الانتخابات المحلية على أشدها، والبلد كله متأثر بالجو الانتخابي، تقارير تلفزيونية تقدم أبرز المرشحين، ولقاءات مع المواطنين واستطلاعات للآراء، لفت نظري بها وجود اسم عربي هو محمد بسملتي، وهو مهاجر مغربي دنماركي مقيم بالدنمارك منذ سنوات بعيدة، يرشح نفسه في الانتخابات، ويحطى بتأييد الكثيرين من الجالية العربية، الناس في القطارات يتحدثون عن مزايا هذا، ومساوئ هذا، فتاة تناقشني بحدة، وتطالبني بالاقتناع بأن مرشحها هو الأفضل، وأن "يونيون" سيء، أمام حدتها ومطالبتها لي بالاقتناع بفكرتها قلت لها "نعم يونيون سيء"، وحتى الآن لا أعرف من هو يونيون Union هذا حزب أم اتحاد أم ماذا ...؟. ولكن من المظاهر الطريفة في الدنمارك المؤتمرات الانتخابية، حيث تأخذ هذه المؤتمرات الشكل الاحتفالي، فالمؤتمرات هنا ليست مجرد انتخابات، وخطب منبرية وحماسية، وخناقات، وبلطجية، وسنج كما يحدث في العالم العربي، ولكنها حفلات موسيقية صاخبة، مزج زكي بين الموسيقى والسياسة، بين الفن والانتخاب. مسرح كبير يشيد في أحد الميادين، وفرقة موسيقية صاخبة تعزف الجاز، والسياح والمواطنون يرقصون على إيقاع الموسيقى، ومن حين لآخر تتوقف الموسيقى، ويقف المرشح ليلقي بيانه الانتخابي الحماسي، وبعد أن ينتهي تعود الموسيقى من جديد .. ولا أدري سر استخدام الموسيقى في هذا الموضوع، وإن كنت لا أنكر أنه استخدام ذكي، لأن الموسيقى هنا عنصر هام للجذب، من أجلها تحتشد الجماهير، وتعطي لك أذنها وروحها، وفي هذه اللحظة يمكن أن تطرح عليها أفكارك، سوف تتلقاها بيسر، أيضاً ربما الشخص في حالة سماعه للموسيقى يكون في مستعدا لاستقبال أي شيء، بوابات عقله ووجدانه مفتوحة على مصراعيها، يمكن لأي شخص دخولها دون رقابة أو تصريح. أقترح على أحزابنا السياسية البدء من الآن في احتكار فرق الفنون الشعبية، وفرقة حسب الله الشهيرة لاستخدامها في الموسم الانتخابي المقبل، سوف تكون الصورة مدهشة، سياسة، أجدع سلام، ودقي يا مزيكا .. أعلى المسرح عبارة ببنط كبير هي KOBNHAVN STEMMER NEJ ، وأسفل المسرح عبارة NEJ TIL EURO STATEN ، على المسرح منصة صغيرة يلقي عليها المتحدث خطابه، مكتوب عليها FOLKE FEST MOD EEROEN KOBNHAVN STEMMER JEJ ، وفي جوانب الميدان يافطات جانبية تقول RAV Kvinder mod union ، وهذه اليافطة التي تقول Der Folger mere union med ، على جانبي الميدان طاولات عليها ملصقات Stop union انتخابية ومطبوعات متنوعة تشرف على توزيعها بالمجان سيدات مبتسمات، في وسط الميدان يقف شخص بملابس كرنفالية وقبعة طويلة يحمل في يده يافطة كبيرة صفراء مكتوب عليها JuniBevae gelse, Stem imod euro, 25% kursfald ويافطة وحيدة هناك عليها عبارة EUROFORIEN . وبين الزحام تتداخل الصور .. شاب يعلق في أذنيه السماعات، ويتحرك بسرعة وهو يدير أمامه اسطوانات الموسيقى، فيغير بأصابعه الموسيقى ببراعة، رجل متواضع