طلب مني مرافقي أن أخفي هويتي الصحفية، لأننا سندخل الآن أخطر منطق في كوبنهاجن، عالم الظلام على حد وصفه، إنها CHRISTIANIA كرستيانيا ، معقل المخدرات، هنا لا بوليس ولا قواعد، سوق خاص جداً، والسلعة الرئيسية هي المخدرات.. ، مخدرات من جميع أنحاء العالم تباع علنا في أكشاك تشبه أكشاك معرض القاهرة الدولي للكتاب، الماريجوانا، والحشيش، والأفيون .. وأنواع أخرى عديدة من المخدرات، معلبة و"فرط" ، .. جملة وقطاعي، وأدوات التدخين الخشبية الغريبة، تبيعها وجوه متنوعة .. أفارقه وأوربيون ودنماركيون وغيرهم، والأسعار معلقة على كل صنف، تماماً كما يعلن العطار عن أسعار الشبّة والفسوخة والحبَّهان.
و"كرستيانيا" منطقة غير منعزلة تقع في قلب المناطق المعمورة، يدلفون إليها من خلال سور متهدم، والمنطقة عبارة عن مزارع كثيفة، أشجار ملتفة ومرتفعات ونهر يخترق الأرض، ويمضي لا أدري إلى أين، على شاطئه قارب مبلل بالمطر، والبنايات الخشبية تذكرك بأجواء الريف الأمريكي، حيث رعاة البقر، وطلقات المسدسات، والخيول الهاربة.
ولـ "كرستيانيا" عمدة أو زعيم بالطبع غير شرعي تماماً كالفتوة عندنا .. يدير شؤونها، وله الكلمة الآمرة الناهية بها، وفي "كرستيانيا" كل شيء .. كافيتريات، واستراحات، وجلسات في الهواء الطلق، ومحلات فول وطعمية ، ودورات مياه قذرة، ومراسم للفنانين، وطاولات بلياردو، وعزف ، وفتيات جميلات، ونساء يحترفن الدعارة، شباب وفتيات يأتون لتدخين الحشيش والماريجوانا، ويوجد أيضاً أشخاص محترمون – مثلي- يأتون للترفيه، وشرب المشروبات البريئة مثل المياه الغازية.
على جدار إحدى البنايات رسم كبير، على اليمين نباتات ترمز إلى المخدرات النباتية، وبجوارها على اليسار رسم لحقنة محطمة تحتها رسم ليد قوية، والمعنى المقصود واضح ، فهم يؤيدون المخدرات النباتية، ويحاربون المخدرات الكيماوية القاتلة.
تأملت المخدرات المعروضة جيداً ، فوجدت أن بعضها مغلف بورق السلوفان، وعليه ماركة معينة، مما يوضح أن هناك شركات تقوم بإنتاج هذه الأصناف وترويجها، تقف على بيعها وجوه قاسية لا تبتسم أبدا.
تقول الأنباء إن الولايات المتحدة الأميركية طاردت الحكم في طالبان، وضربت عليه الحار بدعوى أنهم يبيحون زراعة الأفيون، لدرجة أن أفغانستان تحت حكمهم أصبحت تنتج 3656 طناً من الأفيون أي 72% من الإنتاج العالمي.
أليس غريباً أن يحدث ذلك، وتتجاهل أمريكا هذه البؤر الموجودة في قلب أوروبا، والتي تبيع المخدرات وتسوقها وتحميها أيضاً ..؟، أليس غريباً أن تنصِّب أمريكا نفسها شرطيً في العالم، وتقتحم بنفسها دولة مثل بنما، وتقبض على رئيسها نوريجا، وتضعه في أحد سجونها بتهمة الاتجار في المخدرات والكوكايين، إضافة إلى تهم أخرى مثل بيعه معلومات أمريكية، وغسيل الأموال، والابتزاز، هذا الغزو الذي عارضه، وندد به عدد كبير من مؤسسات حقوق الإنسان، ومن ضمنها منظمات أمريكية مثل "منظمة دول أميركا الوسطى"، وها هي المخدرات تنتج وتباع علناً في أكشاك للمواطنين في دولة أوروبية صديقة، ومن لا يشتري .. يتفرج !.
