منذ زمن بعيد و"القصيدة" تشغلني .. ليس فقط كتابتها وإنما موقعها من الحياة وتطورات الزمن ..، وكثيراً ما تساءلت في نفسي : لماذا لا تتطور القصيدة ..؟، لا أقصد بذلك التطور الشكلي والفني الذين مرت بهما القصيدة العربية في شكليها التفعيلي والنثري، وإنما أقصد طريقة الكتابة نفسها ..!
وقد شجعني على هذا التصور التطور الكبير الذي تشهده الفنون الإبداعية الأخرى عبر التطور المتلاحق الذي تشهده تقنيات الإعلام ووسائل الاتصال، أوصلني ذلك التفكير إلى فكرة مجنونة أفرزها هذا التساؤل الهام عن عدم تطور القصيدة وأردفت: لماذا لم تستفد "القصيدة" من التطورات التقنية الهائلة التي يشهدها العصر، ولماذا تقبع القصيدة منذ آلاف السنين في خيمتها البدوية المهترئة. بينما توجد ناطحات السحاب والعالم كله يمور حولها يتحرك بشتى الاختراعات العلمية الخلاقة كالكمبيوتر والإنترنت والهواتف الكونية والفضائيات والأقمار الصناعية، ويحقق كل يوم طفرات مذهلة كالاستنساخ وغيره ..!
والفكرة التي وصلت إليها هي "تأليف" القصيدة بالكمبيوتر، لا أقصد بذلك طباعتها، ولكن "تأليفها" .. نعم تأليفها، لقد ظلت الورقة والقلم والتداعي الذهني المباشر هي وسائل لكتابة النص الشعري منذ بداية عصر التدوين حتى الآن ..؟، فلماذا لا نبحث عن طريقة جديدة لتأليف القصيدة نستفيد من خلالها بالتكنولوجيا الحديثة ..؟
الكمبيوتر صرعة العصر وقد استطاع الإنسان من خلاله أن يفتح بوابة التطور وأن يحقق ميكنة الإدارة والتنظيم وحقق بواسطته العديد من الإنجازات مثل (سرعة الإنجاز، واختصار الوقت، وبرمجة المعلومات، وتوفير العمالة وغيرها من المزايا).
وقد قمت شخصياً بتحقيق أحد جوانب الاستفادة من الكمبيوتر في التأليف حيث أقوم في كثير من الأحيان بالاستغناء عن الورقة والقلم والتأليف المباشر على الكمبيوتر، ولهذه الطريقة مزايا عديدة منها:
1- الكتابة بشكل مميز وواضح.
2- سرعة الإنجاز وتوفير الوقت.
3- إمكانية وسهولة التغيير والتصحيح والإضافة بدون أي تأخير أو إخلال بالشكل.
4- إمكانية النشر المباشر بنقلها مباشرةَ إلى الصفحة المطلوب نشرها بها في مجلة أو جريدة.
وهذه بالطبع مزايا لا تحققها الورقة والقلم، ولكن هذا الاتجاه أوصلني إلى الفكرة وهي "تأليف القصيدة" بالكمبيوتر وقد وجدت أن ذلك ممكناً، فالشاعر يمكن أن يستفيد استفادة كبيرة من الإمكانيات التقنية التي وفرها الكمبيوتر في عملية التأليف وهذا سوف يتأتى بإعداد برنامج خاص يمكن أن نطلق عليه (برنامج الشاعر) نعد به كافة البرامج والنماذج التي تعين الشاعر في عملية "تأليف" القصيدة.
على سبيل المثال يمكن مثلاً أن يتضمن البرنامج قاموساً وافياً لمعاني الكلمات وآخر للقواعد النحوية، أيضاً يمكن أن يضم قاموساً بالقوافي بأنواعها حيث يمكن للشاعر بضغطة زر أن يجد أمامه على الشاشة بياناً بالقوافي التي تنتهي بحرف الحاء مثلا مثل (إصباح، أشباح، أفراح .. وغيرها) يستعين بها الشاعر في تحديد الكلمة المناسبة للقافية والمعنى المطلوب أثناء التأليف.
أيضاً يمكن تقسيم قافية الحاء نفسها إلى أقسام تعتمد على الروىّ وعدد الحركات والسكنات في التفعيلة، ومن القوافي الأخرى لحرف الحاء (جرح، صرح) وهكذا.
كما يمكن أن يحتوي (برنامج الشاعر) على مجلد للبحور والأوزان يحتوي على معلومات كاملة عن البحور الشعرية وأوزانها وتفعيلاتها والأخطاء الشائعة والرأي الفني بها مع نماذج للتدليل، وفي مرحلة متقدمة يمكن عمل نموذج بالبرنامج لكتابة القصيدة يتم فيه تنفيذ نموذج للشطرتين (في حالة الشعر العمودي)، ولكل بحر شعري نموذج خاص تتضح به التفعيلة الخاصة للبحر وأجزاؤها والكتابة العروضية الخاصة بها، أيضاَ هذا النموذج يمكن أن ينقسم إلى عدة نماذج داخلية لحالات البحر التام والمشطور والمجزوء وغيرها.
وتكون طريقة التأليف كما يلي:
1- عندما يريد الشاعر تأليف قصيدة يفتح جهاز الكمبيوتر ويفتح (برنامج الشاعر) ويحدد البحر الذي يريد الكتابة عليه ونوعه تاماً أو مشطوراً أو مجزوءاَ، كذلك يحدد القافية التي يفضلها فيفتح نموذج الكتابة المطلوب ويستدعي على الشاشة والهامش بيان القافية المطلوبة.
2- يبدأ الشاعر في الكتابة على النموذج الموضح على الشاشة مطلقاً العناية لإبداعه الشعري.
