رغم انتشار الستالايت ووجوده في كل بيت، ووجود مئات القنوات المحلية والعالمية التي أصبحت في متناول اليد بمجرد ضغطة زر إلا أنني ما زلت متمسكاً بالفيديو.
ربما يكون ذلك تعاطفاً مني مع هذا الاختراع الجميل الذي قضى (الدش) على نفوذه وكبد أصحابه خسائر فادحة، وأثر كثيراً على صناعة السينما، وربما لأن الفيديو يتيح لي رؤية ما أريده في الوقت الذي أريده بعكس (الدش) الذي يجب أن تذعن لخياراته وتوقيتاته، وهذا ما يتعارض تماماً مع نظام حياتي المحتدم دائماً، يضاف لذلك أن مشاهدة الفيديو بالنسبة لي هي ممارسة عملية، فالصحفي أو الكاتب عموماً يستمد معلوماته ليس فقط من الكلمة المقروءة وإنما أيضاً من المادة المرئية، والفيديو يتيح لي تفحص المادة الفيلمية مرة ومرتين، وإعادة رؤية مشهد بعينه أو إعادة رؤية الفيلم كله للتدقيق في مشهد معين أو زاوية تصوير معينة أو رؤية خاصة مما يتيح لي الكتابة عنه نقدياً.
هذه هي الأسباب التي تدعوني إلى تأييد الفيديو والوقوف ضمن أنصاره قلباً وقالبا، ولكن حبي للفيديو – أو المسجل المرئي – إن أردنا تعريبه يكبدني ميزانية خاصة لأنني لا ألجا إلى تأجير الشرائط كما يفعل الناس، وإنما أضطر إلى شرائها، وإن كان ذلك قد أفادني في تكوين مكتبة فيديو هائلة تأخذ مكانها الخاص في منزلي.
وتنحصر أكثر مشاهداتي في الأفلام الهندية والأمريكية والعربية، وإن كنت معجباً بالأفلام الهندية خاصةً، وهي أفلام ناجحة تتميز بالعديد من المزايا، فالفيلم الهندي قادر على شد انتباهك وحواسك من اللحظة الأولى إلى اللحظة الأخيرة، وصانعوه قادرون في معظم الأحيان على تقديم توليفة من المؤثرات تشد أي مشاهد، لا يهم إن كانت هذه المؤثرات واقعية أو خيالية ما دام كله تمثيلاً، ولكن المهم أن يظل المشاهد مشدوداً كالخيط طوال الفيلم، على سبيل المثال لا مانع أن ترى في الفيلم الهندي ثعباناً ينقذ صاحبه، أو حصاناً يقاتل الأعداء حتى ينتهي البطل من صلاته، أو بطلاً نحيل الجسم ينهال على مائة شخص بالضرب ويقضي عليهم بسهولة ثم يمد يده لإنقاذ محبوبته ..!!
ومن المؤثرات الواضحة أيضاً في الفيلم الهندي هو تعبيره وتمجيده لكل الديانات والنحل والمذاهب الموجودة بالهند، فالمعروف أن الهند تحتوي على مئات الديانات والنحل والمذاهب والعبادات، والسينما الهندية حتى تكسب كل هؤلاء ترصد في أفلامها كل هذه النحل والمذاهب، تارة تمجدها وتظهر معجزاتها وتارة تظهر طقوسها ومظاهرها، فبها تشاهد المسلم وهو يصلي، والهندوسي يحرق الميت ويرمي رماده في النهر المقدس، والبوذي يذهب إلى المعبد، وغيرهم يعبدون التماثيل، ولعل هذا أحد أهم الأسباب التي حققت للفيلم الهندي الانتشار والنجاح محلياً، وإن كان بذلك قد فقد أهم الأدوار التي يضطلع بها فن السينما وهو الرسالة الإيجابية الواحدة.
