الكافية يرقص بيديه المرفوعة عالياً، أما البار فيبدو من بعيد يقدم لزبائنه كافة المشروبات من المياه العادية إلى الكحول.
رغم الزحام الشديد أوجد لي صديقي مكاناً استراتيجياً على "البست" مباشرةً، أما هو وصديقنا الآخر فقد وجدا أمكنة متباعدة، الموسيقى لم تزل صاخبة، شباب وفتيات من جميع الأعمار يرقصون رقصة النار، إيقاع الجاز الصاخب يملأ الهواء، يدخل في الشرايين ويسري في الدم، فتتحول الأجساد إلى كائنات راكبها عفريت، إذا نظرت حولك سترى مشاهد مثيرة، شاب وفتاة تركا هذا الجو الصاخب،  وصنعا لنفسيهما جواً خاصاً غاية في الرومانسية، الأجساد متعانقة، والشفاه تتهامس وتتخانق، والإثنان غارقان في دوامة العشق الجسدي، هي تحيطه بيديها، وهو يتجاوز فيحيطها، ويدخل يده في جيبتها من الخلف ..
مشهد آخر لشاب منهمك في تقبيل فتاته، يندمجان معاً فيميل بها الشاب على المنضدة أمامي، فتصبح مجبراً على المشاهدة، أين تنظر إذن، في السقف؟، مشهد يضارع ما تقدمه مشاهد السينما العالمية، أحاول غض البصر فلا أستطيع.
مشهد ثالث .. فتاة وشاب يتراقصان، ويقبلان بعضهما على الطريقة الفرنسية، الشفاه متلاحمة، والألسن تتصارع الصراع الأخير، والاثنان غارقان في غيبوبة الحب والجنس، وهذا شاب وفتاة نائمان على أحد المقاعد في وضع جنسي فاضح، ولكنهما يرتديان ملابسهما.
إذا رأيت مشهداً كهذا في البار، أو محطة الأتوبيس، أو أي مكان عام لا تندهش، فمثل هذه المشاهد عادية جداً، إذا أردت الفرجة أنظر على كيفك، ولكن لا تبحلق فيهما حتى لا تخدش حيائهما،  فيأتي البوليس ليجذبك من قفاك، فقط تفرج من بعيد ..
عالم غريب، كل شخص له عالمه الخاص، فهذا رجل لعبت الخمر برأسه فصعد على أحد الطاولات،  وأخذ يرقص رقصات غريبة،  وفي يده كأسه الممتليء، وهذه فتاة لم يمنعها الجلوس من الرقص فأخذت ترقص وهي جالسة، وهذه مجموعة من الأصدقاء يقرعون الكؤوس في وقت واحد ثم يشربونها في دفعة واحدة، والبسمة على وجوه الجميع ..
كل فترة من العزف تتوقف الفرقة لفترة استراحة، يديرون بها موسيقى مسجلة ثم تعود الفرقة، وكأنك وضعت الزيت على النار، فتشتعل الساحة من جديد، تمنيت حينها لو كان لدي شريط رقص بلدي على واحدة ونص لكي أديره لهم لأرى ردود فعلهم تجاه موسيقانا الشرقية العتيدة، سألني الصديق "ماذا تأخذ"، فأجبت "ساندوتش"، وضحكنا كما لم نضحك من قبل ..!
..................
اعتقدت واهما أن البيرة أقل ضررا، بدأت أكواب البيرة تهتز ، وتتضاعف أمامي بعد تناول الكأس الرابع، لم أخرج عن الوعي، ولكن أصبحت أكثر جرأة في الكلام والحركة، تأملت الفتاه الجالسة أمامي ذات الملامح الجادة وسألتها بوقاحة: "لماذا لا تبتسمي؟"، نظرت لي الفتاة وقالت بالدنماركية "... في صحتك!".
