القاهرة : أكف .
روى الكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري قصة 22 يوما قضاها في السجن بسبب تغريدة كتبها على مواقع التواصل الإجتماعي طالب فيها بالإفراج عن أستاذه وصديقه عبدالله حبيب .
العمري الأديب والروائي والناشط الاجتماعي ـ الذي أفرج عنه الخميس الماضي ـ وثق تجربته الأولى مع السجن، وكتب على صفحته في "فيسبوك" ماحدث معه بأمانة ، ودون انتقام ، فكان ما كتبه فصلا من فصول السجن والحزن والاغتراب وحب الوطن.
كتب المعمري قصته بلغة أدبية موحية تكشف عن حكمة الأديب، ووجعه، وروحه المرحة التي تتغلب على أصعب الظروف، كتب عن الزنزانة، وعدد البلاطات بها ، وزملائه المساجين الذين لم يرهم أبدا، ولكنه تعرف عليهم من صوت السيفون وخرير ماء المغسلة.
كتب الروائي السجين عن أبوعبدالله السجان اللطيف الذي كانت العلاقة معه في البداية صادمة، ولكنه كان سببا في تخفيف تجربة المؤلمة أكثر من مرة، .. ورغم "التعامل الحسن" الذي لقيه المعمري في كافة المراحل .. من التحقيقات إلى السجن ، ومرورا بيوميات الحبس الصعبة ، إلا أن الألم كان ظاهرا في كلماته ، ليثبت في النهاية أنك عندما تسجن الكاتب فأنت تسجن وطن بأكمله.
المعمري يعمل رئيساً لقسم البرامج الثقافية بالإذاعة العمانية، ويقدم برامج متخصصة أخرى في الأدب والثقافة وله برامج مخصصة للقراء تحظى بمتابعة المستمعين مثل برنامج "كتاب أعجبني"، ونسخة من نفس البرنامج للصغار وهو "برنامج القارئ الصغير".
فيما يلي ما كتبه المعمري :
(السلام عليكم
بحمد الله وتوفيقه أُفرج عني اليوم (الخميس 19 مايو 2016 ) من قِبَل جهاز الأمن الداخلي العُماني الذي كان يعتقلني منذ 28 أبريل الماضي.
كانت تجربة قاسية بالتأكيد، ولكنها لم تخلُ من عبر ودروس لعل أبرزها أن جميع ما قرأته في الكتب عن الحرية لا يضاهي ليلة بائسة واحدة في زنزانة انفرادية. لكن الله يُخرج الحي من الميّت، و"المنحة" من "المحنة"، إذا ما استعرنا لغة أصدقائنا مدربي التنمية البشرية. ولعل المنحة الكبرى التي اكتسبتُها من هذه التجربة هو ما لمسته في هذه الساعات القليلة بعد خروجي سواء من الاتصالات أو الرسائل أو ما حكاه لي أخي فيصل من محبة الناس وتضامنهم، ولا ثروة تعدل محبة الناس.
وعلى كلٍّ؛ ها قد رأيتُ الشمس مجددا، حملقتُ فيها اليوم مليّا كما لو أنني سأفقدها اثنين وعشرين يوما أخرى، نظرتُ للسماء التي لم أتفرس فيها بهذا العمق من قبل. كل ما كنتُ أمر به في سيارتي في الشارع السريع وأنا في طريقي إلى الردة، كان يستوقفني كطفل مندهش ببداية الحياة: الأشجار الشامخة، الجبال المنحنية، السيارات الهارعة إلى بيوتها، والسائقون وهم متجهون إلى بلدانهم مكللين بالشوق لأطفالهم. لقد كنتُ أكتشف العالم من جديد.
كان سبب اعتقالي كما يعرف كثير منكم هو نشري على صفحتي "نداء الحرية لعبدالله حبيب" ظهر يوم الجمعة 22 أبريل 2016 المطالب بالإفراج عن أستاذي وصديقي الكاتب العماني المعروف، وإن كان التحقيق معي شمل قضايا أخرى سأتطرق لها لاحقاً في هذه الكتابة. تناوب على التحقيق معي ثلاثة محققين كان القاسم المشترك بينهم المهنية في العمل، والإنسانية في التعامل. صحيح أنهم كانوا في الأيام الأولى لاعتقالي مستفزين، ووصل الأمر بيننا إلى رفع الصوت عاليا، إلا أن ذلك لم يخرج قط عن نطاق التهذيب والاحترام المتبادل، فلم يُسِئْ لي أي منهم بكلمة، ومن باب أولى أنه لا مجال هنا للحديث عن أي إيذاء بدني.
