يقول وزير التخطيط والمتابعة أن 6.5 مليون موظف في الدولة .. "قرايب" .. ، وهو تصريح يعطي لنا عدة مؤشرات خطيرة، أولها حجم ظاهرة المحسوبية في مصر، وهي ظاهرة اجتماعية ثقافية، فكل شخص يسعى لتوظيف أقاربه، ويتمكن من ذلك، بغض النظر عن الكفاءة أو الاستحقاق، وبذلك تكونت لدينا على مر السنوات مشكلة إدارية ضخمة ككتلة الخيط المعقدة، لا يستطيع الجن حلها، حيث أصبح الجهاز الإداري للدولة إذا نظرت إليه من بعيد أشبه بعائلة واحدة.
تصريح الوزير صحيح إلى حد ما، وإن كان تجاهل "المعارف"، فلو أضافهم لارتفع الرقم عدة ملايين، وتجاهل أيضا "أصحاب المصالح والأتباع والمؤيدين" فلو أضافهم سيرتفع عدة ملايين أخرى.
ولكن إذا علمت أن العاملين بالقطاع الحكومي عددهم 4.5 مليون موظف، ستكتشف أن معظم موظفي مصر أقارب ومحاسيب، .. شبكة من الروابط الاجتماعية والمنافعية العجيبة التي تشبه الجرثومة التي تتغذى على الجسد، وتعيق نموه.
تعيين القريب عادة اجتماعية كالعنف الأسري، والثأر، وإطلاق النار في الأفراح، وتزويج الصغيرة قبل الكبيرة، .. الوظائف في مصر في كثير من الأحيان تورث كالمال والعقار ، فالرجل من حقه في بعض الأحيان أن يعين ابنه في المصلحة الحكومية التي يعمل بها، وهو حق اكتسبه عن طريق العرف، أو المجاملة، أو الواسطة التي أصبحت بديهة اجتماعية.
تتساوى في ذلك المهن الإدارية والفنية .. حتى المهن الإبداعية مثل التمثيل، والغناء، والتقديم التلفزيوني، والصحافة، والاعلام، وكتابة الأغاني، والسيناريو، والإخراج التلفزيوني والسينمائي أصبحت تورث، فالفنان الكبير ينجب بالطبع فنانين .. يمثلون بمجرد أن تلدهم أمهم، والمطرب الكبير لابد أن يصبح ابنه مطربا حتى لو كان صورته نشازا ، وكاتب السيناريو الكبير، عندما يتوفى يواصل الابن رسالة أبيه ويعمل في نفس المهنة، حتى لو كان لا يعرف القراءة والكتابة .
الواسطة الوظيفية تزيد في القطاع الحكومي عن الخاص، وتتركز في قطاعات محددة، كالبترول والاعلام، فإذا أخذت مقطعا جغرافيا عشوائيا من مبنى التلفزيون المصري مثلا ستكتشف أن نسبة الأقارب به أعلى النسب في الدولة، وكان لذلك بالطبع آثار وخيمة .
الأثر المباشر لذلك ضياع ملايين من الفرص على أكفاء ومبدعين حقيقيين في كافة المجالات حرمتهم الواسطة من العمل، واستتبع ذلك شغل عدة ملايين من الوظائف الحكومية بموظفين ضعيفي القدرات، وفي بعض الأحيان عديمي القدرات.
هذه المشكلة هي سبب ترهل الجهاز الوظيفي للدولة، وضعفه وفشله في الانتاج، وأيضا الخسائر التي تقدر بالمليارات التي يحققها هذا القطاع، ولعلك يمكن أن تعرف ملمحا من حجم الخسائر إذا عرفت أن ديون بعض المؤسسات الصحفية القومية وصلت إلى خانة المليار، وأن ديون التلفزيون المصري "ماسبيرو" وحده بلغت 10 مليارات جنيه.
نحتاج إلى نظام جديد للخدمة المدنية، يمنح الوظيفة للأكفأ، ويعتبر توظيف من لا يستحق خيانة عظمى.