لم أخرج عن الوعي هكذا أخذت أؤكد لنفسي، بدأ الزملاء يطالبونني بالكف عن الشرب، وأنا أؤكد لهم أنني على ما يرام، وأنني لم أتأثر، وأنني لم أشرب شيئاً، رغم أن ملامحي تؤكد غير ذلك، كنت أظن أن البيرة لا تؤثر على الإنسان،  ولكني اكتشفت غير ذلك، إنها تجعلك أكثر حرية وجرأة وانطلاقاً، رغم ذلك فإنك عندما تشربها يظل عقلك الباطن واعياً بالصواب والخطأ، على سبيل المثال، لا يمكن أن تمسك مسدساً وتقتل شخصاً، فذلك مستحيل، ولكن ما يمكن قوله أن البيرة تؤثر على العقل الظاهر من تصرفات الشخص وأقواله، ولكنها لا تؤثر على عقله الباطن الذي يعرف الصواب والخطأ.
دعتني الجميلة التي تجلس أمامي للرقص فتماسكت ودخلت معها حلبة الصراع، لا أدري كم من الوقت رقصنا، ولكن كل الذي أدريه أنني كلما دققت النظر في مرافقتي أجد فتاة جميلة، تبتسم وتبذل جهدها لكي تكون سعيداً.
بعد ذلك عرفت  السر حيث كان صديقي الدون جوان يقوم بعملية توريد الفتيات لي أثناء الرقص، فكما رقص مع واحدة يعطيها لي لترقص معي، ثم يرقص مع أخرى، وهكذا ..
تجربة غريبة خرجت منها بالكثير من النتائج، ولكن النتيجة الأهم التي خرجت منها أن شارب البيرة يجب أن يكون غبياً.
الرقص يعلو ويشتد ويفور كسائل مجنون في أنبوبة اختبار، الفتيل يشتعل، والكل يحتفي بالانفجار ..
كانت النداهة هناك واقفة على شاطئ البحر، في عينيها خضار السواسن، شعرها الكستنائي المبلل بالعطر والماء يتهدل على صدرها المورق بالنداوة واللذة، وفستانها المزين بقوس قزح يلمع من بعيد، تمد إليّ يديها، وأنا تائه في الغابة، أقاوم الصهد والنار كسيزيف .. الصخرة تهوي، أحملها من جديد ..

إدارة الوقت
في الدنمارك العمل له وقت، واللهو له وقت، إذا أتيت شخصاً وقت العمل،  وطلبت منه طلباً ، أو حتى سألته سؤالاً لا تندهش إذا اعتذر ، والسبب أن ذلك وقت العمل، حتى بائع اللوحات الغلبان الذي يجلس في الشارع،  وأمامه مجموعة من اللوحات – هذا كل عمله لا يخترع ولا يفعل شيئاً –عندما طلبت منه التقاط صورة له، امتعض وقال لي: "هذا وقت العمل"، فقلت في سري،  وأنا ألتقط الصورة "هل تخترع الذرة يا خيّ"، كذلك فعل رئيس الحرس الملكي أمام أميللين بورج القصر الملكي،  وقال لي بأدب "آسف لا أستطيع الآن، هذا وقت العمل".
وحب العمل وتقديس وقته من أجمل الصفات التي وجدتها هنا، إن أجمل ما يتميز به المجتمع الغربي عموماَ قدرته على إدارة الوقت، ولعل من الدلائل على شعورهم بأهمية الوقت
في الدنمارك وفي أمريكا ومختلف العواصم الغربية يتعاملون بالساعة، الساعة بـ 60 دولار، أو 100 دولار، .. وهكذا ..، مما يؤكد اهتمامهم بالكيف قبل الكم، كما يؤكد القيمة الكبرى للوقت لديهم.
