بغض النظر عن تقرير صحيفة إيكونوميست عن مصر هل حقيقي أم مفتعل؟، واقعي أم مبالغ فيه ؟، صدر عن نية طيبة، أم عقلية شريرة ، تخطط لضرب الوطن.. ؟، مجرد تقرير اقتصادى لمجلة عملها إصدار التقارير، أم مؤامرة كونية ضد البلاد؟، فهو يطرح قضية مهمة، وهي الرأى الآخر، وطرق التعامل معه.
في هذا العصر العجيب، سيأتيك الرأى .. إيجابا أم سلبا ، حلوا أم مرا؟، صحيحا، أم كاذبا؟، إذا لم يأتي من العدو سيأتي من الحبيب، وإن لم يصدر عن مواطن سيصدر عن أجنبي، إذا أحكمت القبضة في الداخل، سيأتيك من الخارج، في عصر التقنية لا يمكن رفض الفكرة، ومحاصرتها والتعامل معها وفقا لقانون العقوبات.
أقول ذلك لمن خونوا الصحفيين، واتهموا أصحاب الرأى بتهمة لا نجد لها مثيلا في القوانين العالمية، وهي "إشاعة الأخبار الكاذبة"، والتي تنضاف إلى تهم أخرى هلامية لا يمكن الإمساك بها مثل "إهانة القضاء"، و"إهانة الرئيس"، والتي كانت فيما مضي "العيب في الذات الملكية".
أقول ذلك لمن ناصبوا كل صاحب رأى مخالف العداء، وشعارهم "من ليس معنا خائن وعميل وأخوان، وممول بالخارج"، ونسوا أن الحكومة والمعارضة هما جناحا النظام الديمقراطي، وان المعارض يحب بلاده بدرجة لا تقل عن المؤيد، رغم رفضي لهذا التصنيف ، وثقتي بأن المواطن يجب أن يكون مؤيدا إذا وجد ما يستحق التأييد، ومعارضا إذا وجد ما يستحق المعارضة.
أقول ذلك للذين اعتقدوا أن الرأى يمكن أن يباع ويشترى، وأن يزيف، بتوجيه برامج التوك شو، وشراء الصحف والمجلات، وتخصيص الكتائب الألكترونية، وإيقاف مواقع التواصل الاجتماعي عند اللزوم، هذه الرؤية القاصرة التي تعيدنا إلى عهد الملكية، حيث كان في كل صحيفة رقيب يجيز الأخبار.
يجب أن نعترف بإشكالية حرية الرأى في مصر ، لن نتحدث عن المسؤولية في ذلك، زيد أم عبيد؟، الحكومة أم الشعب؟، النظام السياسي، أم الرهاب الاجتماعي العام؟، لكني سأتعامل مع الواقع ، وهو وجود أزمة في التعاطي مع حرية الرأى، حدث ذلك رغم مرور 70 عاما على ثورة مصر الأولى ضد العبودية في 23 يوليو 1952 ، واندلاع ثورتين في 25 يناير 2011 ، و 30 يونيو 2013 ـ اللتين قامتا لنفس الهدف وهو الحرية.
أي نعم هناك من يكتب بحرية، وينتقد دون اتخاذ إجراءات قانونية ضده، هناك من يصرح، وهناك من يلمح، وهناك من يرمز، ومن يحاول أن ينقد بدبلوماسية، ولكن هناك أيضا من منع المصريين من الكلام ، وهناك من توعد كل من يتكلم .
وتبقى المشكلة الأساسية الأهم والأخطر هو اتساع حجم التيار الرافض للرأى الآخر والناقد والمعارض، والمخالف للرأى الرسمي، وهذه برأيى المشكلة الحقيقية .
أتفهم المنعطف الخطر الذي مرت به البلاد خلال حكم الإخوان، والذي جعل البلاد على شفا جرف هار، وشبح البلاد المجاورة التي مزقتها المليشيات، وقاطعو الرؤوس، والشياطين الذين يتآمرون على مصر ، ولكن ذلك كله لا يجب أن يصيبنا بالوسواس السياسي القهري، فنتحول إلى أمة مهزوزة تخاف من مجرد رأى.
لا يهمني صحة تقرير إيكونوميست أم عدم صحته، فتلك مهمة رجال الإقتصاد، ولكن ما يهمني ككاتب وصحفي طريقة التعامل مع الرأى الآخر، وأهمية التعامل مع الرأى ـ أى رأي ـ بالشفافية والموضوعية، والمكاشفة، لا بالتخوين، وإساءة الظن.
ومع ذلك فإن تقرير الصحيفة البريطانية نكأ مجددا قضية حرية الرأى، وأكد مرة أخرى الحقيقة الساطعة التي يتجاهلها البعض، وهي أن حرية الرأى هي الحبل السري للاقتصاد، والتجارة، والصناعة، والسياحة، والتعاون الدولي، والسياسة الخارجية، واستقرار سعر العملة، .. حرية الرأى الحبل السري للمستقبل .