ولذلك أيضاً لاحظنا أن السينما الهندية سينما تجارية، ومع إقراري بأن كل السينمات هي في الأساس سينمات تجارية إلا أن النظرة التجارية في السينما الهندية عالية جداً فهم حريصون على تحقيق أعلى الإيرادات بغض النظر عن الخلق والإبداع، وذلك لا يتوفر إلا بجذب المشاهد بالتوليفة التي يرغبها (ضرب وأسطورة وقصص مؤثرة)، هذا ما جعل مصطلح (فيلم هندي) مصطلحاً شائعاً في العامية المصرية يقال إشارةً إلى المبالغة في الأشياء، وهذا بالطبع لا ينفي إعجابي بالفيلم الهندي القادر دائماً على جذب انتباهي والتأثير في مشاعري.
وهذا أيضاً لا ينفي وجود عدد من الأفلام ركزت على الإبداع السينمائي فقط، وركزت على البعد الإنساني وتخلت عن التوليفة المعروفة وحققت رغم ذلك نجاحاً لدى المشاهد، من هذه الأفلام فيلم بعنوان (Anaka pandhan) (أناكا باندهان)، والذي جعلني أبكي بحرارة أثناء مشاهدته، والعجيب أنني اكتشفت أن معظم أصدقائي الذين شاهدوه بكوا أيضاً.
ومن الأفلام الهندية الرائعة التي أعجبتني فيلم (Khuda Gawah) (خدا كوه) وهو آخر أفلام أميتاب باتشان وهو يتضمن قصة حب رائعة مفعمة بالوفاء والتضحية والأحداث الدامية، وقد نجحت الممثلة سري دفي التي أدت دور البطلة (بنازير) في أداء دور العاشقة الوفية بصدق وإتقان، كذلك قدم باتشان دوراً من أهم أدواره.
وهناك أفلام أخرى لا تقل روعة مثل (Shahenshah) (شاهنشاه)، (Ajooba) (أعجوبة)، (Ajay)، (أجي)، (Jeet)، (جيت)، (Sadak) (صدق)، (Krishna) (كرشنا)، وغيرها ...، وإن كانت هناك أيضاً أفلام ضعيفة مثل فيلم (Azadd) (أزاد)، والغريب أنه ببطولة أميتاب باتشان، وكان في بداية حياته الفنية، ويبرز على الساحة الفنية بالهند حاليا أبطال مهمون بعد أميتاب باتشان منهم سنجي ديت، ساني دول وغيرهم.
ومن الواضح أن السينما الهندية متطورة من حيث الإضاءة والموسيقى التصويرية والديكور والتمثيل والملابس والمؤثرات، ولكن الرؤية الفنية في التصوير ما زالت ضعيفة، أيضاً فإن المشاهد المدقق كثيراً ما يلمح أخطاءً فادحة في بعض المشاهد، من هذه الأخطاء كمثال المشهد الأخير من فيلم (خداكوه) عندما سقط بادشاخان من على فرسه وهو في طريقه إلى حبيبته بنازير، عندما قام من كبوته بعد نداء صديق عمره، نهض وتقدم جريحاً وهو يحمل بيده سيفاً، وفي المشهد التالي مباشرةَ عندما وصل إلى محبوبته فوجئ به المشاهد يحمل بندقية،فمن أين أتى بها؟، لا نعلم؟
مشهد آخر أدلته الممثلة الجميلة كرشنا كابور التي أدت دور (راما) في فيلم (أجي) عندما قدمت لها خادمتها مشروباً وهي في كامل ثورتها ضربت الكوب بيدها، وفي جزء من الثانية يلاحظ المشاهد المدقق أن المشروب أغرق وجهها من أثر الضربة، ولكن المونتاج في المشهد التالي السريع حاول أن يصحح ذلك باختفاء الكوب، ولكن دون جدوى.
