إسعاد يونس
هذا العالم الافتراضى الذى نعيش فيه.. وأقصد عالم الفيسبوك وتويتر وكل الحبشتكانات الأخرى المكملة.. كان مرآة عاكسة للتطورات الكثيرة والمذهلة التى حدثت لقطاعات كبيرة من الناس.. خصوصا مستخدمى هذه الأنشطة والذين اتسعت رقعتهم جدا ومن حولهم ويتأثر بآرائهم..
■ دنيا تانية خالص.. بها كل ما بالدنيا الحقيقية من عيوب ومزايا إلا أن الأدوار تتبدل.. عالم مجاور للعالم الحقيقى.. يفرض على بعض الناس أحيانا شخصية مفتعلة أو مزيفة أو على أقل تقدير معمولها ماكياج وتجميل يناسب الوسط الذى تندس فيه.. وأحيانا يلجأ إلى هذا الماكياج أشخاص يحتاجون للظهور بشكل مختلف عن حقيقتهم، هربا منها أو تنكرا لها.. كلما ارتفع مستوى وعى وإدراك الشخص كلما اقترب من الحقيقة وبحث عن أقران حقيقيين يجد فيهم نفسه ويفيد ويستفيد.. بينما يتخفى آخرون لأغراض عدة..
■ فيه ناس داخلة تدور على أصحابها القدام.. وناس بتدور على ونس.. وناس بتدور على أدوار تلعبها مش متحققة فى الواقع.. وناس داخلة تنصب أو تشقط أو تفرغ طاقات سلبية لا تجرؤ على تفريغها فى الحقيقة.. وناس عاوزة تتعلم.. وناس عاوزة تسطو على مجهود ناس تانية.. فيه كل الصفات والأدوار.. ناس بتدخل عشان تكون على طبيعتها وسط أصدقاء يصعب التواصل معهم فى الحقيقة.. وناس بتلبس وشوش مش بتاعتها وتكتب كلام كبير مش قده.. وناس بتتآمر وناس بتخطط وناس بتصلح وناس بتفسد..
■ من عالم الفيسبوك تقدر بنظرة متفحصة تطلع بنتائج.. مين مشغول بأكل عيشه ومين صايع طول اليوم.. مين مالوش شغلانة غير التريقة والهزار.. ومين مهموم بأمور الوطن بجد.. مين فاضى من جوه ومين متعبى خير أو مرار.. مين معجون بالحقد ومين نفسه شبعانة.. ومن أسلوب الكتابة تقدر تعرف مستوى التعليم طبعا.. والمستوى الاجتماعى.. مين أصلى فى نشراته وأطروحاته.. ومين عايش سفلقة على حس أفكار الناس التانية.. حيث يعج الفيسبوك بألوان من المقرصنين للأفكار.. حتى الأفكار والخواطر والنكت أو الدعابات لها لصوصها.. ولذلك أيضا تجد أن الفيسبوك له قوانين لا يفهمها الكثيرون وله أخلاقيات وضعها المستخدمون لأنفسهم.. فمن الأخلاقيات إنك لما تستعير مقولة لأحد تكتب إنها منقولة عن فلان.. ومن يفعل غير هذا يصبح فى نظر المحيطين به حرامى مستفز لا شرف فيسبوكى له..
