الأمير كمال فرج.
"واحد من العمال" .. هذا هو التعريف الذي فضّله جلال الجرباني لنفسه، وتصدّر مدونته العمالية "يلّا نحبّ KZ" التي كانت إعلان حب نادر لمدينته وشركته المحبوبة الكبرى، هذه المدونة التي ظلت لسنوات نموذجًا فريدًا للصحافة العمالية، فخطَّ لنفسه بذلك موعدا مع القدر.. موعدًا مع التميز والتأثير .. موعدًا مع التاريخ.
كان جلال كمال الجرباني (1964 : 2023) ابن مدينة كفرالزيات في دلتا مصر كاتبًا وصحفيًا وناشطًا عماليًا، وصانع محتوى صاحب رؤية لبلده وأمته، ولكنه اكتفى بهذا التعريف المتواضع الذي يختزن الكثير من الجلال والثقة والكبرياء، وكأنّه يريد أن يصحح المعادلة المختلة، ويؤكد أن "القوى العاملة" أهم من "القوى النووية"، إذا وُظفت التوظيف الصحيح.
آمن "جلال" إيمانًا كاملًا بقيمة العمل، وأن النهضة الحقيقية تبدأ من العامل على ماكينات الإنتاج، ورأى أن ذلك يجب أن يكون مثار فخر واعتزاز، وأن العمل أهم من التنظير، والثقافة أهم من الشهادات، .. من هذا المنطلق البسيط العبقري تكونت رؤيته. قال ألبرت أينشتاين "كل ما هو عظيم وملهم صنعه إنسان عَمِلَ بحرية".
ولعل هذا السبب الذي دفعه إلى دخول المدرسة الثانوية الصناعية في كفرالزيات بفرح، غير آسف على عدم دخول الجامعة، وسعيه للعمل في أكبر مصانع أقدم المدن الصناعية في مصر.
كان "الجرباني" يملك ثقافة شخصية منذ صباه، وكان أول من أدخل الكتاب إلى بيتنا الكائن في 1 شارع أحمد عبدة خلف مسجد الست زكية في كفرالزيات، وصنع مكتبة خشبية مطلية باللون الأخضر وضع فيها كتبه التي فتحت عينيّ على عالم الثقافة المدهش.
عمل جلال الجرباني في إحدى الشركات الكبرى في كفرالزيات، ووفّر له ذلك فرصة لمعايشة عالم العمال الكبير، وتطبيق رؤيته العمالية. كان يحب شركته ويعتبرها ـ كما يقول ـ "مصر الصغيّرة".
كان الجرباني شديد الانتماء لقرية أبيه "كفور بلشاي" التي خرج منها عظماء مثل محمد عبيد بطل الثورة العرابية، وكان شديد الانتماء لقبيلة "الجرابنة" التي أصرّ على التمسك بلقبها دون أفراد العائلة، كان يجد ذاته دائمًا بين القرويين البسطاء وقلوبهم البيضاء التي لم يلوثها غبار المدن.
كان "جلال" نصيرًا للعمال، نذرَ حياته لقضيتهم، وكثف جهده ليوعيهم بحقوقهم، وواجباتهم، ويحثّهم على العمل والإنتاج، وقاد في المصنع الذي يعمل به العديد من المبادرات التي تستهدف التخفيف عن العمال ودعمهم، مثل رحلات الحج والعمرة، والرحلات الترفيهية، والبطولات الرياضية، وتكريم المتفوقين.
أصدر جلال الجرباني مدونته المهمة "يلّا نحب KZ" ـ اختصار كفرالزيات ـ على الإنترنت دون أن يعلن اسمه، وصدّرها بالتعريف التالي :"واحد من العمال .. "رئيس وردية قدّ الدنيا .. أحب شركتي وأعتبرها مصر الصغيّرة".
وبدأ الجرباني ينشر في مدونته موضوعات تثري الثقافة العمالية، وأفكاره لتطوير المصانع، ومضاعفة الإنتاج، وبسرعة كانت المدونة حديث الشركة التي يبلغ عدد العمال فيها 600 عامل.
وظلّ العامل الفصيح ينشر موضوعاته التي تناصر العمال، وتقلق المتكاسلين، ويقدم مقترحات لتطوير العمل في الشركة، ورفع معدلات التصدير، وثارت التكهنات عن هوية ناشر المدونة الغامض، وأخذ العمال يتساءلون بفضول عن روبن هود المصري الذي ينتصر لهم في السر.
