جاك لانغ: سحر مصر يأسر قلوب الفرنسيين
باريس: الأمير كمال فرج.
جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي في باريس سياسي كسبته الثقافة، ومثقف كسبته السياسة، حيث تمكن من خلال مناصبه الحكومية من خدمة الثقافة العربية، وتعزيز التواصل بين فرنسا والعالم العربي، ساعده على ذلك تقلده منصبين ذاتا صلة أساسية بالثقافة والتعلم، وهما وزير الثقافة، ووزير التعليم.
عشقَ اللغة العربية منذ مطلع شبابه، واكتشف جمالياتها، ومكامن التفرد فيها، فبذل كل جهده لنشرها في فرنسا والعالم، وتوّج نظريته في كتاب "اللغة العربية ـ كنز فرنسا" الذي دعا فيه إلى اكتشاف التاريخ العريق والغنى المذهل للغة العربية التي دخلت فرنسا منذ قرون، وأصبحت جزءا من تراثها الثقافي، داعيًا إلى تدريسها، ووقفَ بجسارة ضد القلة من الرافضين لتدريسها في فرنسا.
لعب جاك لانغ دورًا في إنشاء متحف "اللوفر أبو ظبي"، وساهم من تحويل فكرة معهد العالم العربي إلى واقع، وقدّم الدعم لتطوير السينما الافريقية. يترأس الآن معهد العالم العربي في باريس أكبر منشأة ثقافية عربية في أوروبا، والتي تعمل ليل نهار على نشر الثقافة والفن والقيم العربية الجميلة، والدفاع عن القضايا العربية انطلاقا من عاصمة الثقافة العالمية باريس.
كشف جاك لانغ ـ في حوار مع "الشارقة الثقافية" ـ عن صلاته الثقافية بالعالم العربي، وأبرز الشخصيات التي قابلها، ودور المعهد في نشر الثقافة العربية وحمايتها، ودعم القضايا العربية، وسلط الضوء على قصة انشاء "اللوفر أبو ظبي" ، ومعهد العالم العربي"، وسمة" أول مقياس لتقييم إجادة اللغة العربية، وأكد أن سحر مصر يأسر قلوب الفرنسيين، وموضوعات أخرى في هذا الحوار.

علاقات مع العالم العربي
*ترأست العديد من المؤسسات الثقافية المرموقة في فرنسا، فشغلت منصب وزير الثقافة، ووزير للتعليم، ما الذي يميز تجربتك في معهد العالم العربي في باريس عن التجارب السابقة؟
ـ رئاستي لمعهد العالم العربي شيء جديد، ولكنه متصل بخبرتي القديمة، فصلتي بالعالم العربي قديمة جدا، من أيام المدرسة، بالتحديد في حقبة استقلال المغرب، كان عمري حينئذ حوالي 15 سنة، وكنت أتابع ثورات الدول العربية التي تهدف الى الاستقلال.
ومنذ مطلع شبابي ربطتني صداقات مع شخصيات في المغرب العربي، ومن ثم زرت العديد من الدول العربية، مثل مصر ولبنان، وفي عمر الخامسة والعشرين، زرت الجزائر والمغرب وتونس. وفي وقت متأخر عرفتُ دول الخليج العربي بعدما صرت رئيسا لمعهد العالم العربي.
وكان المخرج المصري يوسف شاهين أول شخصية عربية تزورني عام 1980 عندما أصبحت وزير الثقافة، وكنت أعرفه جيدًا، فقد التقيت به في القاهرة من قبل.
اتصل شاهين بي بمجرد تقلدي وزارة الثقافة، وقال لي أن السينما الإفريقية بحاجة إلى دعم فرنسي، حتى تتطور، واستجابة لهذه الدعوة، عملت على تخصيص تمويل للسينما في شمال إفريقيا.
ودعاني شاهين لحضور حفلة لسيدة الغناء العربي أم كلثوم في قاعة "أولمبيا" التاريخية في باريس، فقد أقامت أم كلثوم حفلين في باريس، الأول في 13 نوفمبر 1967، والثاني في 15 نوفمبر 1967.
وفي بداية عملي في وزارة الثقافة، أخبرت الرئيس فرانسوا ميتران بأمر معهد العالم العربي الذي كان موجودا على الورق، فتم تخصيص الأرض، وقال لي باشروا في البناء، واخترت المهندس الاستشاري، وباعتباري وزير الثقافة حينئذ، سهلت كل الإجراءات لبناء هذا المعهد.
وصلتي بالعالم العربي كان لها أشكال عديدة، مثلا عام 1999 دعا الرئيس فرانسوا ميتران الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في وقت كان يعتبره الكثير من الجهات أنه إرهابي، فقد كان ميتران مؤمنًا بعدالة القصية الفلسطينية، وحافظ على حياة عرفات ثلاث مرات.
وقتها، قال لي ميتران: "أنت مثلي تفكر في حل لقضية فلسطين"، وطلب مني أن أعد لعقد اجتماع في معهد العالم العربي في باريس مع عرفات وشخصيات مهمة، وتم هذا الاجتماع الرفيع، ولدي صور عدة توثق هذا اللقاء.
ومن الشخصيات التي كنت على تواصل معها الفنان فاروق حسني وزير الثقافة المصري الأسبق، وكذلك الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك والذي كان يهتم بالثقافة.
وعلى مر السنوات كنت موجودًا دائما في البعثات الرسمية الى الدول العربية مع الرؤساء، ومنهم الرئيس ايمانويل ماكرون، ومن شهور تكلمت مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ومن خلال رئاستي لمعهد العالم العربي، حرصت دائمًا على توطيد العلاقات مع الدول العربية، مثلا في الإمارات لعبت دورًا في إنشاء متحف "اللوفر أبو ظبي" من فرنسا، الذي كان فكرة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، في ذلك الوقت كان بعض المسؤولين في اللوفر في باريس ضد انشاء الفرع الثاني، فكتبت وقتها العديد من المقالات التي أكدت فيها أن "اللوفر أبو ظبي" فرصة مهمة لفرنسا والإمارات.
وأنا أستقبل دائما شخصيات ثقافية من الإمارات، منهم ذكي نسيبة المستشار الثقافي لرئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ورئيس جامعة الامارات العربية المتحدة، وهو عضو مجلس إدارة معهد العالم العربي، وصديق مقرب، ساهم في انشاء جامعة السوربون في أبو ظبي، وسوف استقبله الأيام المقبلة.

