الأمير كمال فرج.
الكتابة حرفة ورسالة وشغف، والقراءة درجة من أعلى درجات العشق، إذا تملكت الإنسان إرتقى إلى عالم من الوجد والوله، حالة وجدانية تشبه الجذب في الصوفية، فيها يذوب العاشق القاريء في محبوبه، فيصبح هو والمحب سواء.
هذه بالفعل حالة المترجم التونسي علاء الدين السّعيدي، الذي يعيد مفهوم "المثقف" إلى حالته الأولية الأصلية وهى "القاريء"، حيث القراءة وقود التَجَلِّى، ومحفز الكتابة، عملية إبداعية لا تقل أهمية عن الإبداع.
يقول أبو الطيب المتنبي:
"أَعَزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ
وَخَيرُ جَليسٍ في الزَمانِ كِتابُ"
كثيرٌ من الأدباء والفلاسفة تحدثوا عن القراءة، وعدّدوا منافعها، ولكن "السّعيدي" اتّحد معها حتى أصبح الإبداع والقراءة عنده صنوين، أو مترادفين، أو وجهين لعملة واحدة، كالتورية لفظ واحد يحتمل معنيين.
علاء الدين السّعيدي ينطبق عليه التعبير الشعبي "دودة الكتب"، أو The bookworm ، وهو مصطلح إنجليزي يرمز إلى محب القراءة، وهى حالة تسمى بالإنجليزية Bibliophilia، وهو شخص لديه ولع بالكتب والمكتبات، يقضي جلّ وقته في قراءة الكتب.
السّعيدي ابن مدينة سيدي بوزيد التونسية يشبه "الوَّراق" الذي يحترف الوراقة، وهي مهنة كانت شائعة في البلاد الإسلامية في العصور الماضية، وكانت تقوم آنذاك مقام مهنة الطباعة والنشر، لكن الورّاق التونسي أضاف مهمة عظيمة وجليلة لها وهىَ الترجمة.
تعرفت على السّعيدي عندما قررت أن أشدّ الرحال إلى باريس عاصمة الثقافة العالمية، وكنت أتابع من قبل منشوراته الكثيرة حول الكتب، في مواقع التواصل، والتي تمزج بين النقد الواعي والعرض الصحفي الأمين.
وإذا كان التعبير الشعبي يقول "معرفة الناس كنوز" فإن معرفتي بالسعيدي كانت بالفعل كنوزًا من الذهب والفضة والياقوت والمرجان، وهذا التعبير يرجع إلى حكمة تونسية جميلة، تقول (معرفتك في الرجال كنوز، ومشيانك في البرور رياسهْ، ومعرفتك ف المرا العزوز، إيّاك لا تقرب النجاسهْ).
وأنا في الأساس أحبُّ التونسيين، فبينهم وبين المصريين قواسم كثيرة متشابهة، أحد الأدلة على ذلك، عندما أطلق التونسيون "ثورة الياسمين" ديسمبر 2010 التي وضعت الشعب على طريق الحرية، اقتفى المصريون خطاهم، وبعد شهر واحد كانت ثورة يناير 2011 .
في باريس، تعرفت على علاء الدين عن قرب ولمست سجاياه العظيمة، وأول ما لفت انتباهي فيه هو حبه للقراءة، كان للكتاب مكانة كبيرة لديه، حتى أنه عندما علم بقدومي من القاهرة كان طلبه الوحيد أن أحضر له كتاب الورّاق "أمالي العلاء" - ليوسف زيدان، وعندما قابلته وقدمت له نسخة من الكتاب، استقبلها بفرحة تشبه فرحة الطفل بقطعة الحلوى.