كانت مدونة "يلّا نحبّ KZ" تحتوي على موضوعات عمالية، وترجمات عالمية، ورؤى ثقافية، وموسيقات رفيعة، ومقاطع ملهمة، وإبداعات عمالية. كانت في هذه الفترة النافذة الإعلامية العمالية الوحيدة على الإنترنت، والتي سدّت خانة مهمة بعد حقبة صحيفة "العمال" التي كان يصدرها الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، والتي كان يرأس القسم الثقافي فيها الشاعر الراحل فؤاد حجاج.
ومرّت السنوات والجرباني سعيد بعمله، يؤمن إيمانًا كاملًا بما يقوم به من خدمة العمال وتثقيفهم ودعمهم، وفي لحظة ما لا أعرف مبرراتها قرر أن يستريح، فطلب تسوية معاشه المبكر، وانتقل بذلك إلى مرحلة أخرى من رحلته في التثقيف والتنوير.
حوّل الجرباني اسم مدونته العمالية إلى "ضفاف كفرالزيات الثقافية" وكان تعريفها الذي كتبه بنفسه هو : "موقع ثقافي اجتماعى إخبارى يهتم بنشر إنتاج علماء ومثقفى ومبدعى ونجوم كفرالزيات فى جميع المجالات"، وبدأت المدونة في نشر إبداعات مدينته، وكما نجحت المدونة العمالية من قبل بسرعة، نجحت مدونته الثقافية "ضفاف كفرالزيات"، ونشرت لكل الأدباء والمبدعين في المدينة والقرى المجاورة، وتابعت مبدعي كفرالزيات خارج الحدود، واحتفت بهم بإيثار نادر، ليخطّ الجرباني لنفسه إنجازًا جديدًا في النشر الثقافي.
صفحة جلال الجرباني الشخصية على فيسبوك والتي صدّرها بتعريف "صانع محتوى كزداوي" حافلة بروابط مدونته الثقافية المميزة، وموضوعات قيّمة في الثقافة والعمل، وقصص الأمم التي نهضت بالإرادة والعمل، وآخر مشاركة ثقافية له كانت : "من الفقر إلى الثراء.. قصة نهضة بنغلاديش"، وآخر مشاركة عامة له كانت "تكبيرات العيد من الحرم المكي الشريف".
كان جلال يهوى الاستماع للأناشيد والابتهالات والتواشيح الصوفية التي تتغنى بالحب الإلهي، والتي أبدعها أمثال جلال الدين الرومي والحلّاج وتغنى بها السيد النقشبتدي وياسين التهامي، وغيرهم، ومن مدائحه المفضلة رائعة الحلاج : "وَاللَه ما طَلَعَت شَمسٌ وَلا غَرُبَت .. إِلّا وَحُبُّكَ مَقرونٌ بِأَنفاسي"، وهو ما يعطي لنا فكره عن ثقافته الشخصية ورؤيته للحياة.
وبعد حياة حافلة بالثقافة والكتب وحب الوطن والمجتمع العمالي، وعمر من نشر الوعي والتنوير وخدمة الناس، ترجّل الفارس، وتوفى في يوم التروية، ودُفن في يوم عرفهْ والحجاج يلهجون بالدعاء على جبل الرحمة، ليشيعه المئات من المشيعين والمحبين.
رحل جلال الجرباني أخي ووالدي وصديقي ومعلمي ورفيق العمر، جوّادا كغيمة، محبوبًا كباقة أقحوان، نقيًا كوجوه الطيبين، وترك في نفسي جرحا غائرًا، ووجعًا لا ينتهي، رحل بسرعة قبل أن أقبّل رأسه، وأقول له : شكرا على كل شيء، رحل البار بأمه، المحب لأخوته، المنحاز للفقراء والبسطاء، الحالم بمستقبل أفضل لبلده وأمته.
ولكن عزائي وفاتُه في يوم من أعظم أيام المسلمين، وهدير الدعاء الذي حظى به في تشييع جنازته، من العمال الذين أحبّوه وساهم بآرائه في تغيير حياتهم، والأدباء الذين احتوى أعمالهم ونشرها واحتفى بهم، والبسطاء الذين وجدوا فيه نموذج الأب والأخ والمصلح والملهم.
سيظل جلال الجرباني حيًا بأفكاره في وجدان الناس، آملًا أن أوفق في توثيق قصته على مدى أربعين عاما، بإصدار كتاب عنه، وتحويل مدونته الثقافية "يلّا نحب KZ "(ضفاف كفرالزيات الثقافية) إلى موقع إلكتروني، لمواصلة مسيرته في الصحافة العمالية والثقافية، ونشر رؤيته البسيطة العبقرية في العمل والإنتاج وإعمار الأرض.