الثقافة الفلسطينية
في ظل التحديات العالمية الراهنة والتغيرات الجيوسياسية، كيف يساهم المعهد في تعزيز التفاهم والحوار بين الحضارات، لا سيما بين العالم العربي والغربي؟
ـ هذا السؤال كبير جدًا، فنحن لسنا اليونيسكو أو جامعة الدول العربية، ورغم ذلك أبذل كل الجهد لدعم الشخصيات العربية، على سبيل المثال أدعم المرشح العربي والمصري وزير السياحة والآثار المصري السابق الدكتور خالد العناني، لمنصب مدير عام منظمة اليونسكو للفترة 2025-2029، وهو يتكلم الفرنسية.
كما ندعم القضايا العربية، على سبيل المثال نحن المعهد الوحيد في العالم الذي يعطي الثقافة الفلسطينية المكانة والضوء، كما أن السفير الفلسطيني السابق الى اليونيسكو الياس صنبر عمل مع المعهد على تنظيم معرض بعنوان "ماذا تعطي فلسطين للعالم؟" واستمر المعرض لمدة سنة، وحقق نجاحًا كبيرًا.
وينظم المعهد حاليًا معرض "آثار ناجية من غزة: 5000 عاماً من التاريخ"، افتتحه رئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون، ويضم أكثر من 100 قطعة أثرية تشهد على الماضي المجيد للمدينة الفلسطينية التي كانت منذ العصور القديمة مفترق طرق استراتيجيا للتجارة بين آسيا وإفريقيا والتي تعرّض تراثها للتدمير بسبب الحرب مع إسرائيل.
وتقام على هامش المعرض حلقات حوار، وعروض سينمائية وموسيقية وفعاليات حول الثقافة الفلسطينية، ويشهد المعرض إقبالا كبيرًا، حيث بلغ عدد زواره ألف زائر يوميا، وأدهشت المعروضات الزائرين.