أمسكت بيدي حفنة من نبات الماريجوانا، وتأملت غباء الإنسان عندما يضع نفسه في قمقم أسيراً لهذه الحفنة التي تشبه روث الماشية الجاف. التفت لصديقي قائلا: تصور هذه الحفنة من الماريجوانا في مصر كافية لإدخالك السجن "تأبيدة" ...، وإن كان المحامون الآن يستطيعون بطرقهم الحلزونية إخراج أعتى المجرمين كالشعرة من العجين، فيعودوا بعد أيام لممارسة تجارتهم الرائجة.
"محروس" صبي قروي يمارس عملاً غريباً ، وهو صيد السمك باليد ، يضرب "بلانص" في الماء، فيغيب، ويخرج من الماء، وعلى وجهه ملامح الانتصار، وفي يده سمكة تحاول الخلاص من يده، تذكرته وهو يحكي لنا بأسلوبه الريفي كيف كان يجمع أعواد الملوخية، ويقف بها على الجسر يبيعها للشباب المرفهين الذين يأتون من المدينة على أنها "بانجو"، سألناه "ألم يكتشف ذلك أحد"، فأشار بالنفي، وأوضح أنهم كانوا يعودون مرة أخرى للشراء.
ضحكنا طويلاً، خاصة عندما حكى لنا كيف ركض وراءه ذات مرة أحد المخبرين، وكيف هجم عليه، وتمكن من الإمساك به عندما تعثر في الطين، وضحكنا من القلب عندما وصف لنا كيف كان المخبر يضربه في مركز الشرطة على قفاه، وكيف انتهت الحكاية في القسم بالضحك، عندما اكتشف الضابط أن الممنوعات التي يبيعها ما هي إلا أعواد الملوخية.
تذكرت المطرب الشعبي وهو يغني : الواد "جرئ" والواد "لانجو" ضاعت حياتهم م البانجو في المستشفى خلاص تايهين وبيرقصوا بلدي وتانجو
يافطة (ممنوع التصوير) معلقة في كل مكان، والويل لمن يخالف ذلك.. حذرني مرافقي من التصوير ، وقال لي"هذه المنطقة أخطر مما تتصور" .. تذكرت الشقراء التي تعرفت عليها في "السنتر" ، لقد قالت لي "إذا أردت أن تدخل أوروبا .. احذر فمن الممكن بسهوله أن تقتل"، بدلاً من أن يخيفني ذلك، اشتعلت داخلي روح المغامرة، فأخبرت صديقي بإصراري على تصوير هذه المنطقة، فاستشاط غضباً، وحذرني من إظهار الكاميرا، وهددني بتركي بمفردي إذا قمت بذلك، هدأت من روعه وأظهرت امتثالي لأوامره.
إنهم يحاربون المخدرات السائلة والكيميائية القاتلة بإباحة المخدرات النباتية، والسبب – كما قيل لي – هو تجنيب الشعب خطر الموت الذي يسببه الهيروين وغيره من المخدرات الكيماوية، أخبرني صديق أنه من حين لآخر يبث التليفزيون صوراً لشباب مات بسبب المخدرات، والدولة كما يبدو تحاول الحد من هذه الكارثة بإباحة المخدرات النباتية التي يعتقدون أنها غير ضارة، أو قل أقل ضرراً من غيرها .. هذا هو شعارهم.
أمام إحدى الكافيتريات في كرستيانيا وقفت في طابور لأشتري ساندوتشات الطعمية يعدها ويبيعها شباب عرب، فرحت وشعرت بالفخر والتيه عندما وجدت هذا الإقبال على الطعمية المصرية الشهيرة، فقد وصلت الصناعة المصرية هنا، من قال إننا متخلفون عن الركب العالمي! وكانت ليلة مثيرة في عالم الظلام.