هل تعرفون معنى "الاستحمار"، ربما لا يعرف الكثيرون هذه الكلمة، ولكنها تتردد كثيرا عند العامة، وهي تختلف عن "الاستعباط" ، أو الاستهبال"، وإن كانت على نفس الوزن "استفعال"، والاستحمار معناه معاملة الإنسان الراشد العاقل كأنه حمار، يقول العامي "أنت بتستحمرني" أي تعتبرني حمارا، وهو أسلوب احتجاجي ظريف يرفض قائله أن يخدعه الآخرون، معتقدين أنه لا يفهم ، ـ أعزك الله ـ كالحمار.
ورغم اعتراضي على إقحام الحمار هنا، لأنه برأيي حيوان لطيف ومطيع شديد التحمل، يخدم صاحبه، وهناك حمير أفضل 100 مرة من كسول مسلوب الإرادة يجلس على المقهي من الصباح حتى المساء، بلا شغل أو مشغلة، وأتذكر هنا "حمار الحكيم" وإعجاب العم توفيق رحمه الله بالحمير، كما أتذكر "جمعية الحمير" التي أسسها بعض الرجال في مصر في السبعينيات، وحزب "الحمير" الذي أنشأه البعض في كردستان العراق.
ونظرا لعدم وجود مرادف فصيح لكلمة "استحمار"، فإن هذه الكلمة تتخذ أهمية خاصة، لكونها تعبيراً عن حالة تحدث كثيرا في المجتمع، عندما يعتقد البعض أن الآخرين حمير، فيأتون بأفعال ساذجة لخداعهم وتضليلهم، والاستيلاء على حقوقهم. أيا كانت هذه الحقوق اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية. والمفارقة هنا تكون ليس فقط في الخداع، ولكن في سذاجة هذا الخداع، من هنا جاء تعبير "استحمار".
في الحياة الاجتماعية تستحمر بعض الحكومات المواطن عندما تقر له بشق الأنفس علاوة ضئيلة، ولا تترك له حتى مهلة للفرح بها، فترفع الأسعار، فيصبح المواطن "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، ويأخذ العلاوة الغراب ويطير.
وفي عالم السياسة تستحمر بعض الحكومات مواطنيها عندما تتشدق بالديموقراطية، وتعلن عن تنظيم انتخابات رئاسية أو تشريعية ، وتؤكد على النزاهة والشفافية، ثم يتم تزوير الانتخابات تحت الطاولة، لتفوز القائمة المعدة سلفا، وتستحمر بعض الأنظمة شعوبها عندما تنظم انتخابات متعددة بين أكثر من مرشح، وخاضعة لرقابة عدد من الشخصيات العالمية، ثم يتم في الخفاء تفويز ـ إن صح التعبير ـ المتفق عليه بنسبة 99%.
وفي عالم التوظيف تستحمر شركات ومؤسسات الشباب الباحثين عن وظيفة، عندما تعلن ـ وفقا للقانون ـ عن وجود وظائف شاغرة، فيتقدم الآلاف، فيرفض الآلاف، ويتم في النهاية تعيين ابن خالة فلان، وابن عمة علان.
وفي السياسة الدولية تستحمر إسرائيل العرب عندما تتشدق بشعارات السلام، وتتحمس لاجتماعات إضاعة الوقت مع الفلسطينيين وغيرهم، ويبتسم قادتها أمام فلاشات كاميرات التصوير، ولكنها في الوقت نفسه تسرق الأرض الفلسطينية ـ كالثعلب ـ قطعة قطعة، وتستحمر قطر العرب عندما تمول الإرهاب بيد، وتحاربه باليد الأخرى. .
يستحمر المجتمع الدولي الشعوب، عندما يطالب "إسرائيل" بتكوين لجنة تحقيق في الهجوم "الإسرائيلي" على أسطول الحرية الذي كان يعتزم فك الحصار عن غزة، والذي أسفر عن قتل 20 شهيدا ، دون أن يعلم هذا المجتمع أن "الجاني ابن أخت القاضي" كما تقول الأغنية، ويتجلى الاستحمار الإسرائيلي عندما تدعي إسرائيل العدالة وتنظم لجنة للتحقيق في اعتداءها ـ هي ـ على غزة.
وفي عالم الصحافة تتجلى عملية الاستحمار عندما يلجأ بعض الفنانين إلى افتعال أخبار كاذبة عنهم، ودسها للصحافة ووسائل الإعلام، فتنشر الوسائل الإعلامية الخبر بعبط، ليتحقق للمطرب الجهنمي غرضه الخبيث في الشهرة بأرخص الأسعار.
ظاهرة الاستحمار آخذة في الانتشار، ولا أدري دوافع ذلك، هل المشكلة في الإنسان نفسه الذي أصبح أكثر انقيادا للآخرين، خاصة في عصر المعلومات التي تأتي من كل صوب، هل فقد الإنسان إرادته الخاصة في المعرفة، فأصبح ينقاد بسهولة إلى أي رأي أو أي خبر. دون أن يعرف هل هذا الخبر صحيح أم مزيف؟.
أم ترى أن السبب هو حجب المعلومات؟، فعندما تمنع المعلومة الحقيقية، ويفتقد المجتمع للشفافية، تنمو في المقابل سرطانات التلفيق والفبركة، وتتفشى المعلومات الكاذبة؟. أم أن المشكلة تكمن في حالة الاستلاب التي يعاني منها الناس في ظل ضياع الحقوق الأساسية، وضياع الهوية، فشكل لنا ذلك جيلا من السهل استحماره.
الاستحمار ظاهرة قبيحة تستلزم الكثير من التوعية، لأن الإنسان الذي يسهل استحماره ، يسهل اقتياده، فيخسر بذلك حاضره ومستقبله.