فقدت الحركة الأدبية في مصر واحد من مبدعيها الكبار الذين قدموا سنوات عمرهم في خدمة الشعر والأدب والقيم الجميل، وهو الشاعر والسياسي الكبير فاروق خلف الذي وافته المنية صباح الثلاثاء 28 / 3 / 2017 بدولة الإمارات العربية ودفن هناك.
الحديث عن فاروق خلف لن تسعه مقالة أو تقرير صحفي ، ولكن يحتاج إلى دراسة بحثية شاملة ترصد جهود هذا الرجل ، واسهاماته الخلاقة في مجال الشعر والثقافة في محافظة الغربية خاصة ، وفي مصر عامة، وتجربته الفريدة في الجمع بين الشعر بين المنصب الحكومي والفكر الإبداعي.
مجلة الرافعي إحدى العلامات المضيئة في سجل الراحل ، حيث كان له الفضل في إصدار هذه المطبوعة التي جمعت حولها الأدباء والمثقفين ، وكانت مصدرا للإشعاع الأدبي والثقافي في مصر . كان الراحل أحد رواد قصيدة النثر ، كتبها وأبدع فيها، وقدمها كمولود طبيعي للحداثة والمعاصرة.
فاروق خلف . مواليد مركز بسيون محافظة الغربية في 1939م ..أنهى تعليمه الجامعي في علوم السياسة والاقتصاد بجامعة الإسكندرية، وتدرج في العمل الحكومي حتى تقلد منصب وكيل أول وزارة الشباب والرياضة.
انضم لحزب التجمع بالغربية، وكان من قياداته فترة تواجد قادة اليسار بالغربية الشيخ على خاطر، وأحمد عبده، ومحمد مراد، وعريان نصيف.
أصدر مجلة "الرافعي" وهي أول مجلة مصرية متخصصة في الأدب، فأحيا بذلك ذكرى أديب الغربية الكبير مصطفى صادق الرافعي ، تقلد أمانة ورئاسة العديد من المؤتمرات الأدبية في مصر.
له في العروض العربي كتاب "توصيف الشعر" ، وله في الشعر 22 ديوانا منها : "إرهاق القنديل"، و"الغناء بين يدي الجميلة"، و"أشعار منثورة"، و"وردة النار"، و"استشعار عن بعد"، و"طقوس الرقص والغناء"، و"عيناك محميتان للنوارس"، و"أقود أحجاري"، و"إلا"، و"زرقة لا تكفى حتى الآن"، و"البنت الخضراء تحت الأشعة" وغيرهم كما له الجذور والمنافي رواية شعرية ـ و"مدخل لوصف الشعر" كما كتب في المسرح وله اختطاف ـ بهية ـ ريم.
انتخب في البرلمان المصري "مجلس الشعب" لدورتين متتاليتين من 1985 ـ 1995، وبسبب موقفه المناهض لاعتقال الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر إبان اعتقاله عقب حرب الخليج الثانية حيل بينه وبين تجديد انتخابه، كما أنه أول رئيس لفرع اتحاد كتاب وسط الدلتا لدورتين متتاليتين .