الساعة لها ثمن، فما بالك باليوم كله، تأمل معي وتحسر على العامل المصري الذي ذكرت إحدى الدراسات أنه الأقل في العالم من حيث الإنتاج، وهذا لا يدهشنا، فما دام الموظف يقوم بالتزويغ من عمله الحكومي ليعمل سائقاً على تاكسي أجرة في وقت العمل، وما دامت الموظفة تأتي للعمل ومعها "التريكو" لكي تقوم بإعداد "بلوفر" لابنها، و"حلة" المحشي لكي تقوم "بتقويره" في العمل، فلا تستغرب ذلك أبداً، وقل علينا السلام ..!
الغريب أن تراثنا النثري والشعري مليء بأكوام من العبارات والنصائح المسجوعة وغير المسجوعة والتي تدعو إلى الاهتمام بالوقت، منها (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) ، ولكن هذه الأقوال ظلت دائماً مجرد مأثورات، ركاماً نلوكه دون تنفيذ، ألا يدل ذلك على أن الأمة العربية "أمه كلام"، أو "ظاهرة صوتية" كما قال موشى ديان.
ديننا يدعونا إلى النظافة، ولكننا لا نهتم بها، يدعونا إلى الرياضة فلا نهتم بها، يدعونا إلى الكثير من القيم الجميلة، ولكن لا حياة لمن تنادي، لذلك ليس عجيباً أن يتأخر المسلمون هذا التأخر الذي نراه، رغم أنهم "خير أمة أخرجت للناس"، يقول بيتر دراكر "الوقت هو أندر الموارد، ولو لم يمكننا إدارته، فلن يمكننا إدارة أي شيء آخر".
لذلك من المستحيل أن تجد هنا شخصاً واقفاً لا يتحرك، الكل يتحرك، الحركة فعل، والفعل عمل، والعمل إنتاج، وأسلوب حياة، والمحصلة واضحة، هم تقدموا وأصبحوا ينتمون إلى العالم المتقدم، ونحن تأخرنا ، وأصبحنا ننتمي إلى العالم الآخر، أقصد المتأخر.
والسؤال الآن ..
لماذا لا نطبق الساعات في العمل في مصر، ونعيد "للساعة"، بل "للدقيقة" قيمتها في نظام العمل، لماذا لا نعيد للوقت قيمته، ونفتح جميعاً أفراداً وجامعات وحكومات ملف "إدارة الوقت" حتى نستطيع إيقاف النزيف .. نزيف الوقت والأمل والمستقبل ..؟

لابد أن تفقد شيئاً
يبدو أن المقولة التي اخترعتها وهي "في السفر لابد أن تفقد شيئاً" ستصبح واقعاً يتداوله اللاحقون، ففي أحد الأيام بينما أنا أستقل القطار من "فودوفغا" إلى "السنتر"، وبينما أهم بمساعدة إحدى السيدات في إنزال عربة طفلها من القطار تحرك القطار بسرعة، نسيت حقيبتي ، وتحرك القطار ..، إنها حقاً مشكلة، ما العمل، توجهت إلى مكتب المفقودات في المحطة،  وأبلغت عن الحقيبة،  واسم القطار واتجاهه ومحتوياتها، وسجلت رقم هاتفي للاتصال بي عندما يجدونها، بعد ذلك اتصل موظفو المحطة بالمحطات التالية والتي سيصلها القطار،  وطلبوا من المراقبين البحث عن الحقيبة في القطار المتجه في اتجاه HOLT، النتائج تصل تباعاً، لا يجدون الحقيبة.
السيدة الكمسارية الجميلة ببدلتها الأنيقة تتفانى في تقديم معلومات لي عن القطارات واتجاهاتها ، وكأنني مسئول يقوم باستجوابها ، ولست مجرد صحفي من الشرق الأوسط فقد حقيبته، السيدة الكمسارية توقف القطار وتقوم بسؤال سائقه، ثم تعود وعلامات الأسف على وجهها ..
لم تكن الحقيبة تحتوي على شيء مهم، فقط كان بها الكاميرا، وبعض العملات النقدية التي لا تتجاوز مبلغ 150 كرونا، لذا لم أحزن،  ولكن حزني كان على شيء واحد، وهو الفيلم الموجود داخل الكاميرا حيث كان يحتوي على صور مهمة.
