بمعايير التأثير والتوزيع يمكننا القول أن الصحافة العربية ستخرج من التاريخ ـ بعد عمر مديد ـ خاسرة، فمنذ أول صحيفة وهي "الوقائع المصرية" التي صدرت عام 1928، وحتى صحيفة إلهام شرشر "الزمان" التي صدرت 2016 ، لم تنجح الصحافة الورقية في إضافة شيء على صعيد التعليم والتنوير من ناحية، كما لم تترك أثرا من ناحية التوزيع الذي يوصف بالقليل والمحدود وأحيانا المخجل من ناحية أخرى.
لا ننكر الدور الذي قامت به صحافات بعض الدول في نشر الوعي بمجالاته المختلفة، خاصة على صعيد الإخبار والأدب، قبيل إنتشار التلفزيون، ولكن يبقى هذا الدور ضئيلا إذا وضعته بجوار التجارب الصحفية العالمية التي ساهمت في بناء أمم عظيمة، وحضارات باسقة، وقادت ثورات غيرت وجه التاريخ.
إذا اقتربت سترى دور الصحافة كبيرا مجلجلا ، ولكنك إذا ابتعدت ستكتشف أن هذا الدور كان شكليا، وبسيطا بل وضعيفا في بعض الأحيان ، حيث لم يتعدى دور الصحافة في الدول العربية النامية أن تكون أبواقا للأنظمة الدكتاتورية، وإذا وضعت عامل التوزيع ، وهو عامل مهم في تقييم أي صحيفة ستكتشف أن دور الصحافة العربية كان مضحكا بالمقارنة بعدد السكان .
ففي مصر مثلا التي تخطى عدد سكانها الـ 90 مليون، كانت أكبر صحيفة بها وهي "الأهرام" توزع مليون نسخة في عدد الجمعة، أما البقية ، فأقل من ذلك بكثير، حتى أن بعض الصحف توزع 5 آلاف نسخة، في الوقت الذي تبيع أقل صحيفة في الغرب 50 مليون نسخة.
حتى هذا المليون الاستثنائي الذي كانت تحققه "الأهرام" تراجع بلا شك إلى أرقام دنيا بعد تراجع الصحافة المطبوعة ، وظهور منافس خطير وهو الصحافة الألكترونية ، حتى من البعد الإقتصادي لم نسمع أن الصحافة حققت الملايين، على العكس الصحافة القومية المصرية مثلا مثقلة بمبالغ طائلة من الديون.
فما السبب في ذلك ، أعتقد أن هناك مجموعة من الأسباب المتداخلة ، منها ارتفاع نسب الأمية، والجهل، والفقر، وغياب الحرية، وأسباب أخرى متعلقة بالصناعة، وهي كلها عوامل أدت إلى تراجع الصحافة من حيث التأثير والتوزيع .
المشكلة الحقيقية أن العرب مقبلين على خسارة جديدة لن تقل فداحة عن الخسارة التاريخية المدوية في صحافة الورق، وهي خسارة الصحافة الألكترونية، فعلى الرغم من مرور 10 سنوات على ظهور ملامح هذا النوع العجيب من الصحافة ، لازال العرب غائبون عن هذا الميدان الجديد .
فالمتابع للصحف الورقية سنكتشف أن معظمها إما لم يدخل ميدان الصحافة الألكترونية بعد، أو دخل، دخول المضطر، كمن قفز إلى الماء بملابسه، فأصبح يمارس الصحافة الألكترونية بعقلية الصحافة الورقية، أما النوع الثالث فتمكن من تدشين مواقع إخبارية مدعومة بالإمكانات، ولكن نظرا لانعدام الخبرة عانت من التقليدية والشتات.
وفي المقابل برز عدد من المواقع الخاصة المستقلة بالمعنى التجاري التي تمكنت من حصد المتابعين، وتحقيق مداخيل جيدة، ولكن يظل عددها قليلا لا يتعدى أصابع الأيدي الواحدة.
ولكن بنظرة شاملة سنكتشف أن الصحافة الألكترونية الموجودة حاليا تعاني من سلبيات، منها ماهو تقني مثل ضعف التصميم والبرمجة، ومنها ما هو تحريري مثل ضعف التحديث، والتحرير، وندرة القدرات الصحفية.
تأخر العرب كثيرا في استيعاب الواقع الجديد الذي فرضته التقنية ، والذي غير مفهوم الإعلام ، وحول صناعته من صناعة استثمارية برجوازية ضخمة تعتمد على الورق والمطابع إلى صناعة بسيطة وسهلة تعتمد على الأنترنت، ما أدى إلى تأخر وجود كوادر مدربة أو مؤهلة للعمل في هذه الصحافة الجديدة .
ولكن السبب الأهم لتواضع الصحافة الألكترونية برأيي عدم الاعتراف بهذه الصحافة بعد، فرغم أن الصحافة الألكترونية أصبحت واقعا رأى العين، ورغم أنها أصبحت في الغرب موضة قديمة، لازال المؤسسات الرسمية والصحفية تعاند وتكابر ، وتحارب هذا الوافد الجديد بعصي خشبية ، ولعل أحد الأدلة على ذلك أن النقابات الصحفية لا تعترف بوجود هذه الصحافة وترفض ضم العاملين بها.
كل المؤشرات تؤكد أن العرب سيخسرون في الصحافة الألكترونية كما خسروا في الصحافة الورقية ، ستنجح لاشك تجارب هنا، وأخرى هناك .. ولكن المحصلة العامة ستكون صفرا ، ذلك إذا لم ينتبه العاملون في هذه الصناعة بسرعة، ويقفزون بسرعة ـ بملابسهم ـ إلى الماء.