كان الأشد قسوة معي في تلك الأيام الأولى، والأكثر استفزازاً وإغاظة لي محقق كفؤ اسمه أبو عبدالله، ولكني مع توالي أيام الاعتقال سميته بيني وبين نفسي "جالب الفرح"؛ فقد كان سببا لمعظم الأفراح الصغيرة التي زارتْني خلال مدة سجني. فهو الذي أوصلني بأمي في المرات الثلاث التي كلمتها فيها هاتفيا (الأولى كانت عصر اليوم الرابع لاعتقالي، والثانية ظهر اليوم الحادي عشر، والثالثة صباح اليوم الحادي والعشرين، وفي المرة الأولى من هذه المرات الثلاث أوصتني أمي : "لا تعصاهم" ) ، وهو – أي أبو عبدالله – الذي بشرني بفوز ضحم على الخابورة في نهائي الكأس الذي أقيم مساء اليوم الثالث لاعتقالي، في وقت كنتُ فيه منهمكا بعدّ بلاطات أرضية زنزانتي. وهو الذي أفرحني – في ظهر اليوم الحادي عشر – بنبأ الإفراج عن عبدالله حبيب، بل وأراني أول منشور له على الفيس بوك بعد الإفراج، والذي توقع فيه عبدالله أن يعاملني سجانِيَّ "بنفس درجة الانسانية، والمهنية، والشمائل العُمانية الأصيلة، والأخلاق، والموضوعية" التي عاملوه بها . بلى يا عبدالله حبيب، لقد عاملوني بالضبط كما تقول.
ولقد كان هؤلاء السجانون من ألطف من قابلتُ معشراً، وأفضلهم تعاملاً، وأحسنهم أخلاقا. وقد شربتُ في صباحاتهم شاي كرك بالزنجبيل أعده من ألذ ما رشفت من شايات في حياتي، أنا "المفعم بالشاي" – حسب تعبير أوكاكورا كاكوزو صاحب كتاب الشاي - الخبير بمذاقاته وطعومه المختلفة، بل إنني لم أكن أتورع أحيانا عن طلب كوب إضافي زيادة على حصتي المقررة، وهو ما كانوا يستجيبون له بمحبة. كانت زنزانتي الأولى على يدك اليسار وأنت داخل مما أسميه "حوش الزنازن" الذي لا يفتح بابه أو يغلق إلا من الخارج، تليها ثلاث زنازن أخريات في الصف نفسه.
يبلغ طول الزنزانة الواحدة تسع بلاطات وعرضها ثمان بلاطات (هذا المقياس يخصني وحدي لأني لا أفهم في أعمال مقاولي البناء)، تتسع لشخصين تقريبا، وربما ثلاثة، وبها سرير أرضي (دوشق)، ومخدة، وملاءة، وسجادة صلاة، ومصحف بتكييف مركزي معتدل البرودة ( ويمكن أن تطلب إغلاق التكييف إذا ما شعرتَ بالبرد). وفي النص العلوي من بابها الأزرق الذي لا يفتح أو يغلق إلا من الخارج، عين سحرية. وبجانب الباب جرس أضغط عليه كلما احتجت الخروج للحمام أو المسبح أو المغسلة المشتركة مع الزنازن الأخرى.
كانت إضاءة الغرفة عادية، وليست قوية أو كاشفة كما سمعت من أصدقاء سبق لهم خوض تجربة الاعتقال، كما لم تكن ثمة أغانٍ صاخبة بقصد التعذيب كما سبق أن سمعتُ أيضا. بشكل عام لم يكن خلال الإثنين وعشرين يوما التي قضيتها في المعتقل أي نوع من أنواع التعذيب، باستثناء العذاب النفسي الذي يكابده نزيل زنزانة انفرادية بلا كتاب يقرأه أو "لاب توب" ينقره، أو "واتسب" يحملق فيه. (للأمانة، وبعد مطالبة مني، قدم لي أحد المحققين في الليلة العشرين لاعتقالي كتابا أقرأه ( "من سيبكي حين تموت" لروبن شارما ) ونسخة من صحيفة الوطن، وأمر السجانين أن يسمحوا لي بإدخالهما الزنزانة. لذا فقد كانت الليلة العشرون ليلة استثنائية بكل المقاييس، قضيتها مع "الراهب الذي باع سيارته الفيراري"، أنا السجين الذي لم يبع سيارته المازدا ) .
كنت في الحبس مع ثلاثة آخرين نتشارك في المأكل والمشرب والملبس وربما الأحلام والتطلعات. أقول "ربما" لأنني لم أرَ أياً منهم قط، فقد كان سجانونا بارعين في عملية إخفائنا عن بعضنا البعض، بحيث لا يخرج أي منّا من زنزانته لدورة المياه أو الاستحمام أو الوضوء إلا بعد أن تكون الزنازن الثلاث الأخرى قد أُغلِقت على نزلائها. كنا نتعرف على حياة بعضنا البعض من هدير السيفون أو رشرشة "الدوش" أو خرير ماء المغسلة.