■ المطلع على الفيسبوك بنظرة فاحصة شوية.. يجد أن علاقات الناس ببعضها كانت حمادة قبل الثورة.. وأصبحت حمادة تانى خالص بعدها.. الناس كانت تعيش حياة عادية فى إطار نشاط إلكترونى لتبادل المعارف واللطافة واستعادة الذكريات وحاجات فى معظمها مسالمة كده.. كان فيه مناوشات طبعا حوالين الأفكار والاتجاهات، لكنها كانت محدودة خصوصا فى إطار السياسة.. لكن من أول يوم فى الثورة حدث انقلاب مرعب فى كل أنحاء الفيسبوك وتويتر.. انقلاب فى المعلومات والتوجهات والتحيزات والمجابهات والخطابة والحنجورى.. ظلت فى إطار أكثر احتراما فى الفيسبوك عن تويتر.. فلأن تويتر محدود بعدد حروف فى التويتة الواحدة وجد الكثيرون أنهم يجب أن يكونوا أكثر حدة وشراسة فى طرح الفكرة فى حيز العدد ده.. ولذلك لضيق المعلومية ومحدودية السيطرة على اللغة.. اختاروا أن يستخدموا أكثر الألفاظ فجاجة تركيزا على فرض وليس طرح الفكرة.. كأنه يضع الفكرة وجنبها فردة شبشب للى يحاول يعارضها أو يشجبها.. وبالتالى يواجه بفرد آخر يطرح فكرته وجنبها فردة صرمة قديمة.. قال يعنى السلاح هنا أقوى.. فتلاقى النفر من دول يبدأ كلامه ب عبوكوا الأول قبل ما يقول عايز إيه عشان يخوف اللى حايعارضه.. وهكذا تحول تويتر إلى ساحة سلخانة فى معظمه واكتفى الكثيرون بالفرجة على مباريات النطح من بعيد..
■ ولكن فى كل الأحوال تركت تلك الثورة أثرها على شعب الفيسبوك، حيث انقسم على نفسه عدة مرات.. وحدث له نوع من الهياج كموج البحر يعلو للسماء ثم ينزل مستقرا فى كل مرة على جزر مختلفة.. تارة مع اليسار وأخرى مع اليمين.. مرة يتكون حزب مقاطعين للانتخابات ضد حزب المصوتين، فتتجمع أصوات هنا وأصوات هناك لتتبادل السباب واللعان والاتهامات بالخيانة والعمالة.. ثم تثور الأمواج مرة أخرى وتهدر لترسو فوق جزر أخرى تحت مسمى الشفشقيين والمرسيين.. ثم يأتى الإعصار التالى ليكون جبهات مثل السيساوية والثورجية!!!.. والسيساوية وبتوع يسقط يسقط.. لأ وآخر موضة هى السيساوية والحمدينية.. أهو أى خناقة وخلاص.. أى رغى وأى لهو خفى يوقع الناس فى بعضها كأنه أصبح إدمان.. وبين كل إعصار والتالى له يتفرق أصحاب وتتكتل جبهات لتعود وتتفرق من جديد.. لتؤكد أننا فعلا طردنا من حياتنا هؤلاء الإرهابيين ولكن بعد أن عقرونا وتركت أنيابهم فى دمائنا جرثومة التطرف.. ولو مالقيناش حاجة نتخانق عليها نختلق خناقة بين الشباب والجيل الأكبر ويبقى العيال هما اللى عباقرة والآباء «عرة».
■ أين السلام إذن؟.. تتجلى حالات الألفة كلما كان الأصدقاء مقربين من بعض فى الحقيقة أو كانت عشرتهم لبعض على الفيسبوك قد طالت ومرت بكل العواصف ولم تهتز وظهر المعدن الأصيل من «العرة» فعلا.. هنا تسود حالة جميلة أقرب إلى غرفة معيشة البيت الكبير الممتلئ بغرف النوم.. حيث يسكن كل شخص فى غرفة نومه، ولكنه يجتمع مع الأصدقاء فى غرفة المعيشة.. وهنا يتحول الفيسبوك إلى ما يشبه الحالة الحياتية لستار أكاديمى.. فالأصدقاء يسهرون معا على النت.. تكاد تراهم بالبيجامات والزعابيط فى الشتا.. يتسامرون ويتبادلون الفيديوهات والمعلومات ويشاهدون البرامج فى التليفزيون سويا.. بحيث ينبه أحدهم المجموعة لأن هذا البرنامج يستضيف فلانا.. «إلحقوا إلحقوا.. حولوا على قناة كذا فيها خناقة فظيعة» واللى مالحقش برنامج معين يطلب من الشلة الفيديو الخاص له.. وفى آخر الليل يكون الجميع عرفوا ملخص الأحداث من كل البرامج مع بعض.. وكذا المسلسلات وخلافه.. يشاركون بعضهم فى تفاصيل اليوم ويعودون المرضى ويهنئون العرسان.. بل أحيانا يسأل أحدهم المجموعة أتعشى إيه؟ فيسارعون بتقديم الاقتراحات وصور للأكل قال يعنى إتعشوا مع بعض كده.. وممكن تلاقى فى نص الكلام كده واحد ظهر بيتتاوب.. فعلا بيتتاوب.. فتنهال عليه الأسئلة «إنت إيه اللى صحاك يابنى؟.. مش كنت داخل تنام من ساعة؟».. فيرد «ماعرفتش أنام.. فيه ناموسة مطلعة روحى».. فتظهر له صور لأنواع من المبيدات الحشرية أو وصفات لعلاج قرصة الناموسة.. وممكن قوى واحد يستغيث بأن عنده مغص كلوى ولوحده فى البيت وفعليا يقول «إلحقونى».. فيبادر الأقرب إليه سكنا وينزل جرى يلحقه مع متابعة من كل الجروب لكل خطواته عن طريق الموبايل..
