لكل شخص إهتماماته، ولكل جماعة أولوياتها ، والأولويات تحددها غالبا ثقافة الشخص وبيئته الاجتماعية ، البيئة هي التي تضع هذا هنا ، وتضع هذا هناك ، تحدد لأبنائها أولوياتها .. لا خيار .. حتى لو زعمنا أن لكل شخص الحرية في الاختيار .. البيئة جن يركب الإنسان ، ويتحدث باسمه وصوته رغما عنه .
البعض يحاول أن يتحرر من قيود البيئة والعائلة والمجتمع، ويخط طريقه الخاص، ولكنها محاولة خطرة ، كالسجين الذي يحاول الهروب من سجن الصخرة أشد السجون تحصينا في العالم، .. حتى لو تمكن من الهرب، سيظل هناك دائما الشبح العجوز الذي يقول له افعل هذا، ولا تفعل ذاك .
حتى لو خرج من قريته ، وهاجر إلى الغرب، وأخذ جنسية دولة متقدمة، وعاش في بيئة ثقافية أخرى تعلي من قيمة العِلْم والمخترعات مثل أميركا ، سيظل رأسه زي 60 جزمة يؤمن بالشعوذة والأساطير.
إذا إجرينا استبيانا عن أولويات المواطن العربي الثلاثة، أعتقد أن النتيجة ستكون : الدين ، الجنس، السياسة، أما المواطن الغربي فأولوياته ستكون العمل، السياسة، الدين .
في العالم العربي يحتل الدين مكانة مهمة ، خاصة لدى الفئات الفقيرة والمتوسطة التي تشغل العدد الأكبر من السكان ، الدين هو الخلاص والسلوى للانسان المحروم من أبسط متطلبات الحياة ، والذي يكافح من أول النهار لآخره من أجل الحصول على لقمة العيش ، واتقاء ضربات القدر المتوالية .
وفي بعض الأحيان يتقدم الجنس نظرا للظروف الإقتصادية التي تؤخر الزواج وتعيقه في كثير من الأحيان ، وعندما نقول "الجنس" يندرج تحته "الحب، والشرف، والمرأة" ، ليصبح الترتيب هو الجنس، الدين، السياسة .
أما السياسة فقد كانت خارج اهتمامات المصري لسنوات طويلة، بسبب الأنظمة الدكتاتورية التي حكمته منذ 100 سنة، ولكن الثورتان اللتان قام بهما في 25 يناير 2011، و30 / 7 / 2013 دفعا السياسة من المرتبة ربما الخامسة أو السادسة إلى الثالثة ، حيث أدرك المواطن أخيرا أن السياسة هي التي تحدد سعر الخبز والأرز وزيت الطعام.
أما في الغرب ، فالمواطن هناك حل مشكلة الجنس ، بطريقة أخلاقية وهي توفر الحياة المرفهة التي تتيح للمرء الارتباط والزواج ، أو بطريقة غير أخلاقية ، بإباحة العلاقات الجنسية ، فتراجع الجنس ، واختفى من الأولويات الثلاثة ، ونَظَراً لتطور التعليم في الغرب تصدر العمل قائمة الأولويات ، حيث آمن الغربي أن العمل هو من سيضمن له استمرار الحياة المرفهة التي يعيشها ، وعندما نقول العمل ، ندرج تحته "التعليم، والوظيفة والصناعة".
أما المرتبة الثانية فكانت للسياسة ، حيث أدى تطور العملية السياسية في الغرب ، والممارسة الديمقراطية الطويلة في زيادة الوعي بالسياسة ، أما المرتبة الثالثة فكانت للدين ، حيث يحتل الدين مكانة لدى الغربيين ، وليس كما نعتقد.
تساءلت كثيرا عن سبب تخلف العالم العربي ، وطرحت العديد من الفرضيات ، فتحدثت مرة عن الحرية ، وأخرى عن الفكر الاقتصادي، ولكن هذه المرة يبرز أمامي عامل جديد ومهم وربما يكون محوريا في قضية التخلف، وهو الأولويات ، فإذا كانت المدخلات تحدد المخرجات ، فإن الأولويات هي التي تحدد التخلف أو الرفاهية .
5 زائد 10 يساوي 15 ، إذا أردت تغيير المجموع يجب أن تغير الأرقام، ولأن الأولويات العربية الثلاثة كانت نتيجتها بعد عدة قرون ثابتة ومؤلمة وهي التخلف ، فلا مفر من تغيير الأولويات، إذا أردنا الخلاص من هذا الواقع المؤلم الذي تتوارثه الأجيال، وهذا لا يعني إهمال الدين ، ولكن بالفهم الحقيقي له، ذلك أننا لو دققنا قليلا سنكتشف أن الدين الحقيقي يتضمن العمل، والتعليم، والوعي، والديمقراطية، والتخطيط، والتقدم.
نهضة أي أمة لا تأتي بالحماس والشعارات الرنانة، ولا حتى بالنيات الطيبة . ولكن تأتي بدراسة نفسية اجتماعية للواقع ، والواقع العربي يؤكد أن البيئة هي المتهم الأول في قضية التخلف ، لأنها هي من فرضت الأولويات التي أفضت إلى هذه النتيجة المؤلمة .
وإذا كنا لن نستطيع تغيير البيئة المثخنة بالعادات والتقاليد التي تملك قوة جبارة هي قوة الدين ، فإن بوسعنا أن نغير الأولويات، وذلك يحتاج إلى قرار يشترك في تنفيذه السلطة والشعب .