همس لي صديقي قائلاً: "من المؤكد أن الحقيبة وقعت في يد شخص غير دنماركي"، التفت إليه مستغرباً وقلت له .. سيان ..، فقد راحت الحقيبة.
في اليوم التالي اشتريت كاميرا جديدة،  وواصلت الرحلة، ولكني تعلمت أن لا أحمل حقيبة أبداً، أما الكاميرا فيجب تثبيتها حول معصم اليد بحيث لا يمكن نسيانها في أي مكان.
تذكر "في السفر يجب أن تفقد شيئاً"، ولكن المهم ألا تفقد نفسك ..!

فرسان من حجر
تتميز الشوارع والميادين هنا بالتماثيل العملاقة التي تجسد شخصيات معينة كان لها دورها في التاريخ، أو شخصيات أسطورية ضمها التاريخ الأدبي والثقافي للبلاد، لقد كان فنان هذه البلاد القديم يجسد أفكاره وأحلامه ومعتقداته وشخصياته البارزة بواسطة النحت، فيظهر ذلك في شكل تماثيل عملاقة بالحجم الطبيعي في غالب الأحيان تنطق بقدرة الفنان على الإبداع والفن.
ولعل السؤال الذي يخالجك عندما ترى هذه التماثيل العملاقة المنحوتة بمهارة وإتقان عن الوقت الذي استغرقه المثال في إعداد هذه المنحوتة الرائعة الهائلة الحجم، ربما شهوراً وربما سنوات، وهذا يدل أن الأمر يتعدى كونه فناً، وإنما اعتقاد ديني قديم بأن هذه التماثيل العملاقة تعود لها الروح في مرحلة معينة، إنهم ينحتون تماثيلاً للقادة والزعماء، ويعدون لهم حللهم الجديدة الأسطورية التي سيعودون لها فيما بعد، كما أن هذه التماثيل تعد توثيقاً وتسجيلاً للتاريخ عن الفرسان والقادة والمعارك والفتوحات.
ومعظم التماثيل من العصر اليوناني القديم حيث تستشف ذلك من مسمياتها وأشكالها وموضوعاتها، عدا تماثيل كثيرة معاصرة شيدت على نفس المنهج اليوناني القديم، وزينت بها مداخل بعض البنايات وأسقفها وبعض الميادين.
لقد كانت هذه التماثيل على مر التاريخ القديم وسيلة للتوثيق،  والتخليد،  وإلهاب مشاعر الشعب،  وإذكاء روح الوطنية به، ولاشك أنها الآن بعد مرور هذه القرون على اختفاء شخصياتها من مسرح الحياة لم تزل تمد المواطن العادي بمعاني عدة من الفخر والقوة والاعتزاز.
تماثيل كثيرة متنوعة تقابلك في الميادين الرئيسية، أمام البنايات وفوق البنايات أيضاً، كلها تجسد عظمة التاريخ الذي مر ودارت أحداثه على هذا الثرى، ولكن الملاحظة الرئيسية التي تلفت الانتباه أن عدد ا كبيراً من هذه التماثيل لفرسان يمتطون صهوة الجياد، وهذا له معناه حيث يوضح لنا الفروسية ومكانتها في التاريخ اليوناني القديم.
ولعل أشهر التماثيل على الإطلاق هذا التمثال الموجود في قلب ميدان القصر الملكي إميلين بورج، وهو عبارة عن قاعدة رخامية كبيرة يعلوها فارس يمتطي صهوة جواده، ويرفع لجام الفرس في يده، ويعتبر هذا التمثال من أشهر معالم العاصمة، حيث تتصدر صورة البطاقات السياحية التي تباع في المكتبات والمحلات العامة، ويحرص السياح على التقاط الصور التذكارية عند قاعدته.
وفي ميدان قريب يوجد تمثال آخر يمثل أيضاً فارساً يمتطي صهوة جواده، على رأسه خوذة الحرب، وتحت الفرس يوجد رجل جريح، ويتميز هذا التمثال بوجود أربعة فرسان جالسين عند زواياه الأربعة، فارس عند كل زاوية، كل منهم يحمل سلاحه، وكأنهم يرمزون إلى القوة والمنعة والحماية التي يتمتع بها الفارس. يقع هذا التمثال في قلب ميدان كبير،  ويطل عليه فندق شهير يقال أن مايكل جاكسون عندما زار الدنمارك أقام فيه.
عدا ذلك توجد تماثيل أخرى في الكثير من الشوارع والميادين، فهذا تمثال يجسد رجلاً جالساً يكتب بريشته، ذكرني هذا التمثال بتمثال الكاتب المصري القديم الجالس القرفصاء ، والذي تتخذه الهيئة المصرية العامة للكتاب شعاراً لها، وهذا تمثال آخر لرجل يداعب طفلة صغيرة، وهذا تمثال مشيد على صخرة يجسد فتاة جالسة تتطلع إلى السماء،  وبجوارها فتى يقف وينظر إلى السماء أيضاً، تمثال آخر مشيد على صاري طويل يجسد رجلين متجاورين ينفخ كل منهما في بوق طويل مقوس، وهذه تماثيل عملاقة لأشخاص ترتفع أمام مقر الحكومة الدنماركية، والعديد من المجسمات التي تنتشر في الحدائق والميادين والتي تمثل الفن الحديث بمدارسه المختلفة التجريدية والسيريالية وغيرها، .. تماثيل .. تماثيل .. من حجر.

التسوق .. متعة ناقصة
التسوق ظاهرة اجتماعية موجودة في كل المجتمعات، صناعة وتجارة، وربح وخسارة، همّ شهري لرب الأسرة،  وهواية لكل سيدة، ناموس يومي للبشر، العاديين والسادة، والفقراء والنبلاء، ولكن الفارق الوحيد في السلعة، هناك من يشتري كسرة الخبز، وهناك من يشتري الرولزرايس.
والتسوق في هذه المدينة متعة، ولكن ينقصها عنصر هام وضروري وهو الزحام والناس، صياح الباعة الجائلين،  وتغزلهم في بضائعهم بالأغاني والأمثال، هذه الصفة التي يتميز بها الشعبيون، هذه الملامح التي تجدها في الموسكي والعتبة وأسواق القاهرة التي تنبض بالحياة، هذا الزحام الذي جعل المطرب الشعبي أحمد عدوية يغني أغنيته الشهيرة (زحمة يا دنيا زحمة) ..!
وللتسوق هنا وسائل عدة، فهنا البقالات ومحلات التسوق الكبيرة، والمراكز التجارية الفخمة، وكلها تقدم المنتجات بأسعار مرتفعة أحياناً، ومنخفضة أحياناً أخرى، البقالات الصغيرة تحتوي على أهم المنتجات التي يحتاجها المنزل، ويديرها غالباً شباب عرب، أو هنود، أو باكستانيون،  أو لبنانيون، أو مغاربة.
"عائشة" فتاة مغربية مقيمة هنا منذ سنوات بعيدة، حاصلة على الجنسية الدنماركية، تبتسم ملامحها العربية السمراء ، بخجلها العفوي الذي يشبه خجل العروس في ليلة الزفاف، تعمل عائشة بائعة في محل بقالة يقع أسفل محطة قطار "فودوفغا"، توميء بخجل وهي تعطيك باقي النقود، ولكن رغم الابتسامة تلمح في عينيها حزناً مقيماً، قلقاً مما تخبؤه الأيام القادمة ..
 فسيفساء عربية حزينة في بلاد الغرب، زرعت في أرض غريبة،  فأنبتت الغربة والوحشة والقلق، ورغم زراعتها في أرض غريبة لم تفقد ملامحها العربية السمراء، لم تزل عائشة رغم اختلاف التربة وطول البعاد تستمع إلى عبدالوهاب الدوكالي، وتعد لأسرتها بيديها البسطيلة المغربية والحريرة والشبيّكة.