والفيلم الهندي لا يخلو من الرقص والغناء، والهنود مميزون برقصاتهم وأغنياتهم، وهم مولعون بالطبيعة فتجد الأغاني والرقصات تتم في السهول الواسعة والأودية المخضرة والمناظر الطبيعية التي تزخر بها الهند، وتبرز هنا أيضاً الموسيقى الهندية وإيقاعاتها المميزة، والغريب أن السينما الهندية تعطي لنا صورة أخرى مغايرة للصورة السائدة لدى الكثيرين، وهي أن الهند بلد فقير معدوم يورد العمالة الرخيصة، فقد أثبت لنا الفيلم الهندي أن هؤلاء ليسوا كما نظن، وإنما يملكون الحضارات والمواهب والجمال والسينما الحية القادرة على التأثير والتنافس.
ومن الأشياء التي لاحظتها من متابعتي للأفلام الهندية أن لغتها خليط من الهندية والإنجليزية والعربية، فالمشاهد لها يلاحظ تارة الهندية وتارة الإنجليزية، أيضاً يلاحظ بعض الكلمات العربية مثل (قانون، تصوير، بس، مباركو، ظالمو، كسول، خنجر، لكن، شكران، وزير، مجرم) وغيرها ..
أما الفيلم الأمريكي فيعتبر أشهر الأفلام العالمية شيوعاً في العالم، ولذلك أسباب ترجع إلى جودته وتفوقه تقنياً، وأسباب أخرى تجارية حيث تدعم أمريكا فيلمها وتمنحه التسهيلات والامتيازات والنفوذ الذي يحقق له الانتشار والسيادة.
وإذا كانت الأسطورة أو الخرافة تسيطر على الفيلم الهندي سيطرة كاملة، فإنها قليلة في الفيلم الأمريكي، فالفيلم الأمريكي في الغالب يخاطب الذهن العاقل ويعطيه ما يتفق معه، وإذا وجدت الأسطورة أو الخرافة فهي توجد في غير المعتقد الديني أو الظواهر الإنسانية والثوابت المعروفة للإنسان، وإن كانت المبالغة وهي القاسم المشترك في كل الأفلام العالمية موجودة أيضاً في مشاهد (Action) الأكشن عندما تجد البطل (الأُزْعَه) قصير القامة كفان دام مثلاً، وبقدرة قادر يحطم كل شيء ويفجر السيارات والطائرات، ويمرق كالسهم بين طلقات المدافع الآلية والقنابل ويخرج سليماً وكأنه لم يحدث له شيء ..!
ومن الأفلام الجميلة التي شاهدتها فيلم (شارع العنف)، (التوأم)، (التنين الذهبي) لفان دام، وفيلم (عمل شرير) بطولة شارون ستون وإيزابيل إدجاني، وفيلم (المتخصص) بطولة سيلفستر ستالون وشارون ستون، و(جومانجي) بطولة روبين ويلميز، و(سيف الدمار)، و(المنقذ)، و(الرجل الآلي) لأرنولد شوارزينجر، و(يوم الاستقلال) لويل سميث.
كما توجد أفلام أخرى مثل (قطار النقود، الشاهدة العمياء، كرستين) وغيرها ..
ومن الأفلام الأمريكية الرائعة التي عرضت مؤخرا فيلم (الكتراز – سجن الجزيرة) بطولة شون كونري ونيكولاس كيج وإد هاريس، وهو من أجمل وأروع الأفلام التي قدمتها السينما الأمريكية، فهو يجمع بين ضخامة الإنتاج والإثارة والقصة المحبوكة الهادفة والإمكانات الفنية والتقنية العالية.
والجديد والمثير أنني شاهدت الفيلم مدبلجا إلى العربية بمعنى أدق ممصراً بالعامية المصرية، وهي تجربة فريدة ستحدث – لا شك – فتحا سينمائياً جديداً، ومن مزاياها العديدة أنها سوف تحطم عائق اللغة الذي يقف بين السينما والمتلقي منذ بداية السينما الناطقة، لقد استطاع القائمون على دبلجة ومصرنة هذا الفيلم – إن صح التعبير – أن يحولوا الفيلم الأجنبي من واقعه الأجنبي البعيد إلى فيلم قريب حتى إنك تشعر عندما تشاهده أنه فيلم مصري تدور أحداثه على أرض مصرية ..