مقياس لتعلم اللغة العربية
* لك موقف حاسم من مناهضي تعليم اللغة العربية في فرنسا، الآن هل خفّت هذه الحملة المناهضة لتعليم العربية أم زادت؟
ـ اللغة العربية من أجمل اللغات في العالم، وهي اللغة المحكية الخامسة عالميًا، وتتميز بثراء لغوي نادر، وقد أثّرت في العديد من اللغات، حتى أن هناك كلمات عربية في اللغة الفرنسية، لذلك وضعت كتابي "اللغة العربية .. كنز فرنسا".
ومن يقفون ضد تعليم اللغة العربية في فرنسا أقلية، وهم لا يحبون الآخر، وقد تمكنّا من أن نبيّن للفرنسيين جمالياتها من خلال العديد من الفعاليات.
وقد خصصت الدورة التاسعة والسبعون لمهرجان أفينيون أكبر مهرجان مسرحي في أوروبا، والتي أقيمت في جنوب شرقي فرنسا في يوليو الماضي حيّزا رئيسيا للعربية، بوصفها لغة النور والمعرفة، ونظم معهد العالم العربي ضمن فقرات المهرجان أمسية شعرية عربية رائعة.
وقدم معهد العالم العربي في باريس مبادرات متنوعة لتعليم اللغة العربية، أهمها وضع مقياس عالمي لتعلم اللغة العربية، من خلال شهادة "سمة" لتصنيف درجة التمكن من اللغة العربية، وهذه خطوة مهمة وأولى لتقييم مستوى اتقان اللغة العربية، توازي TOEFL في الإنجليزية و DELF في الفرنسية.

سر كليوباترا
*ينظم المعهد حاليًا معرض "سر كليوباترا" الذي يسلّط الضوء على آخر ملكات مصر القديمة، ما هو المغزى من المعرض، وما هي أصداؤه عند الجمهور الفرنسي؟
ـ كليوباترا شخصية تاريخية ملهمة، وهي ظاهرة عالمية، فرغم مرو 2500 سنة على وفاتها، لازالت موجودة في فكر وخيال وفنون العالم، وفي الشارع عندما نقول كلمة "كليوباترا" يعرف الناس قيمة هذه الكلمة، لقد ألهمت هذه الملكة المصرية الرائعة الشعراء والكتاب والفنانين والنحاتين والرسامين وكتّاب السينما، وهو ما يؤكد أنها ظاهرة خالدة عبر القارات والعصور.
يضم المعرض ما يقارب 250 عملًا فنيًا، تم جمعها من العصور المختلفة تُقدم للزوار رحلة زمنية فريدة، كاشفة عن أحدث ما توصلت إليه المعرفة التاريخية والأثرية حول كليوباترا. من التماثيل والنقوش التي تصورها، إلى القطع الأثرية التي تُجسد الحياة في عصرها، يُقدم المعرض رؤى جديدة تُسهم في فك طلاسم شخصيتها المعقدة ودورها المحوري في التاريخ الروماني والمصري.
ويرافق المعرض برنامج ثقافي متنوع وحافل. يشمل هذا البرنامج لقاءات وندوات ثقافية تُناقش جوانب مختلفة من حياة كليوباترا وعصرها، بمشاركة خبراء ومؤرخين. بالإضافة إلى ذلك، تُقدم عروض موسيقية وسينمائية مستوحاة من قصتها، وورش عمل تفاعلية تُتيح للجمهور فرصة للانغماس بشكل أعمق في تاريخ هذه الملكة الفذة.
* الثقافة الفرنسية ثقافة كونية، أثرت على العديد من الثقافات، ففي مصر مثلا هناك جيل من الكتاب الذين تأثروا بها وكتبوا بها، كيف ترون هذا التأثير؟
ـ إذا تحدثنا عن مصر فإننا سنتحدث عن أعجوبة مصرية، فعندما كنت مع الرئيس ايمانويل ماكرون في زيارته الأخيرة لمصر، انبهرت من وجود اللغة الفرنسية في العديد من الأماكن، مثل جامعة القاهرة، والجامعة الفرنسية في القاهرة.
الوجود الفرنسي قوي في مصر، وكذلك الوجود المصري في فرنسا، ويمكن القول إن هناك سحر مصري في المدن الفرنسية، فالفرنسيون مولعون بالحضارة المصرية، وهذا ليس غريبا فمصر أكبر الدول العربية، والحضارة المصرية هي الأقدم، وكانت مصر دائما قوية ومؤثرة على مر التاريخ.
وحتى الوقت الحالي مصر لازالت تقدم للعالم العظماء من الفنانين والممثلين والسينمائيين. عندما نقول مصر في فرنسا الرد يكون دافئا وجميلًا، الحضارة الفرنسية أثّرت في مصر، ولكن مصر أيضا أثرت في فرنسا.

الذكاء الاصطناعي
* الذكاء الاصطناعي تحدي كبير يواجه الثقافة العربية، كيف استعدّ المعهد لهذه التغيرات الجذرية التي تظهر في الأفق؟
ـ لست عالمًا في هذه التقنية، ولكن الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين، فمن ناحية على الصعيد الطبي والعلمي هو مفيد جدًا، على سبيل المثال وظفنا الواقع الافتراضي في معرض "سر كليوباترا"، فزودنا الزوار بنظارات خاصة لتقريب السرد التاريخي، وأعدنا تصميم المكتبة الاسكندرية القديمة بنفس الطريقة، وقدمناها بشكل تفاعلي شائق حظي على إعجاب الزوار.
ولكن في الثقافة والفن لا يمكن أن يستبدل الإبداع بالماكينات والروبوتات، لذلك يعمل المعهد على التوعية بهذه القضية وحماية المفكرين والمبدعين.

تجربة الشارقة الثقافية
* امارة الشارقة أول مدينة إبداعية عربية، وقد أصبحت بؤرة للإشعاع الثقافي العربي والعالمي، كيف ترون هذه التجربة؟
ـ الامارات العربية المتحدة كانت من أوائل الدول التي دخلت عالم الفن والثقافة بقوة، وكان لها حضور ثقافي دائم من خلال العديد من المشاريع، وتتمتع الامارات بتنوع جميل، على سبيل المثال الشارقة إمارة ثقافية بامتياز، وكانت رائدة في النشاط الثقافي، والشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة عضو المجلس الأعلى للاتحاد، كان الأول في احتضان الثقافة وتعظيمها، والحفاظ على اللغة، ودعم حوار الحضارات، وابنتاه الشيخة بدور والشيخة حور لهما اسهامات ثقافية وفنية عديدة.
وأتابع العديد من الفعاليات في الشارقة مثل بينالي الشارقة، ومعرض الشارقة للكتاب، والمتاحف في الشارقة أبهرتني، وأيضا الجامعات ومراكز البحوث.
وأبو ظبي مثال آخر للفن والثقافة والترجمة، وجزيرة السعديات التي تضم العديد من المتاحف مثل متحف اللوفر أبو ظبي، ومتحف التاريخ الطبيعي الذي سيفتتح قريبا، ولدينا تعاون كبير مع معهد أبو ظبي للغة العربية، ورئيسه الدكتور علي بن تميم، الذي حضر عدة مرات الى المعهد، وساهم في حضور اللغة العربية في مهرجان أفنيون الدولي.
وفي دبي أيضا حركة ثقافية وفنية مميزة، وقد فاز المعهد بجائزة محمد بن راشد للغة العربية في فئة تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية عن شهادة "سمة" لتقييم مستوى اتقان اللغة العربية.

* تواجه المؤسسات الثقافية مشكلة عزوف الناس عن الأنشطة الثقافية، والمعهد نجح في كسر هذه الصورة النمطية، كيف نجحتم في ذلك؟
ـ لدينا في المعهد فريق مميز جدًا نتعامل معا كأصدقاء، لديهم شغف، هذا الشغف يصل إلى كل الزائرين، ونحن محظوظون لأن الصحف العربية والفرنسية تغطي نشاطاتنا، وهو ما يضع علينا مسؤولية مضاعفة.
لدينا في المتحف قاعات مهيئة لإقامة المعارض الصغيرة والكبيرة، إضافة إلى قاعات لتنظيم حلقات حوار، وعروض سينمائية، وأمسيات موسيقية وغيرها، وبذلك نلبي كافة اهتمامات الزوار.
الصحافة الثقافية
* في مصر هناك تاريخ للصحافة الناطقة بالفرنسية، مثل le progres وهي تصدر منذ أكثر من 100 عامًا، وصحيفة Ahram Hebdo التي تصدر منذ أكثر من 30 سنة، ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه الصحافة في توطيد العلاقات الثقافية العربية الفرنسية؟
ـ هذه تجارب ممتازة، وكنا نأمل أن نواكب ذلك بإصدار صحيفة، وكان لدينا صحيفة فصلية، ولكنها كانت مكلفة جدًا، وأتأسف لعدم وجود صحيفة لدينا، وأنا شخص أحب المكتوب، لكننا نستعيض عن ذلك بالسوشيال ميديا التي أصبحت لغة العصر، وأعتقد أن نشاط المعهد في التواصل الاجتماعي عبر انستجرام وفيسبوك وغيرهما له تأثير كبير جدًا في اللغتين العربية والفرنسية، من خلال هذه التطبيقات نكتب ونجدد وننشر يوميًا لنصل إلى أكبر شريحة من الناس.
وأتمنى أن نرى في فرنسا صحيفة عربية سواء عن المعهد أو غيره لتقوم بدور مهم في توطيد العلاقات الثقافية العربية الفرنسية.
|
مواقع التواصل الاجتماعي مواقع تجسس تبيع بيانات المستخدمين
نعم
69%
لا
20%
لا أعرف
12%
|
| المزيد |