وتتميز البقالات الصغيرة بوجود أعلام صغيرة معلقة عليها من الخارج، فإذا لمحت من بعيد محلاً عليه أعلام صغيرة فاعرف أنه بقالة، عدا ذلك توجد البقالات الكبيرة وهي عبارة عن سوبر ماركت كبير يحتوي على كل ما تحتاجه الأسرة، ومن الأمثلة على ذلك سوبر ماركت NETTO، وله فروع كثيرة في مختلف أحياء المدينة ويتميز بأسعاره المعتدلة، الأمم المتحدة أيضاً والهيئات الدولية تعلق على أبنيتها أعلاماً، ترى هل هناك رابط أو علاقة بين السوبر ماركت والأمم المتحدة ..؟
وتنتشر أيضاً هنا المراكز التجارية المتكاملة، وهي عبارة عن مكان واحد يتجمع فيه عدد كبير من المحلات التجارية متنوعة الأنشطة، من هذه المراكز Hvidovre Stationscenter وهو أحد المراكز الشهيرة في حي "فودوفغا"، ويضم هذا المركز العديد من المحلات التي تقدم خدمات بيع الأزياء،  والعطور، والساعات، ولعب الأطفال،  والأحذية، والمكتبات،  والتصوير والتحميض .. وغيرها ..
ولكن هناك نوع آخر من المراكز التجارية الكبرى مثل سلسلة مراكز IKEA والذي يحتوى على كل ما تتخيله من منتجات، من الإبرة للصاروخ كما يقولون، كل ذلك تحت سقف واحد وليس عدة محلات، يتكون المركز من أدوار وأقسام مختلفة متنوعة تقدم العديد من المنتجات، الجديد في هذا المركز أنه يقدم منتجات من الكثير من بلدان العالم.
وصاحب فكرة هذه المراكز انغفار كامبراد وهو مواطن سويدي بدأ حياته في بيع الكبريت، ثم بيع السمك وزينة أشجار عيد الميلاد، ثم تخصص بعد ذلك في بيع الأقلام، لتتكون بعد ذلك لديه فكرة إنشاء هذه الشركة وهو في السابعة عشر من العمر، وبدأت الشركة في السويد عام 1943 بتصنيع الأثاث وبيعه، وتحت شعار "حياة عصرية عبر أثاث منزلي مميز" انطلقت الشركة لتحقق العديد من النجاحات، وفي عام 1963 أنشأت إيكيا أول متجر لها في اوسلو في النرويج، وفي عام 1969 تم افتتاح أول متجر له في الدنمارك.
لقد حلم انغفار كامبراد في البداية بوجود مكان واحد تتجمع تحت سقفه منتجات من جميع البلدان، وكان له ما أراد ونجحت الفكرة، وحقق أرباحاً طائلة، في هذه المراكز تجد منتجات من الهند وأندونيسيا والسويد واليابان وغيرها ..، وبعضنا يعرف منتجات "إيكيا" الموجودة الآن في الكثير من البلدان العربية والتي تمتاز بالتنوع والجمال.
المطاعم هنا كثيرة متنوعة أشهرها مطاعم الوجبات السريعة مثل كنتاكي، وماكدونالدز ، وهناك أيضا مطاعم صينية وهندية وعربية تعرفها بسرعة من واجهاتها، كما توجد محلات تقدم المطبخ الشرقي والعربي، أيضاً هناك محلات إذا شاهدتها تشعر كأنك في مدينة عربية مثل محلات الشاورما والكفتة والكباب، ولكن احذر من الأكشاك الأنيقة المنتشرة في الميادين والمناطق السياحية والتي تبيع الهوت دوج، فلحومها شهية، عندما تأكلها تستطيب طعمها، وعندما تسأل عن نوعية هذا اللحم سيقولون لك "لحم خنزير" ..!
