بعد انتهاء ولاية الرئيس الأميركي جورج بوش الأب (1989 ـ 1993)، تمت دعوته عام 2001 لحضور مؤتمر اقتصادي، كنت بحكم عملي الصحفي حاضرا في المؤتمر الذي كان فرصة لي للقاء شخصيات سياسية عالمية مثل المستشار الألماني هيلموت كول، ورئيس الوزراء البريطاني جون ميجور، والرئيس الأمريكي بيل كلينتون، والرئيس الأمريكي جيمي كارتر، والرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان .
قبل دقائق من المؤتمر الصحفي الذي سيتحدث فيه بوش الأب أعددت سؤالا، وطلبت من مترجم المؤتمر ، وكان شابا مصريا سريع البديهة أن يطرحه على بوش لضمان وصول السؤال إلى الرجل بوضوح.
كان المؤتمر كما يشير عنوانه اقتصاديا، وكان البعض يرى أن تقتصر الأسئلة على أربعة، وبدأت أسئلة الزملاء، وكانت كلها اقتصادية رتيبة تواكب موضوع المؤتمر .
أما أن فقررت الخروج على القاعدة ، فالرئيس بوش الأب ـ مهما اختلفنا عليه ـ بالنسبة للصحفي كنز معلومات لا يجب تجاهله ، وليس من الذكاء أن ألقى سؤالا اقتصاديا على الرجل الذي قاد حرب الخليج الثانية عام 1990، التي حررت الكويت، وقضت على أحلام صدام، ومرت ولايته بالعديد من التحديات والأحداث الجسام .
عندما جاء دوري لطرح السؤال، قام زميلي المترجم بطرح السؤال الذي جاء صادما بكل المقاييس :
السؤال هو : بعد مرور 10 سنوات على حرب الخليج والحصار على العراق، وبالنظر إلى المآسي التي خلفها هذا الحصار .. ألا تعتقد معي أن على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الاختيار بين خيارين : إما الإطاحة بصدام، أو مصالحة صدام ؟
وقع السؤال على الجميع كالصاعقة ، ليس فقط لأنه خارج عن موضوع المؤتمر، ولكن لأنها أول مرة يطرح صحفي فكرة "مصالحة صدام" حتى لو كانت على سبيل الخيار، وتهللت أسارير الرئيس بوش وفقا للتعبير اللغوي، وكأنه غريق ألقيت له بطوق نجاه . وكأن الرجل مل من الحديث في الاقتصاد ، وأثار السؤال الغريب الذي يجمع ين السؤال والرأي شهيته للحديث عن أخطر قرار اتخذته أمريكا والدول العربية وهي قرار تحرير الكويت من الغزو العراقي .
بدأ بوش في الإجابة على السؤال واستطرد في الحديث، وروى ملامح من كواليس حرب الخليج الثانية ، وتحدث عن اتصالاته مع الزعماء العرب وعلى رأسهم الملك فهد، وكان اهتمامه بالحديث واضحا، ربما لكي ينفي عن نفسه التهمة الضمنية التي تضمنها سؤالي، وهي المسؤولية بشكل أو بآخر عن حصار الشعب العراقي أكثر من 10 سنوات.
كان بوش يتحدث، والجميع صامتون ، لأن ما يقوله هو ما يريد كل صحفي معرفته ، وبعد أن أنهى الحوار بادرت بالسلام عليه، فأقدم مبتسما ودار حوار بسيط معه، في هذه الأثناء التقط لنا المصور الصحفي جمال الشاويش صورة تذكارية معه، لازالت تثير جدلا حتى الآن.
وبعد المؤتمر فوجئت باعتراضات الزملاء على طرح هذا السؤال، ومخاوفهم من ردود الأفعال، قال لي محرر سياسي بإحدى الصحف في جدة "التصريحات التي أدلى بها بوش ستكون عناوين الصحف غدا"، وقال آخر "أكيد قناة الجزيرة ستفرد مساحة لهذه التصريحات"، وقال لي ثالث "ربنا يستر"، فشعرت بالقلق، وذهبت يومها إلى بيتي، والهواجس تسيطر علي.
بعد فترة من هذا اللقاء بالتحديد عام 2001 تولى جورج بوش الإبن (2001 : 2009) رئاسة أمريكا، وفي عام 2003 حسمت أميركا خيارها، وقررت الإطاحة بصدام حسين، وهو الحدث الجلل الذي كان له تبعات خطيرة على المنطقة العربية، وهو ما جعلني أهجس من حين لآخر، داعيا الله أن لا أكون السبب أو أحد الأسباب ، بعد السؤال الصادم الذي طرحته على والد الرئيس الأمريكي حينئذ "إما الإطاحة بصدام، أو مصالحة صدام؟".
الخلاصة .. سقط صدام، وسقط معه العراق ، ورغم مرور 13 عاما على ذلك، وصل العراق إلى مرحلة أدنى من السقوط، حيث صار بؤرة لأخطر التنظيمات الإرهابية في العصر الحديث .. "داعش" وأخواته .
اليوم نفس السيناريو يتكرر في سوريا، العالم بقيادة أميركا يحاصر سوريا منذ 5 سنوات، ويطالب بإسقاط الأسد، والشعب السوري يعاني، حيث بلغ عدد مشرديه 11 ملايين، وتجاوز عدد لاجئيه 5 ملايين.
السياسة غبية لا تعرف الابتكار، فهي مواقف محددة تتكرر، وسيناريوهات حفظناها عن ظهر قلب، ولكن الساسة لا يتعلمون .. ، والشعوب أيضا لا تتعلم، ما حدث في العراق تكرر بحذافيره في ليبيا، ويتكرر الآن في سوريا.
بعد مرور 5 سنوات على حصار الشعب السوري .. يبرز أمامي نفس السؤال القديم .. السؤال الذي طرحته على الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب منذ 15 عاما بخصوص العراق، وطرحته على الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ، أطرحه اليوم على الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب هو :
السؤال لثالث مرة :
"بعد مرور 5 أعوام على حصار الشعب السوري .. وبالنظر إلى المآسي التي خلفها الحصار .. ألا تعتقد معي أن على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي الاختيار بين خيارين : إما الإطاحة ببشار أو مصالحة بشار ؟.