عندما بدأت الكتابة قبل 30 عاما، كان هناك انطباع سائد لدى البعض أن "المخدرات" محرك أساسي للإبداع، كان البعض يتحدث عن المبدع الكبير (...) ، الذي كان لا يكتب إلا إذا تعاطي كرسيين حشيش.
لا أدرى من أين أتت هذه الفكرة اللعينة، ربما ساعد على رواج ذلك أن بعض المبدعين كانوا بالفعل يتعاطون المنكرات، فالمبدع بشر يخطيء ويصيب، ومن المحتمل أن يكون لتاريخ الشعر العربي ـ الذي حفل في بعض عصوره بالمجون ـ دور.
كان هذا الانطباع سائدا وبقوة، تماما كما يعتقد المدمنون ـ حتى الآن ـ أن المخدرات تساعد على الشعور بالنشوة، والسلطنة، والقوة الجنسية .
كان يحلو للبعض أن يجمع بين الأدب، والتشرد، والصعلكة، وأحيانا التمرد، والخروج على السلطة والقوانين .. لماذا لست أدري، ربما للقاعدة النقدية الكاذبة التي علموها لنا في كلية الآداب، وهي أن "المعاناة" مقوم رئيسي للإبداع، والتي نتجت عن الجهل بماهية الإبداع الشعري.
كان البعض يربط المبدع بالبوهيمية، وعدم الهندام، والانفلات الأخلاقي .. لماذا لست أدري، وكان عليك لو أردت أن تكون مبدعا حقيقيا ـ في نظرهم ـ أن تكون منكوش الشعر، منفلتا ، تحدق في السماء كالمجنون.
كان البعض يصور كتابة الشعر كنوع من السحر، أو الجذب، أو الوحي، أو التهويمات، ووصل الأمر بالبعض إلى الربط بينه وبين إبليس، عندما نسبوا إلهام الشعر إلى "شيطان الشعر".
ساعد على انتشار هذه الصورة الذهنية القبيحة للمبدع الأفلام السينمائية القديمة التي كانت تقدمه سواء أكان مطربا أو مؤلفا أو ملحنا وهو يعاقر الخمر، ويرافق النساء، وعندما جاءت الأفلام الحديثة لم تقدمه بصورة أفضل، حيث قدمته انتهازيا، فوضويا ، يكتب الأغاني الهابطة، ويوظف قلمه لمن يدفع أكثر.
لذلك ظهرت لدينا في العصر الحديث أنماطا غريبة من المبدعين، تفصل بينهم وبين أعمالهم مئات من الأميال الضوئية، يقدمون بالفعل الإبداع، ولكنهم مصابين بانفصام في الشخصية، يدعون المثالية، وهم أبعد ما يكونون عنها، يحاضرون عن الأخلاق، وينتهكونها في السر .
الإبداع في الأساس فعل عاقل، بل عاقل جدا، لأنه يستلزم اجتماع مجموعة من الحواس لا يمكن أن تجتمع إلا في عاقل، فالكتابة سمة إنسانية جميلة، وعاقلة، وصادقة ومنتبهة جدا.
الإبداع فعل أخلاقي، لأنه في معناه اللفظي إيجاد الشيء من عدمٍ ، أي إيجاد شيء غير مسبوق بمادة أو زمان، وهذه المهمة لا تتيسر إلا لقلة اصطفاها الله.
المبدع الحقيقي أقرب الناس إلى الله، لأنه يرى حكمته وخلقه وإبداعه، كالطبيب الذي يرى كل لحظة في جسد الإنسان عظمة الله، وإبداعه المعجز.. هو أشبه بالباحث في قدره الله، يكتشف كل يوم آيات منها في أي من فنون التعبير المختلفة، والإبداع درجة عالية من التفكر والتدبر الذي أمرنا به الله.
الأخلاق شرط أساسي للإبداع ، فمن التزم بها أهلا وسهلا به ، ومن لم يلتزم يروح في 60 داهية ، وكما يقول الشاعر "إذا كان الطباع طباع سوء .. فلا أدب يفيد ولا أديب".