الجو شتائي رومانسي، والشوارع هادئة باردة كامرأة هجرها العشاق.. في الصباح تواعدنا أنا و"كاتارينا" وصديقة لها للغداء في "المطعم الإيطالي" الذي يقع في حي "فودوفغا"، في الموعد المحدد ارتديت أفضل ما عندي وانطلقت، الآن وصلت الجميلة الشقراء، أقبلت بابتسامتها العذبة وطلتها الملكية . نهضت لمصافحتها، فانحنت علي، وقامت بطبع قبلة خفيفة على خدي. أعترف أنني فوجئت، ولكني في الوقت نفسه بذلت كل الجهد حتى لا أظهر هذا الاستغراب، وحتى لا أبدو كفلاح يرى المدينة لأول مرة، فذلك من الأشياء العادية هنا.
القبلة على الخد كالمصافحة باليد، طريقة للتعبير عن التحية، ولكن ذلك بالطبع غير مقبول في الشرق، فلو تعرض أحد الصعايدة لهذا الموقف وعلم أهله بذلك سوف (يطخونه) بالنار حسب التجسيد المسرحي الطريف، وإن كانت هناك فئة من الفنانين المصريين والعرب تعتاد على التحية بتبادل القبلات بين الرجال والنساء، الرجل يكون واقفاً فاغراً فاه بابتسامة عريضة كالعبيط، بينما رجل آخر يقبل زوجته على خدها، منتهى التحضر ومنتهي التفسخ.
الموسيقى الهادئة تتهادى لتعطي الجو بعداً رومانتيكياً جميلاً، المكان مزدحم بالزبائن، على الحوائط لوحات تشكيلية رقيقة، على كل مائدة شمعدان عليه بعض الشموع المضيئة التي تضفي على الجو رومانسية الستينيات، ينعكس ضوؤها على الوجوه فيعطي لمسة من الشاعرية فريدة.
جلسنا نتجاذب أطراف الحديث .. في الغرب عندما يجتمع ثلاثة أصدقاء فإن كلا منهم يطلب طلباً منفرداً، ويقوم بدفع حسابه، لا توجد ظاهرة الدفع الجماعي المنتشرة لدينا في مصر، وهي أن يتطوع أحدهم بدفع قيمة المشروبات أو المأكولات للآخرين .. "نظام إنجليزي" كما يطلقون عليه.
اقتربت من كاتارينا وهمست Your eyes are wonderfull أي عيناك رائعتان، فابتسمت، وتشرب خداها بحمرة الشفق، إذا قابلت فتاة لابد من الغزل، لأن المرأة تفرح وتسعد بعبارات الإطراء والمعاكسة الخفيفة، هذه هي الروشتة السرية للإيقاع بالمرأة، ورغم القاعدة التي تقول (الشقراوات يكذبن كثيراً) تحدثت الجميلة الشقراء، تحدثت كثيراً ، ولمحت في عينيها الصدق، بعد لحظات أصبحت حياتها كتاباً مفتوحاً أقرأ صفحاته كما أشاء.
أقنعتني كاتارينا أن المرأة تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن جنسية إلى جنسية، ومن عمر إلى عمر، فملامحها الشكلية مختلفة، وطموحاتها وأفكارها وثقافتها أيضاً، المرأة كبصمة اليد لا يمكن أن تتشابه مع غيرها، لذلك السبب تزوغ أعين الرجال، ويردد الرجال البصاصون مثلي " امرأة واحدة لا تكفي"، رغم أن الدكتور مصطفى محمود يقول : "كلهن سواء، حاملات الدكتوراه وحاملات الطشوط"..
عندما اقترب الرحيل وحان موعد دفع الحساب، وقعت في حيرة ، فالتقاليد التي تربيت عليها تحتم أن أدفع للصديقتين، ولكن الأمر كما فهمت هنا يختلف، فكل شخص يدفع لنفسه، وحتى أتفادى الحرج الناجم عن ذلك، أبديت رغبتي في دفع الحساب كاملاً، ولكن الفتاتين اعترضا بلطف.
في المنزل قضيت طيلة الليل أؤنب ضميري، وأشعر بالعار لأنني لم أصر على دفع الحساب كاملاً، وتحطيم هذا النظام الإنجليزي البارد.
خبر حزين.. كاتارينا حصلت على عقد في أمريكا الجنوبية، ويجب أن تسافر خلال أسبوع، هذا أسوأ خبر سمعته، مددت يدي المرتعشة أتحسس وجهها البريء الذي فضل البين، وترك في قلبي جرحاً لن يندمل، قلت في نفسي هي أصلاً بعيدة، لقد بالغت في البعد، أتحسس خدي .. أتلمس قبلتها الباقية على وجهي كسوسنة، عطرها الباقي، تلمع في عيني دمعة مقبلة.