القراءة مصباح علاءالدين السّعيدي، لذلك يقتفي أثرَ الكتب، يبحث عنها في كل مكان، ويطلبها حتى ولو في الصين، وكثيرًا ما توقف عند "صناديق القراءة" المنتشرة في العاصمة الفرنسية، ليلتقط منها ـ بشغف ـ كتابًا أو رواية، وكانت جلسته الأثيرة في المقهى الباريسي في حي Château de Vincennes التاريخي، يتناول فنجان القهوة، ويتصفح عددًا من الكتب، يتمشى بهيئته البسيطة وحقيبته الملأى بالكتب، كفيلسوف من عصر قديم.
من خلاله عرفت سرّ تونس الخضراء التي كانت دائمًا ولا تزال جسرًا بين مناطق وحضارات وثقافات متعددة. حتى أنها أعطت اسمها التّاريخي القديم "إفريقية" للقارة الإفريقية، وعرفت سرّ أبو القاسم الشابي الذي ألهم الأمم بأبياته التي تقول:
"إِذا الشَّعْبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يَسْتَجيبَ القدرْ
ولا بُدَّ للَّيْلِ أنْ ينجلي
ولا بُدَّ للقيدِ أن يَنْكَسِرْ"
القراءة سر الأسرار، أول أمر إلهي أنزله الله جلّت قدرته على رسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) عندما قال له سبحانه بصيغة الأمر "اقرأ". القراءة حيوَات أخرى، يقول الروائي الأمريكي جورج مارتن "الرجل الذي لا يقرأ يعيش حياة واحدة فقط، أما الرجل القارئ فيعيش ألف حياة قبل أن يموت".
والسّعيدي ترجمان الجاليات العربية في باريس، فقد ساعدته إجادة اللغة الفرنسية، ليس فقط في ترجمة الأعمال الأدبية العربية إلى الفرنسية، ولكن أيضًا في مساعدة المقيمين العرب الراغبين في ترجمة المراسلات التي تصلهم من الجهات الفرنسية، وهو دور يشبه دور قاريء الخطابات القديم في القرى المصرية.
كان علاء الدين السّعيدي مفتاحي الذهبي لدخول باريس، عاصمة النور، التي وصفها عميد الأدب العربي طه حسين بـ "مدينة الجنّ والملائكة"، فقد شجعني على الحضور، ومن اليوم الأول اصطحبني لزيارة أهم المعالم الثقافية في العاصمة الفرنسية، وكان بمثابة الأخ والصديق والمترجم والمرشد السياحي، وأضفت روحه الطيبة وشخصيته الأدبية الكثير على الرحلة، فكانت زيارتي لباريس هذه المرة استثنائية.
كان السّعيدي حريصًا على استمتاعي بالرحلة، وكانت نصيحته الأثيرة لي "استمتع"، وكلمة السر التي فتحت لي كل الأبواب "Je suis journaliste"، وعندما كان ينشغل بعمله، كان يقترح علىّ عن طريق الواتسآب الأماكن التي يجب أن أزورها، ويرسل لي خريطة الوصول لها عبر المترو، ويطمئن علىّ من حين لآخر، كان "علاء" الأخ الذي لم تلده أمّي، والصديق الذي أعرفه من ألف سنة.
ويكنّ علاء الدين السعيدي عشقًا خاصًا لمصر، يحدّثني عنها كالعاشق الذي يتحدث عن محبوبته، حتى أنِّي شعرت أنه يحبّها أكثر مني، روى لي كثيرًا صولاته في قاهرة المُعِزّ، وجولاته خارج القاهرة الكبرى، واستعرض لي العديد من الصور التي التقطها بحسّ فنان، وتكشف عن قدرته الفائقة على التقاط الزوايا واللحظات الفارقة، ورغم أنه يقيم حاليًا في باريس إحدى مدن العالم الأول، أكّد لي أكثر من مرة أنه يحلم بشراء بيت صغير في القاهرة يقيم فيه ليقرأ ويكتب.
زهرة لوتس مصرية لبلاد الياسمين، وابنها التونسي الجميل علاء الدين السعيدي عاشق الكتب الذي يخرج كل ليلة في حي Château de Vincennes بحقيبته الملأى بالكتب، ليضيء القناديل في الشوارع المظلمة.