ظاهرة الخصومات والأوكازيونات الموجودة في العالم العربي لا مكان لها هنا، فالأسعار ثابتة معلقة على كل منتج،  ولا مجال للنقاش فيها، ولكن الملاحظة العامة التي لاحظتها التفاوت الكبير في الأسعار من محل إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، فإذا أردت التسوق يجب أن تمر على المحلات أولاً ، وتقارن ثم تشتري بعد ذلك.
من الأشياء الغريبة التي شاهدتها في هذه الأسواق آلة معينة لتجميع قوارير المياه، ما عليك إلا أن تجمع قوارير المياه الغازية الفارغة، وتضعها في هذه الآلة، فتدفع لك "الآلة"، 2 كرونا عن كل زجاجة، وسيلة طريفة لتشجيع جمع العلب الفارغة، وهي طريقة تجلب المال أيضاً.
في مركز "إيكيا" لاحظت أنك حتى تحصل على عربة من خارج المركز تضع فيها حاجياتك يجب أن تدخل 10 كرونات معدنية في جزء موجود بيد العربة نفسها حتى تتحرر من القيد الحديدي، إلى هنا والكلام عادي، غير العادي أنك يمكن أن تستعيد هذا المبلغ إذا أعدت العربة مكانها، ووضعت القطعة الحديدية التي تؤدي إلى ربطها مع زميلاتها داخلها، فتخرج لك العشرة كرونات ثانية، أسلوب توجيهي يجبرك على إعادة العربة إلى مكانها، لا يركن إلى الأمر والنصح المباشر، ولكن أسلوب "أفد واستفد" ..!

مئذنة الحسين
الآن حان وقت العودة ، صديقي محمد مصري يعمل في مطار كوبنهاجن، بمعنى أدق في إحدى شركات الصيانة التي تعمل في المطار، أصر على توصيلي للمطار، ولما كان يعمل في المطار، فإنه كان يحمل تصريحاً خاصاً بدخول المناطق المخصصة للمسافرين فقط، ولكن هذا التصريح يبيح له دخول المطار في وقت عمله فقط، كان وقت عمله في المساء، رغم ذلك كان بوسعه الدخول فقط إذا أشار للضابطة الحسناء التي يمر عليها كل يوم ببطاقته، ولكن رغم حرصه على دخول المنطقة المخصصة للمسافرين لتوديعي إلا أنه آثر الاستئذان من الضابطة، ابتسمت الضابطة الحسناء وأخبرته بلباقة أنه مصرح له بالدخول في المساء فقط وليس الآن، وقبل أن يتركها محمد شكرته الضابطة على التزامه بالقواعد، حيث كان بإمكانه الدخول دون أن يدري أحد، ولكن الانضباط منعه من ذلك.
إن المصريين منضبطون بطبعهم، ولكن "الهرجلة" تعلم الفوضى، كما يعلم المال السائب السرقة، الانضباط موجود داخل كل شخص، ولكن يجب أن يوجد القانون الذي يتبعه الناس، والمضمار الذي تتحرك فيه الخيل.
الشاي الدنماركي لذيذ الطعم، وطعمه سيكون ألذ إذا تناولته في إحدى الكافيتريات الأنيقة المنتشرة في المطار، ..  بينما كنت أتناول الشاي لفتت نظري مجموعة من الأشخاص لا يتجاوز عددها ستة أفراد يتجولون في المطار، عندما سألت قيل لي : "إنه وزير الداخلية الدنماركي يتفقد المطار"، الوزير شخصياً بصحبة ستة أفراد يتجول في المطار كأي مواطن عادي بلا جلبة ولا حرس ولا ضجيج، حاجة تفرح ..!
