الرهاب خوف مفرط وغير عقلاني من أشياء أو مواقف معينة، وقد عرفنا أنواعا منه مثل رهاب المرتفعات ورهاب القطط والدم والحقن، وغيرها ،.. ولكن هناك نوع من الرهاب الاجتماعي بدأ يتوغل في حياتنا الاجتماعية مؤخرا وهو رهاب الكفاءة.
ورهاب الكفاءة نوع لم يصنف بعد، لذلك يمكن اعتباره استعارة لفظية تشير إلى الخوف الدائم من الكفء، أيا كان موقعه، في العمل أو المدرسة أو العمل العام.
ويمكن تعريف رهاب الكفاءة بأنه: "حالة من القلق الاجتماعي المرتبط بوجود نماذج تمتاز بالبراعة أو التفوق في المحيط القريب، ينتج عنها سلوكيات دفاعية تهدف إلى إقصاء هذه النماذج أو تحجيم أثرها".
وإلى الجانب الاجتماعي، من المؤكد أن لهذه الحالة جانب نفسي، حيث نشأ المجتمع على تهميش الكفاءة، واعتبار مقومات مختلفة مثل القرابة والمصلحة والمحسوبية والمجاملة والانحياز وغيرها من الاعتبارات التي تكبل المجتمع العربي.
الانسان العربي تتجاذبه مؤثرات كثيرة وخطيرة مثل المذهبية والمناطقية والعرقية والقبلية، وقد أخذت هذه المؤثرات أحيانا قوة القانون، وفي بعض الأحيان اغتصبت سلطة الدين ، وكانت النتيجة في بعض الأحيان كارثية.
وقد عبّر الحس الشعبي عن هذه الحالة بعدة صور، فقال مرة "زامر الحي لا يطرب" التي تعكس ظاهرة اجتماعية ونفسية عميقة الجذور؛ حيث يتم بخس قدر الكفاءة المحلية أو القريبة وتهميشها، لأن وجودها القريب يكسر هالة التفوق التي يفضل المجتمع منحها للغرباء، أو لأن نجاح ابن الحي يضع الآخرين أمام مرآة قصورهم، ومن المقولات الشبيهة "عقدة الأجنبي" التي تشير إلى رفع "الخارجي" للأعلى دون تمحيص، وهي ظاهرة اجتماعية ونفسية تكثر في المجتمعات التي عانت من الاستعمار أو التراجع الحضاري.
ومن المقولات التي تصب في هذا المعنى "لا كرامة لنبي في وطنه": وهو تعبير يشير إلى أن أصحاب الرؤى والكفاءات غالباً ما يواجهون بالرفض أو التشكيك من بيئتهم الأولى. وفي ذلك إشارة إلى النبي الذي يواجه في الغالب بالرفض عندما يبشرون بدين جديد.
وقد دلّل علم النفس الاجتماعي عن هذه الحالة بعقلية "سلطعون البحر Crab Mentality وهي ظاهرة طبيعية تحدث بالفعل، عندما يحاول سلطعون واحد الخروج من السلة، فتقوم البقية بسحبه للأسفل، في إشارة إلى سعي أفراد المجموعة إلى تخريب أو إحباط أي فرد يحاول التميز عن الآخرين، ومنعه من تحقيق النجاح بدافع الحسد أو الحقد أو التنافس.
وصوّر أبو العتاهية هذه الحالة الاجتماعية الشائعة، كاشفا التناقض النفسي الذي يعيشه بعض البشر، عندما يتخلى الإنسان عن القناعة بما يملكه، ويتطلع بحسد لما يملكه الآخرون، يقول:
"وزهدُ المرءِ فيما في يديهِ ...
ورغبتُهُ بما في كفِّ غيرِهِ
دليلٌ عن بَلاءٍ فيهِ عَميٍ ...
وعن نَقْصٍ بَدا في صِدْقِ خَيرِهِ"
ـ وقد عبّر طرفة بن العبد عن مشاعر الكفء الذي يعانى من تهميش قومه رغم كفاءته ، بقوله :
"وظلمُ ذوي القربى أشدُّ مضاضةً
على المرءِ من وقعِ الحسامِ المهنّدِ"
عقلية السلطعون تسيطر على المجتمعات العربية، تمكّن الضعيف، وتقهر الكُفء، وتخرّب العقول، وتمنع المجتمع من التقدم، والآثار جد خطيرة، لا تمس فقط الأفراد، ولكن تمس المجتمعات، ولعل هذا هو السبب الحقيقي في فشل كل المحاولات العربية للخروج من الدلو أقصد الخروج من دائرة التخلف، حيث يضر هذا السلوك في نهاية المطاف بالمجموعة كلها من خلال منع أي فرد من الخروج من "دلوه".
وإذا حاولنا البحث عن جذور هذه المشكلة، يمكن القول أن هذا السلوك ينبع من الحقد الشخصي، وانعدام الأمان، وعقلية الندرة، والظلم الاجتماعي، ولكن المشكلة الأساسية تكمن في الثقافة الاجتماعية المليئة بالأدران، هذه الثقافة التي بررت في بعض الأحيان الظلم والجور والمحاباة، وهي سلوكيات قنّنتها عادات وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان.
ولخص الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل الفرق في "بيئة النجاح" فقال "الغرب ليسوا أذكى منا، ولكنهم يقفون ويدعمون الفاشل حتى ينجح، أما نحن فنحارب الناجح حتى يفشل.
ومن الأقوال الساخرة التي تصب في نفس المعنى والمنسوبة للدكتور مصطفى محمود: "نحن نعيش في مجتمع إذا رسبت فيه تموت من التنمر، وإذا نجحت تموت من الحسد...!".
يحدث ذلك رغم أن الدين ينص على اختيار الكفء، ولخص القرآن الكريم معايير اختيار الكفاءة في آية جامعة في قصة موسى عليه السلام، حيث قال تعالى : ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ [القصص: 26.
وفي الحديث الشريف، اعتبر النبي ﷺ أن إسناد المهام لغير المؤهلين هو علامة من علامات الفساد العام، وقال: "إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظرِ الساعةَ" (رواه البخاري).
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئاً، فأمّر عليهم أحداً لمحاباة (أي لصداقة أو قرابة) فقد خان الله ورسوله." وهذا شاهد تاريخي وديني عظيم على أن دعم الكفاءة واجب شرعي، وأن محاربة الناجح أو تهميشه لصالح الأقل كفاءة هو خيانة للمجتمع.
وتوعد الإسلام الذين يحابون في الوظائف، يهملون الكُفء، ويمكنون الضعيف، قال النبي صلي الله عليه وسلم: "من ولّي أحداً أمراً وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة".
نحن بحاجة إلى ثورة اجتماعية وأخلاقية نعيد بموجبها الكفء إلى مكانة الصحيح، وفي سبيل ذلك يمكن إقرار العديد من القرارات، ولكن لن يفلح الأمر بدون تغيير الدم أقصد الثقافة الاجتماعية الفاسدة التي تخاف من الكفء وترى فيه تهديدا بدلا من النظر إليه كطوق نجاة.
يجب أن نستبدل "عقلية السلطعون" بـ "عقلية الدفع للأمام" وأن يتعلم الناس أن نجاحك يعني نجاحي، ونجاح الجميع.