لا يشير عنوان هذا المقال إلى رواية "هنا القاهرة"، للروائيّ المصريّ الجميل إبراهيم عبد المجيد، صاحب "لا أحد ينام في الإسكندريّة"، و"بيت الياسمين"، و"أداجيو"، بل يشير إلى محاولة منّي لأؤكّد لنفسي أنّني هنا في المكان ذاته الذي اعتدت أن أرى فيه النيل، وألتقي أصدقائي، وأتابع عروض السينما والمسرح، وأقتني أحدث الكتب أو أكثرها فرادة، وأستمع إلى موسيقى شباب يجلسون إلى طاولات الوافدين إلى “الحسين”، يعزفون ألحان أغنيات لمحمّد عبد المطّلب، وكارم محمود، وأم كلثوم..
لم نعد كما كنّا أبداً!
على مرّ أيام أربعة، التقيت بأصدقاء وزملاء روائيّين، ونقّاد، وأكاديميّين، وإعلاميين، من أنحاء الوطن العربيّ كافّة، الذين عرفتهم شخصيّاً أوافتراضياً، وذلك في أعمال ملتقى القاهرة الدوليّ السادس للرواية العربيّة، الذي ينظّمه المجلس الأعلى للثقافة، هذا الملتقى الذي أسمّيه عمدة الملتقيات، وكان قد توقّف منذ عام 2010، حيث دخلت مصر في منعطفاتها المتوالية. تحدّثنا طويلاً عن الرواية العربيّة، وعن تحوّلات الشكل وجماليّاته فيها، وهو عنوان هذا الملتقى، الذي حمل أيضاً اسم الروائي فتحي غانم، واحد من روائيي الستينيّات.
لم يحدث تحوّل عنيف في الشكل الروائيّ، لأنّ هذا الشكل في تحوّل مستمرّ أصلاً، فمع كلّ حبكة جديدة، شكل جديد، مثلما أنّه مع كلّ مرويّ جديد شكل جديد، إذ لا تقال الأحداث المرويّة بالطريقة ذاتها مرّتين! كان هنري جيمس يصرّ على وجود خمسة ملايين طريقة لقول الحكاية، فالأحداث الخام التي تشكّل القصّةَ في شكلها ما قبل الحكائيّ، تتغيّر مع تغيّر القائل، أو تغيّر منظاره، أو أيديولوجيته، أو تغيّر ترتيب الأحداث، وزمن القول..
يحدث التغيّر في الشكل بسبب من علاقة الرواية بأيّ شيء، روائيّ أو غير روائيّ، وهي علاقات غير محدودة، علاقات بالتاريخ، والفنون، والأنساق المعرفيّة الأخرى، وبفنّ القول ذاته، إنّها الهجنة التي تشكّل شرط تطوّر الرواية، المتحرّرة دائماً، لأنّها نثر، والنثر تحرّر من قيد الشعر، ذلك العبد الطوعيّ للمقامات والطقوس، كما يقول بيسوا، موقناً من أنّه في عالم متحضّر تماماً، لن يوجد فنّ آخر غير النثر!
إذن، تحوّلات الأشكال من طبيعة الرواية، وعلى الروائيّ ألاّ يقلق كثيراً تجاهها، ما دام قد امتلك حكاياته، لأنّ الشياطين ستقوده للكتابة، لدرجة سينسى معها القلق بشأن الأسلوب.
لم نعد كما كنّا أبداً!
هناك تغيّر أكبر، وأعنف حصل داخل كلّ منّا، وعلينا أن نقلق تجاهه، قبل أن يتجلّى في نصوص مكتوبة، وخاضعة للنقد، لقد كبر الجميع فجأة، وتضاءل لديهم الشغف بالحياة، وكان في الأوراق التي قدّمت، وفي العيون التي التقت، وفي الحوارات التي دارت، صور لفجائع وخسارات، واستسلام لأرض رخوة وبلا خرائط أيضاً، وكان واضحاً في الملامح والأصوات عصْفُ التطرّف، والعنف، والحرب، والفقر، وتغيّر مفاهيم الفصول، والاستعمار، والثورة، والآخر.. لم يعد هناك حتّى بعض الأمان أو اليقين الذي يكفي لمغامرة، وقد أجمعنا على أنّ الخيال الذي يفترض أن نطلق نحن خيوله، لتسابق الريح، صار يلهث وراء مشاهد الموت السرياليّة في أكثر الأماكن التي كانت وادعة في العالم العربيّ، المكان الذي ولدتُ فيه تحديداً.
لم نعد كا كنّا أبداً!
لا في حواراتنا، ولا ضحكاتنا، ولا بريق عيوننا، ولا جدالاتنا التي كثيراً ما تحوّلت إلى صراعات تحرّر اللغة، والشكل، والعلاقات في كتاباتنا، ولعلّ الشعر بواحديّته، وديكتاتوريّته، وعنفه العاطفيّ يستطيع أن يقترب ممّا نبحث عنه وراء تحوّلاتنا، التي نعرف أسبابها، لكنّنا لا نستطيع حتّى اليوم أن نشخّصها، والتي سأسمّيها “الشيء الحزين”، مستعيرة التسمية من الشاعر المصريّ، الذي سكن هنا، على مقربة من المكان الذي أكتب منه هذا المقال الآن، صلاح عبد الصبور، الذي صنع بدوره تحوّلات شعريّة هامّة: