استفدنا من "الفلاش باك" السينمائي و"الجملة المتكررة" الموسيقية.
 حلمي برواية ساخرة مستوحاة من أجواء "دون كيشوت" في الإسكندرية.
يجب أن نجد شكلاً عربياً للقصة مستمداً من تراثنا بعد محاولات الغيطاني.
 الإسكندرية هي عالمي.. تاريخها وناسها وحواريها وسفاحوها.

الأمير كمال فرج

غيب الموت الروائي الكبير مصطفى نصر، أمس عن عمر يناهر 78 عامًا، تاركًا خلفه إرثًا أدبيًا ضخمًا، وإذا ذكر اسم مصطفى نصر، نستدعي فورًا الإسكندرية المدينة الساحلية التي كانت المحور الأساسي لكتاباته. فقد رصد في أعماله حواريها، وسينماتها، وكتّابها وفنانيها، بل وسفاحينها، ليصبح بحق شيخ روائيي الإسكندرية.

قدم مصطفى نصر للمكتبة العربية العديد من الروايات التي رسخت شكل الرواية العربية الحديثة، ومنها: "دفء المرايا"، و"الجهيني"، و"جبل ناعسة"، و"سينما الدورادو"، و"ليالي غربال"، و"ظمأ الليالي"، و"الستات"، و"مالم يقله البحر"، و"المساليب"، و"يهود الأسكندرية"، وهي أعمال حظي بعضها بإشادة كبار الأدباء مثل نجيب محفوظ الذي أشاد بروايته "الهماميل".

كرمته دائرة الثقافة في الشارقة عام 2021 في الدورة السادسة من ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي، مع الشاعر درويش الأسيوطي والقاص سمير المنزلاوي والروائي سعيد نوح.

وفي هذا الحوار الذي يرى النور لأول مرة بعد رحيله، قال مصطفى نصر لـ "الصحافة" ـ أن نجيب محفوظ له الفضل في رواج الرواية وتحقيقها أعلى المبيعات، بعد أن كانت الكتب الدينية وكتب الطبخ والأزياء أكثر الكتب مبيعًا. وأكد أن الرواية استوعبت كل الفنون واستفادت من الموسيقى والسينما، وأنها قادرة على استيعاب كل جديد، مثل المسرح والمسائل العلمية البحتة، والقضايا الاقتصادية والسياسية، وغيرها من الآراء التي نكتشفها في ثنايا هذا اللقاء..

ـ الرواية هل هي خيال أم واقع؟، أم جزء من سيرة ذاتية؟

الرواية مزيج من الخيال والواقع والسيرة الذاتية، ودائما أنصح كتاب الرواية الجدد بأن يسجلوا ما يأتي في عقولهم على الفور، اكتب ما يمليه عليك خيالك، هناك روائيين نجد شخصيتهم في كل أعمالهم، مثل سعيد سالم ومحمود قاسم وصنع الله إبراهيم، هؤلاء موجودون بشخصياتهم في مواقف مختلفة، وهذا ليس عيبا وإنما هي طريقة من طرق الكتابة، بينما عند نجيب محفوظ تجد شخصيته أكثر في "حكايات حارتنا" ثم في "المرايا"، وجزء من حياته في "الثلاثية". أنا في روايتي "سينما الدورادو" رصدت فترة من صباي وطفولتي، وربطت كل هذا بعلاقتي بسينمات الإسكندرية. 

أما عن حجم الخيال من الواقع، فهذا يختلف من كاتب لآخر، فأنا عشت في حي ثري فنيا، فيه حكايات غاية في الإثارة والغرابة، كما أن حياتي فيها دراما عالية ـ  دراما بمعنى الصراع ـ فقد عشت أحداثا جسام، موت أمي في طفولتي ومتاعبنا بعد موتها، مشكلتي كانت كيف أصور هذه الأحداث دون أن يعرف القاريء أني اتحدث عن نفسي؟. 