وقد اتضح لي هذا الإنجاز بجلاء، والسبب في ذلك أنني شاهدت هذا الفيلم من قبل بلغته الأمريكية الأصلية، وأعترف أنني عندما شاهدته ممصراً ومدبلجاً إلى العامية المصرية اكتشفت أن 80% من جماليات الفيلم وأحداثه ومدلولاته الفنية كانت مجهولة عني، وقد كشفتها وأضاءتها الدبلجة المصرية.
وعلى الرغم من أن عملية الدبلجة الفيلمية الصوتية موجودة منذ فترة إلا أن دبلجتها بالعامية المصرية تجربة جديدة، وهي تجربة يجب أن تستمر لأن بوسعها أن تحدث تطوراً كبيراً للفن السينمائي، فعن طريقها سيتحطم إلى الأبد حاجز اللغة ويصل الفيلم العالمي إلى كل البشر أيا كانت لغاتهم.
ويأتي الفيلم المصري بعد ذلك يحتكر الصدارة بين الأفلام العربية منذ مائة عام، وهو يتميز بالواقعية، ولعل السبب في ذلك أن المشاهد العربي إنسان واقعي يؤمن برسالات سماوية لا تؤمن بالخرافات، وهو بالتالي لن يقبل فيلماً يعبر عن واقعه الملموس والمعاش بالأساطير والخرافات، ولعل هذه الواقعية سبب رئيسي في نجاح الفيلم المصري وانتشاره عربياً فضلاً عن اللهجة المصرية المنتشرة والمفهومة عربياً، فالمشاهد العربي عندما يشاهد الفيلم المصري لا يشاهد مجتمعاً غريباً عنه، وإنما يشاهد مجتمعاً مألوفاً يؤيده ويتفاعل معه ويتعصب له.
بيد أن من المزايا التي يفتقدها الفيلم المصري والهندي أيضاً والمتوفرة بقوة في الفيلم الأمريكي قوة التمويل والمبالغ الطائلة التي تصرف على الإنتاج السينمائي، فالفيلم هناك تصرف عليه ملايين الدولارات ويحقق في نفس الوقت عائدات طائلة، بينما مازالت صناعة السينما لدى العرب لم تحصل بعد على القناعة الكافية التي تشجع دخول استثمارات كبيرة بها.
ومن المزايا التي تميز الفيلم الأمريكي والأفلام الأوربية عموماً جودة السيناريو والحوار، فالمدقق في السيناريو والحوار الأمريكي يلاحظ روعته وعلو مستواه الفني والإبداعي بشكل لا نراه في السينما الهندية أو المصرية.
وغير هذه السينمات الأوائل توجد في بقاع عديدة في العالم سينمات متقدمة كالفيلم الفرنسي والمكسيكي الصيني والبولندي والنرويجي، ولكن تظل مشكلة عدم الانتشار عائقاً كبيراً أمام وصولها إلى المشاهد العربي.
ولعل نجاح الأفلام الأجنبية عموماً يعطي مؤشراً ودليلاً في نفس الوقت على أن اللغة ليست عائقاً – كما يدعي البعض – أمام انتشار فن السينما وتأثيره واستمتاع الشعوب به، ففي كثير من الأحيان نشاهد أفلاماً أجنبية غير مترجمة ونستطيع متابعتها والاستمتاع بها، فاللغة السينمائية هي الأساس في العمل الفني وأهم من اللغة المنطوقة، فإذا كانت اللغة السينمائية مصاغة بحس عالمي سينجح الفيلم ويجد صداه في جميع البلدان، وإن لم يكن كذلك سيبقى فيلماً محلياً لا يخرج عن حدود بيئته ومجتمعه.