الهندام بلحية كبيرة يرقص على إيقاع الموسيقى وفتاته متواضعة الهندام، مجموعة من الشباب يرقصون رقصات جماعية ومعهم طفل صغير، أحد هؤلاء الشبان يرتدي زي راهبة، ويحمل في يده صليباً خشبياً يحركه فوق رأس الطفل، ويحركه حسب حركة الطفل وكأنه محرك عرائس . الموسيقى الصاخبة تعلو والجميلة "ثن" ترقص، وتلوح بيديها من بعيد، اقتربت مني بفرح قائلة You Come back again أي "ها أنت تعود مرة ثانية"، صافحتها مرة أخرى مرحباً، فتاة في التاسعة عشر من العمر، كنت قد تعرفت عليها في صباح ذلك اليوم في هذا الجو الصاخب، ورحبت بي خاصةً عندما علمت بمهمتي الصحفية، تحدثت بفرحة غامرة عن مصر التي زارتها منذ سنوات، وركبت الجمل، سألتني بروحها الحلوة عن رأيي في الدنمارك، ونظراً لأن الموسيقى عالية كنت أقترب منها لأرد عليها، وعندما تتكلم كانت تقترب مني لكي أسمع، واستمر الحديث بيننا على هذه الصورة. الآن عطرها يتسلل إلى شراييني، وأنا أتمنى أن لا تنتهي الموسيقى أبداً. سألتها عن موعد انتهائها من عملها، فقالت: "بعد انتهاء الحفل"، سألتها أن تلبي دعوتي لتناول فنجان شاي في الكوفي شوب المجاور، ابتسمت وأعلنت موافقتها ، ولكن "بعد انتهاء الحفل"، أثناء حديثي معها فوجئت بأحد عازفي الفرقة الموسيقية واقفاً أمامي متجهما وهو يسأل عن الأمر، ارتبكنا معاً، فقامت بتقديمه لي وقالت: "البوي فريند الخاص بي"، وأخبرته بموضوع الحوار بيننا، بعد أن هدأ الأمر قليلاً غادر الشاب المتجهم. عندها تدخل صديقي محمد الذي كان يتابع الحوار من بعيد، ودعاني إلى الذهاب، أخبرته أنني قمت بدعوة هذه الجميلة على فنجان شاي، وأنها لبت الدعوة، فحذرني من ذلك، وقال لي بحزم: "إذا تعرفت على فتاه هنا ، واكتشفت أن معها البوي فريند الخاص بها يجب أن تتركها فوراً". رفضت هذا المنطق، وصممت على إتمام اللقاء، لحظات وفوجئت بالجميلة "ثن" آتية لتلبية الدعوة، فابتهجت، ولكن صديقي المتزمت تدخل مرة أخرى، وتوجه للفتاه مخاطباً: "من الأفضل تأجيل اللقاء إلى الغد"، مد يده لمصافحتها، فصافحته وهي مندهشة، وأخذني من ذراعي ودفعني للرحيل، مددت يدي وصافحتها لأخفي حرج الموقف، مشيت وأنا في قمة الغيظ، وأنا مصرّ على مقاطعة هذا الصديق نهائياً .. خفف الصديق من غضبي، وعلل ذلك بأنه من الممكن أن تحدث مشكلات، وأكد على نصيحته وهي "إذا قابلت فتاة في الدنمارك ووجدت معها البوي فريند الخاص بها اتركها فوراً" ..!، ثم أردف موضحاً "أنت بذلك كمن يعاكس سيدة وهي بصحبة زوجها ..!" ..! ................. مازالت المليحة الواقفة عند شاطيء البحر تمد يديها لي، تدعوني ، تغريني بالآس والعنبر، تعدني بصناديق من الذهب والفضة، تبشرني بالإمارة على الشمس، مملكة النور والنار ...، أرفع يدي المثقلة بالقيد المكسور، أتحسس جراحي وأحاول النهوض، ولكن هيهات، ففي صدري تنغرس الشظايا، وقلبي جريح كالعصفور الذي مزقته طلقة الصياد.