جرِّب أن تحضر شمعة وتجلس في الظلام الدامس ثم تناول عود ثقاب وأشعل فتيل الشمعة.. شمعة مضيئة في الظلام، تأمل هذا المشهد وتصوَّر لو كان للشمعة قلب ونبض وإحساس كم هي تعاني لكي تنشر هذا الضوء في العتمة الهائلة..، واذهب بفكرك إلى ما بعد ذلك وتساءل.. ترى بعد أن تنتهي الشمعة وتحتضر ذبالتها وتلفظ أنفاسها الأخيرة وتموت.. ماذا يحدث..؟.
إن هذه الشمعة المضيئة في الظلام هي نفسها (الشاعر).. ، الشاعر الذي خلقه الله وهيأ له من الشفافية والقدرة والإبداع الإنساني وقوة التأثير ما لم يهيّئه للآخرين، فكان لرسالته دورها الهام في الحياة، وهو يفني عمره وجسده وروحه في سبيل رسالته العظيمة.
نعم.. إنه الشاعر الذي لا يعرفه أحد، واستنتج بنفسك ماذا يحدث لو اختفى الشاعر من هذا الكون الرحيب..!؟ لقد قدمت (القصيدة) منذ ولادتها الكثير للإنسانية فأحيت المثل ونادت بالأخلاق ودافعت عن المبادئ ، ونصرت المظلوم وتصدت للطغاة والظالمين ، وعبرت عن نبض الإنسان وجسدت آلامه وأحلامه، وأرّخت لحياته، وداوت القلوب، وسمت بالمشاعر، وهذّبت النفوس .
وفي الوقت الذي يحب الناس فيه الشعر نرى على النقيض فئة جاهلة تكرهه وتستهين به، وهي لا شك فئة غير سوية، لعل أبلغ رد عليها هذه الجملة التي وردت في إحدى مسرحيات المسرحي اليوناني العظيم سوفوكليس على لسان أحد أبطاله (احذر هذا الرجل فإنه لا يحب الشعر..!).
وفي الأزمنة التي تزدهر فيها الكلمة يرتقي الشاعر ويحظى على مكانته، ويساهم بدوره في نهضة الحياة ونشر الحب والجمال والثقافة والوعي والقيم الجميلة، وفي أزمنة الجهل والتخلف تفقد الكلمة قيمتها، ويصبح الشاعر مجرد (بيّاع كلام) – كما تقول الأغنية- وتصبح الكتابة في عيون الناس (صنعة) لا تختلف عن صنعة الإسكافي، (ولهو) يدغدغ المشاعر، (وفعل ترفيهي) للتسلية وقتل الوقت ..!
إن الأمم العظيمة هي التي تقدس الكلمة وتنشر القصيدة في الصفحات الأولى وتبجل الشاعر، والأمم الفاشلة تلك التي تطارده كما تطارد الخارجين عن القانون، وتحاربه مثلما تحارب القتلة، وتصادر قلمه مثلما تصادر الممنوعات ..! وإذا نظرنا إلى تاريخنا العربي وتدارسناه جيداً سنرى كيف كانت عصور الانتصار العربي عصراً لانتصار القصيدة، وكيف كانت عصور الهزيمة العربية عصوراً لهزيمتها.
وقضية الشاعر الكبرى هي قضية الحرية، فالكلمة لا تنتصر وتزدهر إلا بالحرية، والعصافير لا تغرد في الأقفاص، وإنما تغرد فقط في فضاء الحرية الكبير، وقد رأينا في بعض العصور (الكلمة الحرة)، وكيف كان الشاعر يكتب ويتصدى ويهجو دون أن يحشى قطع الرزق أو حتى قطع الرقبة ، يكتب كلمته لا يخشى في ذلك لومة لائم أو سطوة سلطان، ورأينا في عصور أخرى (الكلمة المقيدة) وكيف يُوَجه الشاعر ويكون بوقاً للحكام وسيفاً للظالمين في الأرض. وفي هذا الزمن.. ماذا عن حال الشعر والشعراء؟..، لقد تراجع الشعر وتقهقر الشاعر وأصبح الشعر – بعد أن كان (فن العربية الأول).. (فن العربية الأخير).
فهل نبادر بإنقاذ الوضع؟ أم ننتظر يوماً ينقرض فيه الشعر كما انقرضت فنون أخرى كالمقاومة والموشحات؟! هامش: الشاعر فارس والكتابة رسالة، وهذه الأمة لن تنهض من عثرتها إلا إذا أعدنا للشاعر فرسه ودرعه وسيفه، وللكتابة عرشها المفقود..!
تاريخ الإضافة: 2014-04-28تعليق: 0عدد المشاهدات :1496