3- في حالة رغبته في التأكد من وزن شطره شعرية فإن النموذج الذي أمامه يوضح التفعيلة الصحيحة للبحر وحالاتها حينما يدخل عليها زحاف أو علة .. إلخ.
4- في حالة رغبته في استدعاء قافية معينة يمكنه البحث في قائمة القوافي المفتوحة أمامه على جانب الشاشة والمرور بضغطة زر على جميع القوافي المثيلة ليحدد القافية الأمثل للبيت الذي أمامه.
5- في حالة شك الشاعر في قاعدة نحوية معينة يريد التأكد منها يمكنه فتح مجلد القاموس، ويستفسر عن نوع القاعدة المصنفة مثل (الفاعل، النعت، المفعول به، نائب الفاعل) وغيرها، وتدعم القاعدة بشواهد توضيحية لتيسر الوصول إلى المعلومة الصحيحة في أسرع وقت وهناك برنامج تم تنفيذه يدعى (سيبويه) يمكن الاستفادة منه في هذا الصدد.
6- بعد كتابة القصيدة يمكن للشاعر مراجعتها على الشاشة وتنقيح نقاط الضغط وتأخير أو تقديم أبيات معينة حسب الرغبة للحفاظ على الوحدة الموضوعية والإبداعية للقصيدة.
7- بعد الانتهاء من كتابة القصيدة يعطي للجهاز أمر طباعة فتطبع نسخة منها.
وهذه المراحل كلها في أوقات سريعة تتم بضغطة زر أو تحريك (الماوس) أداة التحريك بالكمبيوتر.
وهذه الفكرة حتى تدخل حيز التنفيذ ستحتاج إلى من يعد هذا البرنامج المتكامل (برنامج الشاعر) وهنا أقترح أن تقوم بإعداد هذا البرنامج إحدى شركات الحاسب الآلي الكبرى. بالاستعانة بالمختصين من أهل الشعر واللغة.
وتحقق هذه الطريقة فوائد عديدة يمكن إجمالها فيما يلي:
1- مساعدة المبتدئين على تلمس خطى الشعر ومعرفة قواعده وقوانينه وكيفية كتابته.
2- تحقيق الثقافة اللغوية والقواعدية والوزنية للشاعر بشكل متتابع ومستمر.
3- القضاء على العيوب الشهيرة التي عرفت بها القافية كالإقواء وغيرها، وتنفيذ قوافي سليمة لغةً ونحواً وموَاكبِةً للمعنى الذي يتطلبه البيت والسياق.
4- سرعة كتابة القصيدة وتوفير الوقت.
5- سهولة كتابة القصيدة.
6- تقلص هذه الطريقة حجم انشغالات الشاعر بالأمور القواعدية كالأوزان والقوافي والقواعد النحوية وتدفعه للتركيز على شيء مهم وأساسي في نجاح القصيدة وهو الإبداع والابتكار في المعنى والصورة الشعرية.
7- إمكانية إجراء التعديلات المطلوبة بسهولة كتقديم أو تأخير أو تصحيح لبيت و كلمة أو شطره.
8- طباعة القصيدة مباشرةً بشكل جيد وواضح ومقروء.
وبالطبع يمكن أن يعارض هذه الطريقة البعض كدأبنا مع كل جديد، ربما يقول القائل أن هذه الطريقة ضد فطرة الكتابة، وربما يزعم آخر أن هذا ترسيخ لصناعة الشعر، وسوف يستشهد البعض بالزهرة الطبيعية والمصنوعة، أو النقش الآلي والنقش اليدوي، مؤكدين أن الزهرة الطبيعية هي الأجمل والنقش اليدوي هو الأمهر.
وسوف يهاجم البعض هذه الطريقة متذرعين بأن الشعر إلهام وموهبة وقدرة شخصية على التذكر والاستدعاء والتخيل والشاعر المطبوع يجب أن يعتمد على نفسه وقدراته، والرد على ذلك موجود وهو أن الزهرة الطبيعية لا تمنع وجود زهرة مصنوعة جميلة، والنقش اليدوي لا يمنع وجود نقش آلي بارع، وأن الفيصل في هذا كله الإنسان الذي يصنع هذا وذاك، وفي حالة القصيدة لا تجوز هذه الطريقة على الإبداع الشخصي للشاعر، ولكن فقط هي عامل أو عدة عوامل تساعد هذا الإبداع على التألق والنمو، ومن يدري ربما يستطيع العلم في المستقبل أن ينتج قصيدة كاملة من تأليف الأجهزة بدون تدخل الإنسان بالنظر إلى النجاحات التي تحققت في الريبوت (الإنسان الآلي).
ما أطالب به الآن يشبه ما حدث في الموسيقى مثلاً عندما قضت الأجهزة الحديثة ومنها الكمبيوتر على الأداء اليدوي التقليدي الذي نراه في العزف على العود أو الطبلة مثلاً، وحققت الآلة تفوقاً كبيراً على الإنسان، فلماذا لا يتحقق ذلك في "الكتابة"، لقد قضى الأورج الحديث مثلاً على عشرات الآلات التقليدية فوجدنا به صوت العود والطبلة والناي والكمان وغيرها بكل النغمات الممكنة والمؤثرات، واختصر ذلك مئات من عازفي الأوركسترا، وقد ساهم هذا في تطور الموسيقى تطوراً كبيراً.
إنني أقدم هذه الطريقة وأطرحها على المختصين ..، لا يهم إن حظيت على قدح أو مدح، فهدفي الأهم هو تحريك الماء الراكد والبحث عن طريق لتطور القصيدة العربية ومواكبتها لتطورات العصر، فإن نجحنا كان بها وإن لم ننجح فيكفينا شرف المحاولة ..!