هناك تعبير شعبي مصري بليغ يقول "لا بيرحم ولا بيسيب رحمة ربنا تنزل" ، ورغم أن رحمة الله تنزل رغما عن العبد الحاسد الكاره الحاقد على الآخرين ، ولا يمكن أن يمنعها أحد، فإن هذا التعبير ينطبق على الواقع في كثير من الأحيان.
منذ سنوات عرضت شركة "فيسبوك" على الحكومة المصرية توفير الإنترنت المجاني للآلاف من المصريين الذين تعوقهم ظروفهم الاقتصادية عن الاتصال بالإنترنت ، وذلك وفقا لمبادرة عالمية للشركة لنشر الانترنت المجاني في العالم ، ولكن الحكومة اشترطت أن يكون لها حق الرقابة على هذا الإنترنت لدواعي أمنية ، ورفضت الشركة، وتعثرت المبادرة، وبذلك ينطبق على الحكومة تعبير "لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل".
في إحدى الدول العربية يعتاد الناس التصدق على عمال النظافة، ربما لظروفهم الصعبة، وربما لأنهم مغتربون ويتقاضون رواتب ضعيفة، وسواء كان ذلك بنية الصدقة أو المساعدة أو غيرها ، كان هذا التصرف أشبه بالظاهرة ، فماذا حدث؟ ، يخرج علينا رئيس بلدية إحدى المدن ليهدد عمال النظافة التابعين له، ويحذرهم من الشحاذة، وبذلك ينطبق عليه نفس التعبير الشعبي"لا بيرحم ولا بيسيب رحمة ربنا تنزل".
كاتب مصري لم يعجبه نشر مستخدمي موقع فيسبوك بعض الكتابات الأدبية، والتي لا ترقى ـ من وجهة نظره ـ إلى المستوى الأدبي المطلوب، فكتب مهاجما هذه الظاهرة، داعيا إلى منع هذه الكتابات، وكأن فيسبوك ملك للسيدة والدته، وبذلك ينطبق عليه التعبير "لا بيرحم ولا بيسيب رحمة ربنا تنزل".
وفي التاريخ الاسلامي هناك قصة المرأة التي دخلت النار في هرة ، لأنها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، فماتت، وبالتأكيد ينطبق عليها نفس التعبير "لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل"
وفي الواقع المعاش العديد من الحالات التي ينطبق عليها هذا التعبير الشعبي ، .. حكومات لا تقوم بواجبها تجاه المواطن بتوفير فرص العمل، ثم تطارد ـ ببجاحة ـ الباعة الجائلين الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين يقصدون الرزق الحلال، فهي لم توفر لهم الوظيفة، وفي الوقت نفسه منعتهم من العمل بجهودهم الشخصية، فهم لم يرحموا ولم يسيبوا رحمة ربنا تنزل.
نفس الأمر يحدث عندما نغلق على الشباب سبل العيش الكريم داخل الوطن، في الوقت نفسه نمنعهم من السفر في مراكب الموت .. في الحقيقة الكثير من الناس والمؤسسات والشركات لا بيرحموا ولا بيسيبوا رحمة ربنا تنزل.
البعض يعترض على الجزء الثاني من هذا التعبير الشعبي، والذي يقول "ولا بيسيب رحمة ربنا تنزل" بدعوى أن هذا لا يجوز ، لأن رحمة الله لا يمنعها أحد، وهذا الرأى ـ مع تقديرنا له ـ مردود عليه، فالقائل المجهول لم يقصد ـ كما نعتقد ـ جرح الحس الديني، فهو مجرد تعبير مجازي يؤكد محاولة البعض منع وصول نعم الله، وهو ما يحدث كثيرا، بمشيئة الله، وإن كان يمكننا الخروج من هذا المأذق بتعديل التعبير ليكون "لا بيرحم ولا عاوز رحمة ربنا تنزل".
لازلت أؤكد إنبهاري بالحس الشعبي الجميل الذي أفرز هذه التعبيرات القليلة البسيطة البليغة التي تعبر عن حالات إنسانية تحتاج إلى كتب ومجلدات.