من قصائد الشاعر فاروق خلف الخالدة "هاجس موت "
"مهداه إلى عادل عصمت
أوّل من أبدع هاجس موت"
::::
أنتظرك أيها الموت.. أنتظرك وأعدك لن يكون انتصارك مفاجئًا لي، وعندما نتفاوض.. لا تظن دموعي تكريسًا للهزيمة، إنها رثاء ما لم يكن، ما كنت تريد أن تناله.. سيدي الموت.. سأذكرك، وأنت لن تمر بي بعد ذلك! أنت من جعلني أنقب عن حياتي أدوّن سيرتي وراءك، علّها لا تكون كما كانت.. وترضى غيرى المقيم في كياني.. لك أن تستدعي بلادي، فقد نفضتُ منها يدي هي التي تقيّأتـني، مخاطي ومجدي، أكان بوسعي وحدي إشعال الحياة في جوف الرماد؟ وأحبائي، أنهوا احتساءهم لخمرتي البيضاء وتراوحوا بين الظلال والأشباح.. بين الحيرة وإسقاط ما باليد من حيلة.. تداركتَهم جميعًا.. لك أن تستدعي الجميلة، من تآزر على صنع عيونها شهاب السحاب زرقة البحر ودكنة الجبل فتنة الرعي من تم اغتصابها حتى ظلّها تحت عينيك المستوحشتين، ولم يشفع لها أنها حوّلت الطائرة إلى نسر كسيح، والدبابة إلى حشرة، حين اكتفيت أنت بالرعب في حدثك السردابي منحتَها قدَرَها، قبلة أخيرة، سوّت بعدها شعرها، ومضت طافية على مدّ الماء.. الغربةُ أطول قامة من الإنسان.. من أعمدة الحكمة، ومن أبي الخرافي، وأمي الورعة، ولاّدة الوساوس، وأشقائي العاطلين بالتغيرات الهيكلية.. سيدي الهاجس.. منذ متى وعينيك عليّ..؟! رأيت ظلّك في الأسبوع الماضي، الأخير من آب، ألفين واثنين، أقسى الأسابيع، كان يمشي ورائي، بمنجلِهِ بدقاته الثلاث كطاعن في السن.. أحسستُ كطفل بالخوف من الحرية، فصرختُ في وجهه البنفسجي وأنا أتنبأ بالبقية: أيها الشيخ: دعني أتم بكائي، رأيتُ عقلي المتآمر على صاحبه.. صديقي الذي انشقّ عليّ وناداك قبلي ناداك.. فلم تـجبْ وناداك باسمك العائلي فالتفتَّ إليّ - دعني أحييّ فطنتك، فأنا لم أغادر الطفولة قط - رأيته لا يمسك بشيء على شئ، يضئ البلاد بمصباح صدئ، يحضّر جني الفوات ولا يعرف كيف يصرفه، فيمسخُهُ الجنيُّ إلى ممحاة للبلاد التي تمشي بناسها كالقطيع إلى الذَّبح.. وفي كأسي التالية، رأيت نفسي - أنا البعيد الذي لم يأتِ دورُهُ - كيسًا من الرمل يحمي من يهذي ومن يصفق ومن يهوى جمع طوابع الآلهة.. تداركتنا كلنا، سيدي، ولمّا تـحوّل عينيك عنّا! تسترسل جوانحي كتابةً: دمي جيلاتين ينام في القلب، رأسي مطمورة في التراب، أذني منفضة لسيجارك البليغ، حلقي غصة ليلية.. فيما روحي تترقرق في السراب تنتشي وترتعش لمن أخذتَهُ في أحضانك، ولمن نبشتَ جيبه بـحثًا عن ذخائرِهِ، وقبره بـحثًا عن قرابينِهِ، ولمن غسلتَهُ بالبياض والثلجِ، وهم يتشبثون منك برياح لا يعرفون أين تقيمْ.. هي الذاكرة اللغة، أخونها فتخونني.. ليست سيدة للغناء الشهي، لا قوقعة ولا أيقونة، ليست موجة من الفسفور تعرف زوايا الرقص، وقدرتها على دعوة الأشياء إلى أسمائها تعانق رحلتها القدرية، دورتها الحياتية من الطين إلى الحرية.. أيقنتُ: الحياة لازمة لكشف الغطاء، كما الموت لازم لغطاء الكشفِ.. أنتظرك يا سيد الموقف.. أنتظرك الآن.. ولن أكون سعيدًا لو تـجاوزتني وعبرتَ، فسيكون عليّ انتظارك فيما بعد، فأنا وأنت سهمان متقاطعان فوق حلم، يسكنه الوجود بكل صخبِهِ.. سهم باتجاه التذكّر وسهم باتجاه التحول يحددان أنواع الغدِ.. آه يا صاحبي.. لا أسأل عن اللحظات التي فقدتُها، بل تلك التي بقيت لي كياقوتِ النارِ.. وفي نوبة الحراسة التالية.
تاريخ الإضافة: 2017-04-01تعليق: 0عدد المشاهدات :997