■ ومن التقاليد الجميلة.. المشاركة فى كل المناسبات.. فيتبادل الأصدقاء معلومة إن فلان يمر بأزمة صحية.. إن كان يحتاج للمال يلموا من بعض.. إن كان يحتاج للصلاة يكونوا مجموعات دعاء وختم قرآن، أو صلاة مكثفة مشتركة بين المسيحيين والمسلمين.. إن كان ابنه داخل على امتحان عسير.. تجدهم يطمئنون من الأب أو الأم طوال ما هى مجعمزة على باب المدرسة مستنية الواد يخلص.. ويراجعوا مع الواد الأسئلة لما يخرج.. إن كان حد مسافر.. يفضلوا معاه لحد ما يوصل بيسلوه إذا كان سايق بالتليفون أو عالنت إذا كان قاعد جنب سواق..
■ يوم الجمعة الماضى الموافق 24 يناير.. كان الجميع سهرانين مع بعض.. وسُمعت صوت التفجيرات لدى مديرية أمن القاهرة بالقرب من بيوت بعضهم.. انتشر الخبر فور وقوعه لأن كلنا كنا مع بعض.. كلنا اتزعببنا وعشنا الحدث لحظة وقوعه تارة بالسؤال عن المكان وأخرى بالاطمئنان على سكان المنطقة واللى كان قريب نزل جرى يساعد أو يطمئن أو ينقذ جارا.. وفى تلك اللحظات تزداد اللُحمة والتواصل والإخاء والشعور بالوطنية الجارفة بحيث تصل لمنتهاها..
■ عدة سنوات قصيرة من عمر هذا الوطن.. استحدثت فيها تكنولوجيا قربت الناس من بعض أو أظهرتهم على حقيقتهم أو فعلت ما فعلت بهم.. لكنها بالقطع كانت مؤثرة جدا.. أعادت هواية الكتابة والتعبير عن النفس للكثيرين.. شجعت القراءة من أول وجديد.. أظهرت كما من الإبداع قلما تجود به العصور على شعب فنان مثلنا.. أخرجت الأعمال القديمة من غرف الذكريات المظلمة.. أحيت الحنين للماضى بصورة جنونية..
■ فهل سيدرس علماء النفس والاجتماع كل هذه العوامل التى أثرت فى الشخصية المصرية؟؟.. مع العلم بأن المتعاملين مع هذه التكنولوجيا من كل الأعمار والطبقات.. وأن كل هؤلاء ماخدوش العلم ده فى المدارس.. شوف العبقرية.. وهل ستجعلهم هذه الدراسات يساعدون الدولة فى تفهم الطبيعة الجديدة للمصريين؟؟.. فمن لا يدرس كل هذا بدقة شديدة سيفوته الكثير وسيصدر أحكاما قاصرة وقرارات غير واقعية.. على من سيدير هذا البلد أن يعرف.. إن الشعب نور نفسه بنفسه وأصبح ناصح قوى يا خال.