فضل نجيب محفوظ

ـ كيف كان تأثير نجيب محفوظ على جيلكم، وهل يمكن القول أن ذلك ظلم هذا الجيل من المبدعين؟

هناك مقولة ليحيي حقي معناها "ماذا كنا سنفعل، لو لم يأت نجيب محفوظ؟!، ماذا كان سيحدث لعالم الرواية لو لم يوجد نجيب محفوظ؟"، وهذا رأي صحيح ، وقلت يوما "نتنفس نجيب محفوظ دون أن ندري".

في إحدى السنوات قضيت في معرض القاهرة الدولي للكتاب ثلاثة أيام أنا وصديقي شوقي بدر يوسف، لا شغل لنا سوى شراء الكتب والمجلات الأدبية، فلاحظنا ـ وقتها - أن أكثر ما يباع في المعرض هي الكتب الدينية، وتليها كتب الطبخ وأزياء النساء، وكانت الرواية تأتي في المرتبة الثالثة، الآن الرواية تحقق أعلى مبيعات على الإطلاق، هذا بفضل نجيب محفوظ.

يجب أن يناصر الفنان الجيد والموهوب الفنان المبتديء، فموهبته العالية تعصمه من الحسد والغيرة، وهذا ما فعله جيل العمالقة طه حسين والعقاد وسلامة موسى، ناصروا الجيل التالي لهم، جيل محفوظ ويوسف إدريس، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس وغيرهم.

أما عن نجيب محفوظ، فقد أهديته روايتي "الهماميل" في فبراير 1988، وبعدها نال جائزة نوبل، سألوه وقتها في برنامج إذاعي عن الرواية التي لفتت نظره بعد فوزه بنوبل، فقال "الهماميل" لمصطفى نصر.   

الإسكندرية عالمي

ـ استلهمت العديد من رواياتك من مقر اقامتك الإسكندرية، فما هو دور المكان في رواياتك؟

كل كاتب له مكانه الخاص، فلو طلب من عدد من الروائيين أن يكتبوا عن مكان يعن لهم، كل منهم سيقدم مكانا مختلفا، مكانا أدخله في قلبه وشرايينه ودمه، ثم أعاد صياغته بعد ذلك، فمثلا كتبت عن حي بحري عن شخصيات حقيقية سبق أن كتب عنها محمد جبريل، لكن كتاباتي كانت بعيدة تماما عن كتاباته.

تعنيني الإسكندرية ـ تاريخها وأماكنها وناسها ـ فقد كتبت عن أشياء كثيرة فيها، كتبت عن حواريها، وعن سفاحينها وعن كتابها وفنانيها، الإسكندرية هي عالمي، أتمنى أن أكتب عن كل شيء فيها، عن لاعبي الكرة فيها، وعن أي سياسي أو إعلامي أو فنان خرج منها.  

رواية الكومبكير

  ـ ماهو جديدك الإبداعي، وماهو العمل الروائي الذي تحلم بكتابته يوما ما؟

انتهيت من كتابة رواية عن منطقة الكومبكير في الإسكندرية التي نشطت في الحربين الأولى والثانية في الإسكندرية بالذات، لأن الحرب كانت أقرب للإسكندرية. والرواية تبدأ عندي كمجرد حالة، فقد رغبت في الكتابة عن دور الإسكندرية الوطني قبل قيام ثورة يوليو عام 1952، فكتبت روايتي "الهماميل"، ورغبت في كتابة رواية مستمدة من تكنيك وجو "ألف ليلة وليلة"، فكتبت روايتي "ليالي غربال".

أحداث الرواية تأتي وقت الكتابة، لذا، لا أستطيع أن ألخص رواية قبل كتابتها، وأحلم بأن أكتب رواية ساخرة مستمدة من جو رواية دون كيشوت تدور في الإسكندرية.