وعندما كنت أخرج من زنزانتي كنت أتفقد أحوالهم من خلال أحذية الحمامات المخلوعة أمام باب زنزانة كل منهم. يصبح الحذاء هنا علامة حياة، ودليل وجود. ذات صباح اختفى الحذاء البنفسجي فعرفتُ أنه ذاهب للتحقيق. وعندما افتقدتُ الحذاء الأزرق لثلاثة أيام متتالية حدستُ أنه أُفرِجَ عنه ومضى في طريقه الذي يتحدد بمقدار ما يمشيه من خطوات. كانت المغسلة التي نغسل فيها أوجهنا بلا مرآة، ربما لكي لا يقع الغريب على نفسه.
وعموما، شخصيا لا أرى أن نزيل زنزانة انفرادية لأيام وليال طويلة سيكون بحاجة إلى مرآة لكي يرى وجهه. "وما الوجه إلا واحدٌ، غير أنه / إذا أنت عددتَ المرايا تَعَدَّدا" كما يقول عمي المرحوم ابن عربي. وعلى رف المغسلة كان يقبع معجون "كولجيت" تعلمتُ منه الدرس البليغ التالي: ليس الصديق الحقيقي هو الذي يصحبك يومياً لسنوات طويلة في أوقات الرخاء (كما كان "كلوز أب" يفعل معي ) ، بل ذلك الذي يهُبُّ لمساعدتك في وقت الشدة بلا طلب منك أو انتظار أو توقع، آخذاً على عاتقه أن يحرس ابتسامتك ويحميها من الترهل، تماماً كما فعل "كولجيت".
في الحقيقة لا أستطيع أن أزعم أن جميع الجلسات الثلاث عشرة في الإثنين وعشرين يوما الماضية كانت كلها جلسات تحقيق، فبعضها كان جلسات دردشة عادية، وبعضها أقرب إلى حوار ثقافي مع كاتب عن رؤيته للمشهد الثقافي العُماني. لا أستطيع أن أتذكر الآن ما الذي لم يسألوني عنه. فقد سألوني عن كل شيء تقريبا، عني وعائلتي، وأصدقائي، وزملائي في العمل، وروايتي "الذي لا يحب جمال عبدالناصر"، وبرامجي الإذاعية لاسيما "القارئ الصغير"، والنادي الثقافي، وجمعية الكتّاب، وجمعية الصحفيين ( أي والله يا عوض باقوير حتى جمعية الصحفيين!). كما سألوني عن الشأن الوطني العام. واختلفنا من منّا يحب الوطن أكثر. واتفقنا – كما محمد عبده – أنهم أكثر، وأنا أكثر.
وإذا كان نجيب محفوظ رأى أن "آفة حارتنا النسيان"، فقد اتفقنا؛ المحققون وأنا، أن "آفة بلادنا التنميط"، أي قولبة بعضنا بعضاً في صور نمطية جاهزة تخص المقولِب (بكسر اللام) أكثر مما تخص المقولَب ( بفتح اللام). لذا وُجِد بيننا من ينظر للمثقفين على أنهم كائنات بوهيمية تعيش في أبراجها العاجية وأحلامها المثالية غير القابلة للتطبيق على أرض الواقع، متعالية على المجتمع، ومكتفية بكأسها وسيجارتها وغيرها من المُلهيات. ووُجِد بيننا – في المقابل – من ينظر لأي مسؤول حكومي ذي منصب على أنه كائن مرتشٍ وفاسد ولا حظَّ له من حب الوطن أو التفاني في خدمته.
وكلا النظرتين متطرفتان للأسف في وقت نحن فيه بأمسّ الحاجة إلى النظر لبعضنا البعض بأعين نظيفة. أظن الكتاب الذي أهدانيه المحقق في الليلة العشرين يقول شيئا كهذا. إذ يروي روبن شارما حكاية عن الروائي الانجليزي ألدوس هكسلي أنه عندما حضرته الوفاة تأمل ما تعلمه في حياته ولخصه في سبع كلمات : "دعنا نكن أكثر لطفاً تجاه بعضنا البعض".
بقي أن أقول إنني بخير، وأن روحي قوية ولم تنكسر، بل أحسها غزالة تعدو في البرية تواقة للشمس والماء والحياة. وعاجز عن شكر كل من تضامن معي قولاً، أو كتابةً، أو زيارةً لأهلي، أو اتصالاً بإخوتي، أو بياناً، أو دعاءً بظهر الغيب. ولا أراكم الله أي مكروه.
ولا ضير أن أختم هذه الكتابة بعبارة قلتُها لأحد المحققين مستشهداً فيها بمقولة لغسان كنفاني : "أتدرين ما الوطن يا صفية؟، الوطن ألا يحدث كل هذا".
سليمان المعمري
الردة.. مساء 19 مايو 2016)