تأخير الطائرات بدعة عربية هكذا أعتقد، ففي الوقت الذي تطورت فيه شركات الطيران العالمية،  وأكدت مبدأ احترام الوقت،  والالتزام المطلق بالمواعيد فإن شركتنا الوطنية "مصر للطيران" – رغم إيماني المطلق وتعصبي الأعمى لها – لم تزل كما هي تؤمن بالمثل القائل "في العجلة الندامة"، وأن " العجلة من الشيطان"، عندما نزلت الطائرة ترانزيت في مطار استكهولم وبقيت فيه 45 دقيقة كاملة خيل لي أن الطائرة كعربة الميكروباس في شوارع القاهرة إذا أشار لها شخص في الطريق توقفت لتأخذه معها.
ربما يكون ذلك سر تأخرها في رحلة السفر، وتأخرها في رحلة العودة، ولكن تأخرها هذه المرة كان فادحاً، فقد تأخرت الطائرة ثلاث ساعات كاملة، والسبب غير معلوم، حاول مسئول الشركة بالمطار الاعتزار وتبرير الموقف ولكن دون جدوى، ثلاث ساعات من عمر الإنسان تضيعها شركة للطيران في رحلة واحدة، ما أرخص الوقت عند الفراعنة الجدد.
ابتسمت موظفة المطار الشقراء وهي تطالع التذكرة في مطار كوبنهاجن، سألتني عن المكان الذي أفضله، طلبت منها أن يكون مقعدي بجوار الشباك،  وأعقبت ذلك بعبارة (To see pirds) أي "لكي أشاهد الطيور، فضحكت، وواصلت عملها على شاشة الكمبيوتر، بعد أن قامت بوزن الحقائب أخبرتني أن هناك خمسة كيلو جرامات زائدة يجب أن أدفع رسوماً عنها، نظرت إليها بعتاب وقلت "هذه خمسة كيلو جرامات عبارة عن كتب ونشرات عن بلادك فما رأيك؟"، ابتسمت وقد ارتسمت على وجهها السعادة قائلة "لا بأس نأمل أن تكون قد سعدت بإقامتك في بلدنا"، وكانت ابتسامتها آخر شيء أشاهده في هذه البلاد
..........
كانت تذكرة السفر "جدة – القاهرة – كوبنهاجن – القاهرة – جدة" أي أن القاهرة كانت منطلقاً ومرتكزاً رئيسياً للرحلة، تحيط بالهدف كالدائرة، وذلك بالطبع لم يمكنني فقط من المقارنة، ولكن مكنني أيضاً من صياغة الحلم، أحلم لبلدي بالعديد من الإيجابيات الموجودة هناك، وأقدّر وأثمّن الإيجابيات الجميلة الكثيرة الموجودة بمصر، والتي لا وجود لها هناك.
أما المقارنة – رغم كل شيء- فلابد أنها لصالح مصر، في مصر هذا الثراء الذي لا تجده في أي بقعه من العالم، صدقوني ليس هذا كلاماً حماسياً دافعة المواطنة، ولكنها الحقيقة، ولكن الوطن يحتاج الكثير من العمل لنزيل عن معدنه الذهبي الأصيل أكوام التراب ..
........
كانت الجميلة واقفة عند باب الشمس بجسدها الباسق وقناديلها السبعة، تناديني باسمي، تغريني بالورد والتفاح والعسل المصفى، وأنا واقف في المفازة، أقاوم الصهد والنار، في صدري حنين للعبق القروي ومئذنة الحسين ..!


 


تاريخ الإضافة: 2014-04-18 تعليق: 1 عدد المشاهدات :4551
0      0
التعليقات

Daura (زائر)

2017-02-03



Do you need hackers for hire? Do you need to keep an eye on your spouse by gaining access to their emails? As a parent do you want to know what your kids do on a daily basis on social networks ( This includes facebook, twitter , instagram, whatsapp, WeChat and others to make sure they're not g


إستطلاع

مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
 نعم
69%
 لا
20%
 لا أعرف
12%
      المزيد
خدمات