ـ تتضمن الرواية أكثر من فن .. ففيها الشعر والقصة والحكي والتوثيق وغيرها ، كيف يستوعب الروائي كل هذه الفنون؟

الرواية أقدر على استيعاب كل الفنون، فهي استفادت من الموسيقى، ففي "ميرامار" - مثلا - عبر نجيب محفوظ عن كل شخصية من شخصيات روايته بجملة معينة، نفس التكنيك الذي تقدمه الموسيقى بالتعبير عن الشخصية بجملة موسيقية تتكرر طوال أيام العرض، واستفادت الرواية من فن السينما في الفلاش باك، وتكبير المشهد وفي أشياء أخرى عديدة. 
الرواية بالذات قادرة على استيعاب كل جديد، مازلنا نعيش في عالم الرواية المتسعة التي بلا ضفاف، فالكاتب الأمريكي ويليام فوكنر مزج مشاهد مسرحية داخل رواياته، ولم تعترض الرواية أو تشكو، وهناك روايات اعتمدت على مسائل علمية بحتة، أو مسائل اقتصادية أو سياسية. 

كسر الحاجز الغربي

ـ خضع الشعر للتجريب فظهرت أشكالا جديدة منه كشعر التفعيلة والشعر المنثور وغيرهما، فما هو موقع الرواية من التجريب؟

حاول أستاذي جمال الغيطاني رحمه الله أن يكسر الحاجز الذي فرضه الغرب علينا في شكل القصة القصيرة والرواية، فقد استفاد الغرب من فن ألف ليلة وليلة الراقي، ووضع جيوفاني بوكاتشيو القصة والرواية في فورمة محددة ألزمنا بها، وقبلناها صاغرين.

حاول جمال الغيطاني تقديم شكل مغاير مستمد من تراثنا، لكن القدر لم يمهله حتى يصل لهذا، فأملي أن أعيش حتى أجد من يستطيع أن يكمل مسيرة جمال الغيطاني في ذلك، ويجد لنا شكلا عربيا للقصة مستمدا من تراثنا.  

ـ ماهي الموضوعات التي تهتم بها في رواياتك ؟

لي صديق- كاتب من الإسكندرية - يسألني دائما من أين آتي  بالمعلومات – خاصة التي أذكرها في مقالاتي،  أهتم أكثر بثلاث موضوعات: التاريخ الحديث خاصة في بلادي مصر، وتاريخ السينما والموسيقى والغناء، ، كما أهتم بالخيال الشعبي وأوظفه في رواياتي، وأنسجه مع أحداث الرواية.  

وتجد هذا واضحا أيضا في رواياتي، فمثلا استفدت من قراءاتي في التاريخ الحديث، وقدمت شخصية حسن نشأت السياسي الخطير ودوره في مصر، وهو الذي أنشأ مصنع الورق الذي عملت به،    وفي الرواية تحدثت عن تصوير فيلم "ارحم دموعي" الذي صوروه في المصنع، وفي قصر الباشا حسن نشأت - صاحب المصنع.

كما تناولت في إحدى رواياتي مأساة الشاعر فخري أبو السعود الذي أطلق الرصاص على نفسه وقت الحرب العالمية الثانية بعد موت ابنه غرقا في سفينة ضربتها القوات الألمانية، وهو حادث مهم أثر في الحركة الأدبية في الإسكندرية حينئذ.

ـ مثالية الأديب التي يطرحها في أعماله هل هي حقيقة أم وهم ؟

هناك مقولة غير حقيقية تقول إن الكاتب الجيد يجب أن يكون مستقيما وصاحب رسالة وأمانة، للأسف كثير من كبار الكتاب لم يكونوا كذلك. هناك شعراء وكتاب موهوبين وأفعالهم غاية في الخسة.

لكن المشكلة إن هؤلاء رغم جودة أعمالهم على المستوى الفني لا يمكن أن يقدموا فنا انسانيا. الكاتب الإنساني يعيش في وجداننا مدى الحياة ويفرض نفسه على كل العصور، أمثال ليو تولستوي عالميا، ويحيي حقي مصريا.