أنا دقيق في عملي لحد المرض ، إذا أردت شيئا أتمسك بتنفيذه كالصعايدة، ورأسي ألف سيف، أريد أن يتم الشيء بحذافيره كما يقولون ، لذلك فإن العاملين معي يعانون كثيرا ، .. ورغم أن ذلك كانت ضريبته الكثير من التعب والجهد والوقت ، إلا أني في النهاية أبتهج عندما أحول الفكرة الهلامية الفانتازية إلي واقع ينبض ويتحرك.
لا أدري هل ذلك عرض نفسي يحتاج العلاج، يشبه وسوسة الموسيقار محمد عبدالوهاب الذي كان مصابا بالوسوسة من الأمراض، وروى عنه أنه من شدة هوسه بالنظافة كان يغسل الصابونة؟، .. أم تراه حالة مخففة من الوسواس القهري الذي يجعل المصابين به مولعين بالدقة .
أم ياترى هذا نوع من الدكتاتورية التي يمارسها البعض لتحقيق ذواتهم، حيث يمارس بعض المدراء التسلط، وإطلاق الأوامر دون وعي أو فائدة، أم السبب ضعف الصنايعية وهي ظاهرة الآن؟، أم هو الابتكار الذي يعني الفكرة الجديدة الخلاقة، والاستكشاف الذي لا يحتاج إلى أداء عادي، ويستلزم التعب والمشقة؟.
أتذكر صاحب مطبعة في كفرالزيات عندما ذهبت لطباعة العدد الأول من نشرة "ضفاف" الأدبية قبل 30 عاما، وكيف قدمت له ماكيت النشرة للطباعة ، وكيف فاجأني الرجل بعمل زنكة للغلاف، وتكبد 10 جنيهات إضافية من عنده لكي يظهر الغلاف بشكل مميز ، وكيف رفضت تنفيذ الغلاف بهذه الطريقة، لأن الأخ الذي قام بتنفيذه نفذه بطريقة يدوية فبدت رسمة الغلاف متعرجة خالية من الاحتراف.
أتذكر كيف حرقت دم الرجل الطيب عندما تمسكت بتنفيذ الغلاف الذي قدمته ، وكيف قال لي وهو يحاول أن يكظم غيظه "إنت الشغل معاك صعب"، وأتذكر في النهاية كيف نجحت النشرة البسيطة المطبوعة بطريقة الماستر، وكتبت عنها معظم الصحف المصرية والعربية في هذا الحين.
أتذكر وأنا أنفذ موقعي الشخصي كيف عذبت المصممين والمبرمجين بكثرة الطلبات والتعديلات، وكيف صاح المبرمج ذات مرة "أنت تطلب المستحيل"، وكيف انتهى الأمر بخروج أول موقع شخصي تفاعلي شامل ، ويضم داخله 5 مواقع، وهو ما يحدث لأول مرة ، على الأقل في المواقع الشخصية.
الدقة أهم عوامل النجاح ، وهو مرتبة أعلى من التنفيذ والكفاءة ، وخصلة أهم من السرعة والوقت ، إذ أن لا فائدة من إنجاز الأمر بسرعة ، بدون دقة في الأداء .
الملاحظ في العالم العربي غياب مفهوم الإبداع في العمل ، لذلك ليس غريبا أن تكتشف الجهات المختصة بعد تسليم مشروع بلدي معين أن الأضرار ضربت فيه بعد شهور من تسليمه .
الكثير من الأعمال تتم بروتينية وعشوائية وهرجلة ، فتخرج جميلة الشكل كما في الماكيتات، ولكنها في الحقيقة خالية من الجودة والفن والابداع ، ورغم أن لدينا تخصص بمسمى براق وهو "مراقبة الجودة" ، لازلنا بعيدين جدا عن مفهوم الإبداع الشامل .
الدقة أول خطوة في الإبداع ، فالفكرة الجديدة تحتاج إلى مبتكر، كما تحتاج إلى أشخاص مؤمنين بها ، والأهم المتخصصين القادرين على التنفيذ بكفاءة وتميز .
وللدقة في العمل مزايا كثيرة ، وهي تقليل الأخطاء ، وتوفير المبالغ التي يمكن أن تنفق على الإصلاح ، وإطالة العمر الافتراضي للعمل ، وهو ما يضاعف التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية له.
سواء اعتبرتَ دقتي في العمل دكتاتورية، أو مرضا نفسيا، أو تسلطا أو وسواسا قهريا .. أنا مدين لهذه الدقة التي ساعدتني على النجاح ، وتنفيذ العديد من الأفكار الجميلة .
ولكن الأبطال الحقيقيون من تحملوا بجلد المهام الصعبة، وتحملوا صخبي وهواجسي ، وقدموا الجهد والوقت لتقديم أعمال جديدة تفيد الناس.